الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: تأصيل الاستدراك الفقهي من السنة بنصوص خاصة
.
يظهر لي عدم الحاجة إلى الإسهاب بذكر نصوص خاصة في التأصيل من السنة؛ ذلك لأن حياة النبي صلى الله عليه وسلم مليئة بالاستدراكات على الأفعال، وعلى الأقوال، وعلى المفاهيم، وذلك لأنه مكلّفٌ بالإصلاح والبلاغ المُبين، فلا يسكت عن خطأ، ولا يترك الأفهام تسرح مع الأوهام.
ووجه الاستدلال بحال النبي صلى الله عليه وسلم من الإصلاح والبلاغ المبين، هو أن العلماء ورثته في هذا العلم الذي جاء به، وهو قدوتهم في تبليغه والدعوة إليه، فلا سبيل لهم إلا سبيله، قال تعالى:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (1)، وقال سبحانه:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} (2)، ومن هذا التبليغ تبليغ علم الحلال والحرام الذي اختص بعلم الفقه اصطلاحًا.
وبما أن الاستدراك يتوجه إلى القول أو إلى الفعل أو إلى الفهم، فأمثل بنص خاص على كل جهة منها.
من هذه النصوص ما في (صحيح البخاري) بسنده عن سعد بن أبي وقاص (3) رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى رهطًا وسعدٌ جالسٌ، فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم رجُلاً هو أعجبهم إليّ، فقلتُ: يا رسول الله! مالَكَ عن فلان، فوالله إني لأراه مؤمنًا. فقال: أوْ مُسلِمًا.
(1) يوسف: 108.
(2)
الأحزاب: 21.
(3)
هو: أبو إسحاق، سعد بن أبي وقاص، واسم أبي وقاص مالك بن أهيب بن عبد مناف، القرشي الزهري المكي، الأمير، من العشرة، سابع سبعة في الإسلام، ومن الستة أهل الشورى، شهد بدرا والحديبية وسائر المشاهد، مُجاب الدعوة، مشهورٌ بذلك، وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله، جمع له النبي صلى الله عليه وسلم بين أبويه «فداك أبي وأمي» ، من الذين يحرسون النبي صلى الله عليه وسلم في مغازيه، وهو الذي كوف الكوفة ولقى الأعاجم وتولى قتال فارس أمره عمر بن الخطاب رضي الله عنه على ذلك ففتح الله على يده أكثر فارس وله كان فتح القادسية، توفي سنة 56 هـ، وصلى عليه مروان بن الحكم.
[يُنظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب، يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري، (2/ 606). و: سير أعلام النبلاء، (1/ 92)].
ثم غلبني ما أعلم منه فعُدْتُ لمَقالَتِي، وعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قال: يا سعد! إني لأعطي الرجل وغيرُه أحبُّ إليّ منه؛ خشيةَ أن يكُبَّه الله في النار» (1).
ففي هذا الحديث استدرك النبي صلى الله عليه وسلم على سعد رضي الله عنه استدراكين: استدراك على لفظه، واستدراك على فهمه.
أما الاستدراك على لفظه فهو في التعبير عن رأيه في الرجل بلفظ الإيمان عندما قال: «فوالله إني لأراه مؤمنًا» ، فاستدرك عليه الجزمَ بهذا اللفظ - وهو الوصف بالإيمان - فقال:«أوْ مُسلِمًا» . قال في (هدي الساري) في معنى (أوْ) هنا: «هو بسكون الواو على معنى الإضراب، ويجوز أن يكون بمعنى التردد أي لا تقطع بأحدهما» (2). وفائدة هذا الاستدراك التفريق بين إطلاق اللفظين، بالتنبيه على الخطأ في إطلاق اللفظ الأول في هذا المقام. قال النووي: «
…
معناه النهى عن القطع بالإيمان، وأن لفظة الإسلام أولى به، فإن الإسلام معلوم بحكم الظاهر، وأما الإيمان فباطن لا يعلمه إلا الله تعالى» (3).
وأما الاستدراك على فهمه فهو فيما ظنه من أن العطاء دليل محبة وتفضيل، فاستدرك عليه هذا الفهم بقوله:«يا سعد! إني لأعطي الرجل وغيرُه أحبُّ إليّ منه؛ خشيةَ أن يكُبَّه الله في النار» . قال في (فتح الباري): «ومحصل القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوسع العطاء
(1)(1/ 14)، ك الإيمان، ب إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة وكان على الاستسلام أو الخوف من القتل لقوله تعالى {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] فإذا كان على الحقيقة فهو على قوله جل ذكره {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]، رقم (27).
(2)
هدي الساري مقدمة فتح الباري، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، (87).
(3)
صحيح مسلم بشرح النووي، (2/ 181).
لمن أظهر الإسلام تألّفًا، فلما أعطى الرهط وهم من المؤلفة، وترك جُعيلاً (1)
وهو من المهاجرين مع أن الجميع سألوه، خاطبه سعد في أمره؛ لأنه كان يرى أن جُعيلاً أحق منهم؛ لما اختبره منه دونهم، ولهذا راجع فيه أكثر من مرة» (2).
ومن أمثلة الاستدراك على الأفعال، ما في (صحيح البخاري) عن عائشة (3) رضي الله عنها:«أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها امرأة. قال: من هذه؟ قالت: فلانة. تذكر من صلاتها. قال: مَهْ! عليكم بما تطيقون، فوالله لا يمَلّ الله حتى تملّوا. وكان أحبَّ الدين إليه ما داوم عليه صاحبُه» (4).
(1) هو الرجل المُبهم في الرواية، وهو الذي كان أعجب الرجال إلى سعد.
