الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الرابع: الاستدراك على المستدرِك، وتطبيقاته
.
صورته: أن يستدرك فقيه على عمل فقهي، ثم يبدو خللٌ في هذا الاستدراك فيُتلافى بعمل فقهي آخر، وهذا المستدرك الثاني قد يكون فقيهًا آخر، وقد يكون هو نفس المُستدرِك الأول، وقد يكون هو الفقيه المُستدرَك عليه أوّلاً.
وعليه فلا تكتمل صورة هذا النوع بأقل من ثلاثة أعمال فقهية، والزيادة عليها مفتوحة.
وفائدته: عدم التسليم لكل استدراك بالصحة، وإنما العبرة بمضمون الاستدراك، كما يفيد أن الاختلاف في المسائل أمر طبيعي لا يُحسم في كثير من المسائل، وأن لدى المُخالف وجهًا قد يخفى على مُخالفه.
لما كان الاستدراك الفقهي تلافيًا في نظر المُتلافي، فإن غير المُتلافي أو نفس المتلافي في وقت ما بعد الاستدراك يُخالف في كون ما استُدرِك به تلافيًا، ولهذا برزت ظاهرة الاستدراك على المُستدرِك، وهذه الظاهرة ألقت بأبعادها على الفقه الإسلامي نموًّا وتقارُبًا وتحريرًا، وظهر فيه الحوار الإيجابي في أعلى صوره تكاملاً في الجهود، وكشفًا لمدارك الأحكام، وإظهارًا لأوجه الاستدلال المتنوعة من دليل واحد، واستثمارًا لدلالات النصوص ومفاهيمها، مما لم يكن ليظهر - غالبًا - لولا اختلاف وجهات النظر، الذي تمثل في الاستدراكات الفقهية.
وإنما تكون الاستدراكات على الاستدراكات بهذه النتائج الإيجابية إن كانت قد قامت على الوجه الإيجابي، من مراعاة لمعايير الاستدراك، ومن تلمّس الحق بالتحرر من قيود الحمية السلبية للمذهب، وللرأي الشخصي.
تطبيقاته:
النموذج الأول: في (صحيح مسلم) بسنده عن أنس رضي الله عنه قال: «جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ (1) إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ لَهُ - وَعَائِشَةُ عِنْدَهُ -: يَا رسول الله! الْمَرْأَةُ تَرَى مَا يَرَى الرَّجُلُ في
(1) هي: أم سليم، الغميصاء، ويقال: الرميصاء. ويقال: سهلة. ويقال: أنيفة. ويقال: رميثة. بنت ملحان بن خالد بن زيد بن حرام، الأنصارية الخزرجية، اشتهرت بكنيتها، أم خادم النبي صلى الله عليه وسلم: أنس بن مالك رضي الله عنه، من عقلاء النساء، شهدت: حنينا، وأحدا. مات زوجها مالك بن النضر، ثم تزوجها أبو طلحة زيد بن سهل الأنصاري، خطبها مشركاً فلما علم أنه لا سبيل له إليها إلا بالإسلام أسلم وتزوجها، وحسن إسلامه، فولد له منها غلام كان قد أعجب به فمات صغيراً فأسف عليه، ثم ولدت له عبد الله بن أبي طلحة فبورك، فيه وهو والد إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة الفقيه وإخوته، وكانوا عشرة كلهم حمل عنه العلم.
[يُنظر: الاستيعاب، (4/ 1847). و: أسد الغابة، (7/ 229). و: سير أعلام النبلاء، (2/ 304)].
الْمَنَامِ، فَتَرَى مِنْ نَفْسِهَا مَا يَرَى الرَّجُلُ مِنْ نَفْسِهِ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ: يَا أُمَّ سُلَيْمٍ فَضَحْتِ النِّسَاءَ، تَرِبَتْ يَمِينُكِ. فَقَالَ لِعَائِشَةَ:«بَلْ أَنْتِ فَتَرِبَتْ يَمِينُكِ. نَعَمْ، فَلْتَغْتَسِلْ - يَا أُمَّ سُلَيْمٍ - إِذَا رَأَتْ ذَاكِ» (1).
