الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المظهر السادس: الاستدراك الفقهي على معقول في التخريج، وتطبيقاته
.
والمقصود بمصطلح التخريج هنا هو ما جرى عليه غالب استعمال الفقهاء، وهو الاستنباط المقيّد، بمعنى بيان رأي الإمام في المسائل الجزئية التي لم يرد عنه فيها نص، عن طريق إلحاقها بما يشابهها من المسائل المروية عنه، أو بإدخالها تحت قاعدة من قواعده (1).
هذا البيان قد يستلزم تأصيل رأي الإمام أولاً بكشف قواعد اجتهاده، وقد يكون بإلحاق جزئيات المسائل بما قُرّر من كليات القواعد، وقد يكون بإلحاق جزئيات المسائل بجزئيات أخرى.
وعليه فالتخريج ثلاثة أنواع: تخريج الأصول من الفروع، وتخريج الفروع من الأصول، وتخريج الفروع من الفروع (2).
وقد توجهت جهود الفقهاء الاستدراكية إلى التخريجات، من ذلك ما أبرزه الباحث/ عشاق؛ حيث قال عن المازري: «
…
ولذلك تتجه كل المبادئ التي اعتمدها في تعقبه على التخريجات والاستقراءات على تدقيق النظر في اللفظ المشتمل على الحكم الأصلي تارة، وعلى تدقيق النظر في استكمال شروط تعدية الحكم منه، ثم النظر في الفرع المخرج: هل يستقيم تخريجه من ذلك الأصل؟ أو تزاحمه أحكام هي أولى بالتخريج منه؟ وهكذا» (3). وقال أيضًا: «يعد نقد التخريج من أبرز صور النقد الفقهي عند المازري» (4).
وهي صورة استدراكية تتكرر كثيرًا في مصنفات منقحي المذاهب.
(1) بتصرف قليل من: التخريج عند الفقهاء والأصوليين دراسة نظرية تطبيقية تأصيلية، يعقوب عبد الوهاب الباحسين، (12).
(2)
يُنظر: التخريج عند الفقهاء والأصوليين، (13).
(3)
منهج الخلاف والنقد الفقهي عند الإمام المازري، (2/ 634).
(4)
المرجع السابق.
كما دعا الفقهاءُ إلى التدقيق في التخريج، من ذلك قول صاحب (حجة الله البالغة): «ولا ينبغي لمخرّج أن يخرج قولاً لا يفيده نفس كلام صاحبه، ولا يفهمه منه أهل العرف والعلماء باللغة، ويكون بناء على تخريج المناط أو حمل نظير المسألة عليها مما يختلف فيه أهل الوجوه وتتعارض فيه الآراء، ولو أن أصحابه سُئِلوا عن تلك المسألة ربما [لا](1) يحملون النظير على النظير لمانع، وربما ذكروا علةً غير ما خرجه هو
…
ولا ينبغي أن يَرُد حديثًا أو أثرًا تطابق عليه القوم لقاعدة استخرجها هو أو أصحابه» (2).
إذا تقرر هذا فإن الاستدراك الفقهي على التخريج يتنوّع بتنوّع التخريج، على النحو التالي:
النوع الأول: الاستدراك الفقهي على معقول في تخريج الأصول من الفروع، وتطبيقاته.
تخريج الأصول من الفروع هو الكشف عن أصول وقواعد الأئمة من خلال فروعهم الفقهية وتعليلاتهم للأحكام (3).
والاستدراك الفقهي عليه هو: تلافي خلل في استثمار فروع الأئمة وتعليلاتهم لاستنباط أصولهم وقواعدهم، بعمل فقهي؛ لإنشاء نفع أو تكميله في نظر المتلافي.
تطبيقاته:
النموذج الأول:
خرّج القاضي (4) أصلاً للإمام أحمد في الأعيان المنتفع بها قبل ورود الشرع أنها على الحظر إلى أن يرد الشرع بإباحتها، من إيماءات للإمام، منها جاء في رواية الأثرم
(1) في النسخة التي عندي بتحقيق سيد سابق، بدون لفظ «لا» ، ويظهر لي أن المعنى المراد يستقيم بها، والله أعلم.
(2)
ولي الله بن عبد الرحيم الدهلوي، (1/ 266).
