الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والمقصود بهذا التنويع النظر إلى الاستدراك الفقهي من جهة ارتباطه بالأفعال المُستدرَك عليها فقهيًّا، فالمُستدرَك عليه هنا مُتعلَّق حسّي.
وتمظهر التنويع بهذا الاعتبار في عدة مظاهر، تحصّل لي منها المسائل التالية:
المسألة الأولى: الاستدراك الفقهي على التصرف في الفتوى والاستفتاء، وتطبيقاته
.
والمقصود بالاستدراك الفقهي على الفتوى هنا هو باعتبارها صناعة، وليس باعتبارها قضية فقهية تتكون من موضوع ومحمول؛ لأن هذا الاعتبار الأخير تشترك فيه الفتوى مع باقي القضايا الفقهية، وقد نوقشت أوجه الاستدراك الفقهي عليها في مباحث سابقة.
وكذلك الاستدراك على الاستفتاء المقصود به تلافي الخلل في منهجيته.
وقد دعا الفقهاء إلى الاستدراك الفقهي على الفتوى باعتبارها صناعةً، بتلافي خلل المنهجية في إصدارها وتطبيقها.
من ذلك أنّ الباجي حدّث أنه أُخبر عن فقيه كبير اشتهر بالحفظ والتقدم أنه كان يقول مُعلنًا من غير تستر: إن الذي لصديقي عليَّ إذا وقعت له حكومة أن أفتيه بالرواية التي توافقه. وحكى قصة فيها هذا المنهج في الإفتاء.
قال الباجيّ: لو كان تكرر عليهم إنكار الفقهاء لمثل هذا لما طولبوا به، ولا طلبوه مني ولا من سواي، وهذا مما لا خلاف فيه بين المسلمين ممن يعتد به في الإجماع أنه لا يجوز ولا يسوغ لأحد أن يفتي في دين الله إلا بالحق الذي يعتقد أنه حق، رضي بذلك من رضيه، وسخطه من سخطه (1).
ومن ذلك قول صاحب (صناعة الفتوى وفقه الأقليات): «وما أحوجنا في هذا الأوان لضبط الفتاوى، التي تراوحت بين شدّة في غير موضعها، وسهولة في غير محلها؛ فاستحالت السهولة إلى تساهل، والشدة إلى غلو وتنطع، وإنما ذلك ناشئ عن عدم
(1) نقل الكلام والقصة الشاطبي في: الموافقات، (4/ 506 - 507).
الإلمام بأصول الفتوى عند الأوائل من مجتهدين ومقلدين؛ فانتحل صفة المجتهد من نزل عن درجة المقلد البصير، واستنسر البُغاث واستبحر الغدير» (1).
تطبيقاته:
النموذج الأول: الاستدراك على منهج التخيّر من الأقوال.
في (ترتيب المدارك): «قال موسى بن معاوية (2): كنت عند البهلول بن راشد (3)، إذا أتاه ابن أشرس (4)،
فقال له: ما أقدمك؟ قال نازلةٌ؛ رجل ظلمه السلطان فأخفيته، وحلفت بالطلاق ثلاثاً ما أخفيته. قال له البهلول: مالك يقول: إنه يحنث في زوجته. قال ابن أشرس وأنا سمعته يقول، وإنما أردت غير هذا. فقال: ما عندي غير ما تسمع. قال: فتردد إليه ثلاثة. كل ذلك يقول البهلول قوله الأول، فلما كان في الثالثة أو الرابعة قال له: يا ابن أشرس، شر ما أنصفتم الناس؛ إذا أتوكم في نوازلهم قلتم: قال مالك. فإذا
(1) عبد الله بن المحفوظ بن بيه، (5).
(2)
هو: أبو جعفر، موسى بن معاوية، الصمادحي، المغربي الإفريقي، الإمام المفتي، كان ثقة مأمونا، عالما بالحديث والفقه، قال عنه سحنون: ما جلس أحد أحق منه بالفتوى. أدرك في رحلته جماعة، منهم: الفضيل بن عياض، وجرير بن عبدالحميد، ووكيع. وروى عن موسى: محمد بن وضاح، وأبو سهل فرات، ومحمد بن سحنون طائفة.
لم يذكر له الذهبي وفاة ولم أعثر له على تاريخ وفاة.
[يُنظر: سير أعلام النبلاء، (12/ 108)].
(3)
هو: أبو عمرو، البهلول بن راشد، من أهل القيروان، سمع من مالك والثوري، دون الناس عنه جامعاً، وقام بفتياهم، وسمع منه سحنون وخالد بن يزيد وأبو سنان ويحيى بن سلام وغيرهم من بعدهم، وروى عنه القعنبي. توفي سنة 183 هـ.
[يُنظر: ترتيب المدارك، (3/ 87). و: الديباج المذهب مع نيل الابتهاج، (100)].