تحليل الاستدراك:
العمل الفقهي الأول: سؤال أم سليم رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وسلم عن أمر خاص بالنساء يُستحيا من ذكره عادةً.
العمل الفقهي الثاني: وهو الاستدراك الأول، وهو استدراك أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها على أم سليم رضي الله عنها سؤالَها عن مثل هذا، بالإنكار عليها، ورأت فيه فضيحة للنساء، ولا ينبغي السؤال عنه لهذا السبب. فلو أُقرّت على رأيها لأدى إلى تلافي العمل الفقهي الأول وهو مشروعية سؤال المرأة عن شؤونها الخاصة التي يُستحيا منها - عادةً - إذا تعلق به حكم شرعي.
العمل الفقهي الثالث: - وهو الاستدراك الثاني - هو استدراك النبي صلى الله عليه وسلم على استدراك عائشة رضي الله عنها، بإقراره للعمل الفقهي الأول، وإجابته عما سألت عنه أم سليم رضي الله عنها.
(1)(152)، ك الحيض، ب وُجُوبِ الْغُسْلِ عَلَى الْمَرْأَةِ بِخُرُوجِ الْمَنِىِّ مِنْهَا، رقم (29 - 310).
النموذج الثاني: في (صحيح مسلم) بسنده عن طاووس (1)
(1) هو: أبو عبد الرحمن، طاووس بن كيسان، الفارسي، ثم اليمني الحميري الجندي، الحافظ الفقيه القدوة عالم اليمن ومن سادات التابعين، مستجاب الدعوة.
قال: جالست خمسين من الصحابة، وكان رحمه الله عالماً متقناً، خبيراً بمعانى كتاب الله تعالى، وجلوسه إلى ابن عباس أكثر من جلوسه لغيره من الصحابة، ويأخذ عنه في التفسير أكثر مما يأخذ عن غيره منهم، فهو من رجال مدرسته بمكة، توفي بمكة سنة 106 هـ.
[يُنظر: سير أعلام النبلاء، (5/ 38). و: التفسير والمفسرون، محمد حسين الذهبي، (1/ 85)].
(2)
هو: أبو سعيد، وأبو خارجة، زيد بن ثابت بن الضحاك بن زيد بن لوذان، الخزرجي، النجاري الأنصاري. شيخ المقرئين، والفرضيين، مفتي المدينة، كاتب الوحي، قرأ على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن بعضه أو كله، وتلا عليه ابن عباس، وأبو عبد الرحمن السلمي، وغير واحد. وكان عمر بن الخطاب يستخلفه إذا حج على المدينة، وهو الذي تولى قسمة الغنائم يوم اليرموك، تعلم كتابة اليهود بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، استصغره رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر. أمره أبو بكر الصديق بجمع القرآن في الصحف فكتبه فيها، فلما اختلف الناس في القراءة زمن عثمان واتفق رأيه ورأي الصحابة على أن يرد القرآن إلى حرف واحد وقع اختياره على حرف زيد، توفي سنة 45 هـ.
[يُنظر: الاستيعاب، (2/ 537). و: سير أعلام النبلاء، (2/ 426)].
(3)
هي أم سُليم، كما في الروايات الأخرى للقصة، يُنظر مثلاً: صحيح البخاري، (2/ 180)، ك الحج، ب إذا حاضت المرأة بعدما أفاضت، رقم (1758 وَ 1759). و: مسند الإمام أحمد، أحمد بن محمد بن حنبل، (45/ 415)، رقم (27427)، و:(45/ 419)، رقم (27432).
(4)
(601)، ك الحج، ب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض، رقم (381 - 1328).