(3)
يُنظر: التخريج عند الفقهاء والأصوليين، (19).
(4)
تقدم ذكر أنه أبو يعلى. [يُراجع: هـ (2)، ص (141)]
وابن بُدَينا (1)
في الحليِّ يوجَد لقطة، فقال الإمام: إنما جاء الحديث (2) في الدراهم والدنانير. قال القاضي: «فاستدام أحمد التحريم، ومنع الملك على الأصل؛ لأنه لم يرد شرع في غير الدراهم» . فتعقّب أبو البركات ابن تيمية (3)
هذا التخريج قائلاً: «لأن اللقطة لها مالك، فنقلها إلى الملتقط يحتاج إلى دليل، وليس هذا من جنس الأعيان في شيء» (4).
النموذج الثاني:
في (الأشباه والنظائر): «نعم حاول ابن الرفعة (5) تخريج قول الشافعي رضي الله عنه بسد الذرائع من نصه رضي الله عنه في باب (إحياء الموات) من (الأم) إذ قال رضي الله عنه بعد ما ذكر النهي
(1) هو: أبو جعفر، محمد بن الحسن بن هارون بن بدينا، الموصلي. حدث عن الإمام أحمد، وأحمد الضبي، وروى عنه الخلال وصاحبه عبد العزيز. توفي سنة 303 هـ.
[يُنظر: طبقات الحنابلة، (1/ 286). و: المنهج الأحمد، (1/ 335)].
(2)
النص على لقطة الدنانير والدراهم أتى في (صحيح البخاري) أن أبيّ بن كعب رضي الله عنه قال: وَجَدْتُ صُرَّةً عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهَا مِائَةُ دِينَارٍ، فَأَتَيْتُ بِهَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«عَرِّفْهَا حَوْلًا» فَعَرَّفْتُهَا حَوْلًا، ثُمَّ أَتَيْتُ، فَقَالَ:«عَرِّفْهَا حَوْلًا» فَعَرَّفْتُهَا حَوْلًا، ثُمَّ أَتَيْتُهُ، فَقَالَ:«عَرِّفْهَا حَوْلًا» فَعَرَّفْتُهَا حَوْلًا، ثُمَّ أَتَيْتُهُ الرَّابِعَةَ: فَقَالَ: «اعْرِفْ عِدَّتَهَا، وَوِكَاءَهَا وَوِعَاءَهَا، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا، وَإِلَّا اسْتَمْتِعْ بِهَا» . [(3/ 126)، ك المظالم، ب هل يأخذ اللقطة ولا يدعها تضيع حتى لا يأخذها من لا يستحق، رقم (2437). وبنحوه في: صحيح مسلم، (824)، ك اللقطة، رقم (9 - 1723)].
(3)
هو: أبو البركات، عبد السَّلَام بن عبد الله بن أبي الْقَاسِم الْخضر، ابن تيمية، الْحَرَّانِي، مجد الدّين، الْفَقِيه المقرئ المتفنن شيخ الْإِسْلَام، كَانَ جمال الدّين ابْن مَالك يَقُول للشَّيْخ مجد الدّين: أَلين لَك الْفِقْه كَمَا أَلين لداود الْحَدِيد. وَانتهت إِلَيْهِ الإِمَامَة فِي الفِقْه. له: المنتقى، وَالْمُحَرر فِي الْفِقْه، والمسودة فِي الْأُصُول وَزَاد فِيهَا وَلَده ثمَّ حفيده. وله أرجوزة في القراءات. توفي سنة 652 هـ.
[يُنظر: سير أعلام النبلاء، (23/ 292). و: المقصد الأرشد، (2/ 162)].
(4)
المسودة في أصول الفقه، آل تيمية، (2/ 874 - 875). و: القواعد والفوائد الأصولية وما يتعلق بها من الأحكام الفرعية، علي بن عباس بن اللحام البعلي، (108).
(5)
هو: أبو العباس، أحمد بن محمد بن علي، الأنصاري البخاري، المصري، ابن الرفعة، نجم الدين، شيخ الإسلام، شافعي الزمان، تفقه على السديد والظهير التزمنتيين والشريف العباسي، وسمع الحديث من محيي الدين الدميري، وأخذ عنه التقي السبكي، ويرى أنه أفقه من الروياني. وقد ندب لمناظرة ابن تيمية فسئل ابن تيمية عنه بعد ذلك فقال رأيت شيخنا تتقاطر فروع الشافعية من لحيته. له: المطلب في شرح الوسيط، والكفاية في شرح التنبيه. توفي سنة 710 هـ.