وهو: جعال، وقيل: جعيل بن سراقة الغفاري، وقيل: الضمري، ويقال: الثعلبي، من أهل الصفة وفقراء المسلمين، أسلم قديما، وشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم، أحدا، وأصيبت عينه يوم قريظة، أثنى عليه النبي صلى الله عليه وسلم ووكله إلى إيمانه، وكان يعمل مع المسلمين في الخندق فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد غير اسمه يومئذ فسماه عمرا، فجعل المسلمون يرتجزون ويقولون:
سماه من بعد جعيل عمرا
…
وكان للبائس يوما ظهرا
وشهد المريسيع والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيرًا إلى المدينة بسلامة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين في غزوة ذات الرقاع.
[يُنظر: الطبقات الكبرى، محمد بن سعد بن منيع البصري، (4/ 245). و: أسد الغابة، (1/ 425)].
(2)
(1/ 80).
(3)
هي: عائشة بنت أبي بكر عبد الله بن أبي قحافة عثمان بن عامر، القرشية التيمية، المكية، النبوية، أم المؤمنين، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أفقه نساء الأمة على الإطلاق، الصديقة بنت الصديق، كناها رسول الله صلى الله عليه وسلم أم عبد الله بابن أختها عبد الله بن الزبير. تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وهي بنت ست، وبنى بها وهي بنت تسع بالمدينة منصرفه من غزوة بدر، عرض جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم صورتها في سرقة حرير في المنام لما توفيت خديجة. ولم يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم بكرا غيرها، ولا أحب امرأة حبها، ولم ينزل الوحي في ثوب امرأة سواها، روت عن النبي صلى الله عليه وسلم علما طيبا كثيرا مباركا فيه، وكان أكابر الصحابة يسألونها عن الفرائض، توفيت سنة 57 هـ.
[يُنظر: أسد الغابة، (7/ 205). و: سير أعلام النبلاء، (2/ 135)].
(4)
(1/ 17)، ك الإيمان، ب أحب الدين إلى الله أدومه، رقم (43).
بل علّم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابَه كيف يستدركون على المُستدرِك، بإيراد الاستدراك المُحتمَل، والجواب عنه.
ففي (صحيح البخاري) عن أبي شريح (1) رضي الله عنه: «أنه قال لعمرو بن سعيد (2)
- وهو يبعث البعوث إلى مكة -: ائذن لي أيها الأمير أحدثك قولاً قام به النبي صلى الله عليه وسلم الغدَ من يوم الفتح، سمعتْهُ أذناي، ووعاه قلبي، وأبصرته عيناي حين تكلم به. حمِدَ اللهَ وأثنى عليه، ثم قال: إن مكة حرمها اللهُ، ولم يحرمها الناسُ، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دمًا، ولا يعضِدَ (3) بها شجرة، فإن أحدٌ ترَخّصَ لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقولوا: إن الله قد أذن لرسوله، ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار، ثم عادت حرمتُها اليوم كحرمتها بالأمس، وليُبَلِّغ الشاهدُ الغائبَ» (4).
(1) هو: أبو شريح، خويلد بن عمرو، وقيل: عمرو بن خويلد. وقيل: كعب بن عمرو. وقيل: هانئ بن عمرو، بن صخر بن عبد العزى، الخزاعي الكعبي العدوي. أسلم قبل فتح مكة وكان يحمل أحد ألوية بني كعب بن خزاعة يوم فتح مكة. توفي سنة 68 هـ.
[يُنظر: الطبقات الكبرى، (4/ 295). و: الاستيعاب، (4/ 1688)].
(2)
هو: أبو أمية، عمرو بن سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد مناف، المدني القرشي الأموي، المعروف بالأشدق. وهمَ من زعم أن له صحبة، وإنما لأبيه رؤية، ولي إمرة المدينة لمعاوية ولابنه، استخلفه عبد الملك بن مروان على دمشق لما سار ليملك العراق، فتوثب عمرو على دمشق، وبايعوه، فلما توطدت العراق لعبد الملك، وقتل مصعب، رجع، وحاصر عمرا بدمشق، وأعطاه أمانا مؤكدا، فاغتر به عمرو، ثم بعد أيام، غدر به، وقتله سنة 70 هـ.
[يُنظر: سير أعلام النبلاء، (3/ 449). و: تهذيب الكمال، (22/ 35). و: تقريب التهذيب، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، (736). و: فتح الباري، (1/ 198)].
(3)
أي: يقطع. [يُنظر: لسان العرب، (10/ 182)، مادة (عضد). و: النهاية في غريب الحديث والأثر، (3/ 251). و: تاج العروس، (8/ 385)، مادة (عضد).].
(4)
(1/ 32)، ك العلم، ب ليبلغ الشاهد الغائب قاله ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، رقم (104).
ومحل الشاهد قوله: «فإن أحدٌ ترَخّصَ لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقولوا: إن الله قد أذن لرسوله، ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار، ثم عادت حرمتُها اليوم كحرمتها بالأمس» حيثُ أورد استدراكًا محتملاً، وعلّمهم بما يستدركون به عليه.
وهذه الحوادث وغيرها فيها تأصيل للاستدراك منهجًا في التقويم والنقد والبيان، في الأقوال وفي الأفعال وفي الفهم، ويتبيّن منها أنه أصل في التوجيه والتبليغ والإصلاح، والأعمال الفقهية مفرد من المفردات التي يتوجه إليها هذا المنهج (1).
(1) وللاستزادة، فقد جمع الباحث/نايف بن سعيد بن جمعان الزهراني استدراكات النبي صلى الله عليه وسلم في التفسير، في الباب الأول من رسالته الموسومة بـ (في التفسير في القرون الثلاثة الأولى - دراسة نقدية مقارنة).