(4)
هو: أبو مسعود، عبد الرحيم بن أشرس، ثقة فاضل، من مالكية أفريقية، سمع من مالك بن أنس ومن ابن القاسم، وروى عنه ابن وهب وجماعة. قال سحنون: كان علي بن زياد خير أهل أفريقية في الضبط للعلم، وكان ابن أشرس أحفظ على الرواية، وكان شديد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. لم أعثر له على تاريخ وفاة.
[يُنظر: ترتيب المدارك، (3/ 85). و: الديباج المذهب مع نيل الابتهاج، (152)].
نزلت بكم النوازل طلبتم لها الرخص، الحسن يقول: لا حنث عليه. قال ابن أشرس: الله أكبر! قلدها الحسن أو كما قال» (1).
النموذج الثاني: الاستدراك على منهج استعمال (لا أدري).
عن سليمان بن يسار (2) قال: «كنت أقسم نفسي بين ابن عباس وابن عمر، فكنت أكثر ما أسمع ابن عمر يقول: لا أدري. وابن عباس لا يرد أحدًا. فسمعت ابن عباس يقول: عجبًا لابن عمر ورده الناس! ألا ينظر فيما يشك؟ فإن كانت مضت به سنة قال بها، وإلا قال برأيه» (3).
وقال صاحب (الاتجاهات الفقهية) مُستدركًا على الإكثار من قول «لا أدري» : «ولكن الإكثار من هذا القول، وبخاصة فيما يمكن أن يُعلم، وفيما تتطلبه احتياجات الناس - يجعل ذلك الاتجاه قاصرًا عن الوفاء بهذه الاحتياجات، فينصرف الناس عن المحدّثين، ويحملهم على أن يولوا وجوههم شطر من يستطيعون الإجابة عن أسئلتهم، وتلبية مطالبهم، ومن يمتازون بسرعة الفصل فيما نزل، وفيما يستجد من النوازل،
ولعل هذا الموقف من المحدثين كان من أسباب انصراف الناس عن فقههم، ولولا ظهور محنة ابن حنبل، وما هيأته له من مكانة ما قصد للفتوى هذا القصد، وما اهتم أحد بجمع فقهه ونشره بهذا الاهتمام.
(1)(3/ 86).
(2)
هو: أبو أيوب، وقيل: أبو عبد الرحمن وأبو عبد الله، سليمان بن يسار، المدني، الفقيه، الإمام، عالم المدينة ومفتيها، مولى أم المؤمنين ميمونة الهلالية، وقيل: كان مكاتبا لأم سلمة، ولد في خلافة عثمان، وكان من أوعية العلم بحيث إن بعضهم قد فضله على سعيد بن المسيب. توفي سنة 107 هـ.
[يُنظر: الطبقات الكبرى، (5/ 174). و: سير أعلام النبلاء، (4/ 444)].
(3)
تذكرة الحفاظ، (1/ 38).
ولقد أكثر المحدثون من قول «لا أدري» ، وتناقلوا أن قولها نصف العلم، حتى نقل عن أبي حنيفة أنه شنع عليهم ذلك، كما شنعوا عليه بكثرة المسائل، فقال: يكفي المرء أن يقول «لا أدري» مرتين حتى يستكمل العلم» (1).
من جانب آخر يستدرك صاحب (تلبيس إبليس) على بعض المتفقهين عدم اعتمادهم قول «لا أدري» في مكانها قائلاً: «ومن ذلك إقدامهم على الفتوى وما بلغوا مرتبتها، وربما أفتوا بواقعاتهم المخالفة للنصوص، ولو توقفوا في المشكلات كان أولى» (2).
النموذج الرابع: الاستدراك على ترك الاستفصال من المستفتي عند إجمال سؤاله.
في (إعلام الموقعين): «والمقصود التنبيه على وجوب التفصيل إذا كان يجد السؤال محتملا، وبالله التوفيق. فكثيرًا ما يقع غلط المفتي في هذا القسم، فالمفتي ترد إليه المسائل في قوالب متنوعة جدًّا، فإن لم يتفطن لحقيقة السؤال وإلا هلك وأهلك، فتارة تورد عليه المسألتان صورتهما واحدة وحكمهما مختلف، فصورة الصحيح والجائز صورة الباطل والمحرم، ويختلفان بالحقيقة، فيذهل بالصورة عن الحقيقة، فيجمع بين ما فرق الله ورسوله بينه، وتارة تورد عليه المسألتان صورتهما مختلفة وحقيقتهما واحدة وحكمهما واحد، فيذهل باختلاف الصورة عن تساويهما في الحقيقة، فيفرق بين ما جمع الله بينه، وتارة تورد عليه المسألة مجملة تحتها عدة أنواع، فيذهل وهمه إلى واحد منها، ويذهل عن المسئول عنه منها، فيجيب بغير الصواب، وتارة تورد عليه المسألة الباطلة في دين الله في قالب مزخرف ولفظ حسن، فيتبادر إلى تسويغها،
(1)(287).