[يُنظر: طبقات الشافعية الكبرى، (9/ 24). و: طبقات الشافعية، (2/ 211). و: الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، (1/ 336)].
عن بيع الماء ليمنع به الكلأ، وأنه يحتمل أن ما كان ذريعة إلى منع ما أحل الله لم يحل، وكذا ما كان ذريعة إلى إحلال ما حرم الله ما نصه:«وإذا كان هذا هكذا ففي هذا ما يثبت أن الذرائع إلى الحلال والحرام تشبه معاني الحلال والحرام» (1). انتهى.
ونازعه الشيخ الإمام الوالد رحمه الله وقال: إنما أراد الشافعي رحمه الله تحريم الوسائل؛ لا سد الذرائع، والوسائل تستلزم المتوسل إليه، ومن هذا النوع منع الماء؛ فإنه مستلزم عادة لمنع الكلأ الذي هو حرام، ونحن لا ننازع فيما يستلزم من الوسائل، ولذلك نقول من حبس شخصًا ومنعه الطعام والشراب فهو قاتل له. وما هذا من سد الذرائع في شيء. قال الشيخ الإمام: وكلام الشافعي في نفس الذرائع لا في سدها، والنزاع بيننا وبين المالكية إنما هو في سدها، ثم لخص القول» (2).
النوع الثاني: الاستدراك الفقهي على معقول في تخريج الفروع من الأصول، وتطبيقاته.
تخريج الفروع على الأصول هو البحث عن علل أو مآخذ الأحكام الشرعية لرد الفروع (3) إليها بيانًا لأسباب الخلاف، أو لبيان حكم لم يرد بشأنه نص عن الأئمة بإدخاله ضمن قواعدهم أو أصولهم (4).
(1) الأم - كتاب إحياء الموات، (5/ 101).
(2)
تاج الدين عبد الوهاب السبكي، (1/ 119).
(3)
قول (لرد الفروع إليها) فصل يخرج به التوجيه، فالتوجيه ليس فيه رد فروع.
(4)
يُنظر: التخريج عند الفقهاء والأصوليين، (51).
والاستدراك الفقهي عليه هو: تلافي خلل في رد الفروع إلى علل أو مآخذ، أو في استثمار أصول الأئمة وقواعدهم في رد فروع إليها لم ينصوا عليها، بعمل فقهي؛ لإنشاء نفع أو تكميله في نظر المتلافي.
وكان هذا النوع مقصِداً للمستدركين، من ذلك ما في (تصحيح الفروع): «وتارة يقول: فإن فعل كذا توجّه كذا في قياس قولهم، ويتوجّه احتمالٌ ككذا،
…
فينبغي أن يُحرّر قياس قولهم» (1).
ومن تطبيقاته:
قال صاحب (الفكر السامي) في كلامه عن أصول الإمام مالك: «وقد يقدم القياس على ظاهر السنة، كما في إيجاب الدّلْك (2) في الغسل، فظاهر حديثي ميمونة وعائشة رضي الله عنهما في الصحيح فيهما وصف غسله عليه السلام بدون ذلك، والقياس على الوضوء يقتضي الدلك. هكذا ذكر ابن رشد الحفيد!
والتحقيق أن القياس اعتضد بظاهر القرآن حيث قال: {فَاطَّهَّرُوا} (3)، وزيادة المبنى لزيادة المعنى. وأيضًا فإن تعميم مغابن (4) البدن - الذي هو مجمع عليه - لا يحصل مع قلة الماء إلا بالدلك، فليس فيه تقديم القياس على ظاهر السنة، بل ظاهر القرآن مع القياس على ظاهر السنة وحده» (5).
(1) مع الفروع وحاشية التصحيح، (1/ 12).
(2)
هو الفرك. [يُنظر: معجم لغة الفقهاء، (210)].
(3)
المائدة: 6
(4)
جمع مغبِن، وهي الإبط، وباطن الفخذ من الأعلى عند الحالب. [يُنظر: معجم لغة الفقهاء، (443)].
(5)
(2/ 164).