تحليل الاستدراك:
العمل الفقهي الأول: فتوى ابن عباس رضي الله عنهما بأنْ لا وداع على الحائض. وهذا مقيّد بما إذا طافت للإفاضة، كما في قصة أم المؤمنين صفية (1) رضي الله عنها وليس هذا القيد هو محل الاستدراك في العمل الفقهي الثاني.
العمل الفقهي الثاني: - وهو الاستدراك الأول - وهو استدراك زيد بن ثابت رضي الله عنه على ابن عباس رضي الله عنهما مخالفته لعموم الأمر بأن يكون آخر عهد الحاج الطواف بالبيت.
العمل الفقهي الثالث: - وهو الاستدراك الثاني - استدراك ابن عباس رضي الله عنهما على استدراك زيد رضي الله عنه بأن هذا العموم مُخصَّص بالحائض فلا يشملها.
النموذج الثالث: استدرك الجويني (2)
على مالك إباحة قتل ثلث الأمة لصلاح الثلثين (3)، حيثُ قال: «
…
وبيان ذلك بالمثال أن مالكًا لما زل نظره كان أثر ذلك تجويز قتل ثلث الأمة مع القطع بتحرز الأولين عن إراقة مِحجمة (4) دم من غير سبب متأصل في الشريعة» (5).
(1) سبقت الإشارة إليها في: هـ (2)، ص (149).
(2)
هو: أبو المعالي، عبد الملك بن الامام أبي محمد عبد الله بن يوسف، الجويني، ثم النيسابوري، الشافعي، ضياء الدين، إمام الحرمين، شيخ الشافعية، النظار الأصولي المتكلم الأديب، له: نهاية المطلب في المذهب، وغياث الأمم في الإمامة، والبرهان في أصول الفقه. توفي سنة 478 هـ
[يُنظر: سير أعلام النبلاء، (18/ 468). و: طبقات الشافعية الكبرى، (5/ 165)].
(3)
يُنظر: البرهان، الجويني، (2/ 1113)، (2/ 1133)، ومواضع أخرى.
(4)
المِحْجَمة: تُطلق على ما يُحتجمُ به وعلى قارورته، والإطلاق الثاني أقرب للمراد بمعنى بمقدار هذه القارورة الصغيرة. والحجامة هي حرفة الحجام، وهي مص الدم من الجرح أو القيح من القرحة بالفم أو بآلة كالكأس. [يُنظر: مادة (حجم) في: لسان العرب، (4/ 47). و: القاموس المحيط، (984). ويُنظر: معجم لغة الفقهاء، (175)].
(5)
البرهان في أصول الفقه، إمام الحرمين عبد الملك بن عبد الله الجويني، (2/ 1206 - 1207).
فقال القرافي مُستدركًا: «
…
وكذلك ما نقله (1) عن الإمام في (البرهان)(2) من أن مالكًا يجيز قتل ثلث الأمة لصلاح الثلثين. المالكية ينكرون ذلك إنكارًا شديدًا، ولم يوجد في كتبهم، إنما هو في كتب المخالف لهم، ينقله عنهم، وهم لم يجدوه أصلاً» (3).
تحليل الاستدراك:
العمل الفقهي الأول: الفتوى بجواز قتل ثلث الأمة لصلاح ثلثيها، المنسوبة إلى مالك.
العمل الفقهي الثاني: - وهو الاستدراك الأول - استدراك الجويني على مالك فتواه بهذا بطريق المصلحة المرسلة (4)، معتمدًا في استدراكه أن هذه مصلحة مُلغاة؛ لأن السلف يتحرزون من القتل، ولا يُريقون دمًا حتى يشهد أصلٌ من الشريعة بجوازه.
العمل الفقهي الثالث: - وهو الاستدراك الثاني - استدراك القرافي على استدراك الجويني، بأن نسبة العمل الفقهي الأول لم تصح إلى مالك، فلا وجه للاستدراك عليه.