(2)
(117).
وهي من أبطل الباطل وتارة بالعكس فلا إله إلا الله! كم ههنا من مزلة أقدام ومجال أوهام؟ ! » (1).
النموذج الخامس: الاستدراك على التعجل في إصدار الفتوى.
وفي هذا الشأن نصوص كثيرة منها:
في (سير أعلام النبلاء): أن أبا حصين الأسدي (2) قال: «إن أحدهم ليفتي في المسألة لو وردت على عمر بن الخطاب لجمع لها أهل بدر» (3).
وفي (دليل السالك إلى موطأ الإمام مالك):
وبعضهم يظن أن السرعهْ
…
براعةً وجَودة في الشّرعهْ
وإنّ مَن أبطأ حيث سئِلا
…
عن الجواب للعلوم جهِلا
وهْو لأَن يبْطؤَ للصوابِ
…
خيرٌ من السرعة في الجواب
إذْ قد يضِلُّ ويُضِلُّ السائلا
…
وذاك شأن من يكون جاهلا
كذاك من يُفتي بلا مراجعهْ
…
وشدة التحرير والمطالعهْ. (4)
النموذج السادس: الاستدراك على الجمود على أقوال الأقدمين في المستجدات والنوازل.
في (قواعد الأحكام): «
…
لأن الناس لم يزالوا على ذلك، يسألون من اتفق من العلماء من غير تقييد بمذهب، ولا إنكار على أحد من السائلين، إلى أن ظهرت هذه المذاهب ومتعصبوها من المقلدين، فإن أحدهم يتبع إمامه مع بُعد مذهبه عن الأدلة؛
(1)(2/ 514).
(2)
هو: أبو حصين، عثمان بن عاصم بن حصين، وقيل: بدل حصين زيد بن كثير، الأسدي الكوفي، الإمام الحافظ، وكان قليل الحديث وكان صحيح الحديث. توفي سنة 128 هـ.
[يُنظر: سير أعلام النبلاء، (5/ 412). و: تهذيب الكمال، (19/ 401)].
(3)
(5/ 416).
(4)
مع حاشيته إضاءة الحالك، (90).
مقلدًا له فيما قال، كأنه نبي أرسل إليه، وهذا نأيٌ عن الحق، وبعدٌ عن الصواب، لا يرضى به أحد من أولي الألباب» (1).
ويقول صاحب (الفكر السامي) رادًّا على هذا الاتجاه: «وليس مالك أو الشافعي أو أبو حنيفة برسل بعثوا كلّ إلى قطر أو مملكة لا تجوز مخالفتهم
…
أو لهم في أرض الله مناطق نفوذ لا يعدوها غيرهم
…
ويحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا، وشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم ليست شريعة جمود وآصار
…
، ولا هي شريعة مانعة للأمة من الترقي والتطور مع الأحوال، بل شريعة صالحة لكل زمان وكل مكان وكل أمة
…
، وذلك لا يتأتى مع الجمود؛ لأن العالم كله متغير ومتطور،
…
وقد أفتى بعض علماء أفريقية بجواز المعاملة الفاسدة إذا عم الفساد. نعم ما هو صريح القرآن والسنن المتواترة أو المجمع عليها أو الصحيحة التي اتفقت الأمة على العمل بها وتأييدها فلا سبيل للخروج عنه، وكذلك ما لم تحوجنا إليه ضرورة للخروج عنه من قول راجح أو مشهور» (2).
النموذج السابع: الاستدراك على التنقل بين المُفتين في المسألة الواحدة بغير حاجة.
في (ترتيب المدارك): «وذكر ابن اللباد (3):
أن رجلاً سأل البهلول عن مسألة، فأجاب فيها،
(1)(2/ 371).
(2)
(4/ 240 - 241).
(3)
هو: أبو بكر، محمد بن محمد بن وشاح، اللخمي، مولاهم الإفريقي، عرف بابن اللباد، العلامة مفتي المغرب، تلميذ يحيى بن عمر، وعليه عول، سمع من جميع الشيوخ الذين كانوا في وقته كأبي بكر بن عبد العزيز الأندلسي المعروف بابن الخراز، وحبيب بن نصر، وأحمد بن يزيد وأبي الطاهر محمد بن المنذر الزبيدي، وزيدان، وغيرهم. وعليه تفقه أبو محمد بن أبي زيد، وتخرج به أئمة. صنف (عصمة الأنبياء) و (كتاب الطهارة) و (مناقب مالك) .. منعه بنو عبيد من الإقراء والفتيا إلى أن توفي في 133 هـ.
[ينظر: سير أعلام النبلاء، (15/ 360). و: الديباج المذهب مع نيل الابتهاج، (249)].