النموذج الرابع: جاء في (المنهاج): «ومن اجتمع فيه جهتا فرض وتعصيب كزوج هو معتق أو ابن عم ورث بهما. قلتُ (5): فلو وجد في نكاح المجوس أو الشبهة بنتٌ هي أخت ورثت بالبنوة، وقيل بهما. والله أعلم» (6).
(1) أي الإمام التبريزي، وكلام الإمام القرافي هذا تعليق عليه بعد حكايته.
(2)
البرهان، (2/ 785).
(3)
نفائس الأصول، (9/ 4276).
(4)
«هي إثبات حكم زائد في مسألة مسكوت عنها، لم يقم مقتضى الحكم في زمن الشارع، ولم يسبق لها مماثل معين لتعتبر به، وليست في التعبديات» [أمالي الدلالات ومجالي الاختلافات، ابن بيه، (516). ويُنظر: نفائس الأصول، (9/ 4263). و: إرشاد الفحول، (2/ 270)].
(5)
القائل النووي.
(6)
منهاج الطالبين، (2/ 348).
قال الشربيني معَقِّبًا: «وهذا الاستدراك مُستدرَك إذ ليس مع الأخت في هذه الصورة بنت حتى تكون الأخت مع البنت عصبة، وإنما الأخت نفسها هي البنت، فكيف تعصّب نفسها؟ ! تنبيه: لو ذكر المصنف عبارة (المحرر) (1) لم يحتج إلى هذه الزيادة؛ لأنه قال: «وإذا اجتمعت قرابتان لا يجتمعان في الإسلام قصدًا لم يرث بهما» وذلك يشمل الفرضين والفرض والتعصيب، وإن كان مثاله يخص الثاني، واحترز بقوله «قصدًا» عن وطء الشبهة فإنهما يجتمعان» (2).
تحليل الاستدراك:
العمل الفقهي الأول: صياغة المسألة في (المنهاج) بالتالي: «ومن اجتمع فيه جهتا فرض وتعصيب كزوج هو معتق أو ابن عم ورث بهما» . وهي صياغة النووي لعبارة (المحرر)، ومقصوده من (المنهاج) اختصار (المحرر) مع زيادات واستدراكات (3).
العمل الفقهي الثاني: - وهو الاستدراك الأول - هو قول النووي: «قلتُ: فلو وجد في نكاح المجوس أو الشبهة بنتٌ هي أخت ورثت بالبنوة، وقيل بهما. والله أعلم» . وقد اصطلح النووي في (منهاجه) أن قوله في بداية المسألة: «قلتُ» وفي نهايتها: «والله أعلم» أنها زيادة منه، ليست في (المحرر)(4). وعليه فيُفهم من هذه الزيادة أن ما ذكره من مسألة مُستدرَك على (المحرر)، وهو استدراك على الإطلاق المفهوم من العبارة السابقة، حيث اجتمعت في هذه المسألة المُستدرَك بها جهتا فرض وتعصيب ولكن الإرث كان من جهة واحدة وهي البنوة.
العمل الفقهي الثالث: - وهو الاستدراك الثاني -، وهو استدراك الشربيني على استدراك النووي، واستدراكه جاء في جهتين:
(1) للرافعي.
(2)
مغني المحتاج، (2/ 41).
(3)
يُنظر مقدمة كتاب منهاج الطالبين.
(4)
يُنظر مقدمة منهاج الطالبين.
الجهة الأولى: استدراك علمي، وهو أن المسألة التي استدركها النووي لا يُستدرك بها لعدم موافقتها المسألة الأولى في المعيار، فهي وإن جُمعت فيها جهتا الفرض والتعصيب، فإن التعصيب فيها من نوع العصبة مع غيره، فلا تُعصّب البنت نفسها.
الجهة الثانية: استدراك على الصياغة وهي أن صياغة (المحرر) في هذه المسألة أسلم من صياغة (المنهاج) فيها، إذ لا يُحتاج معها إلى استدراك.