الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نواحي التنوع في الاستدراك الفقهي مثل غيرها في غيره لما كان لتقييد (الاستدراك) بـ (الفقهي) كبير فائدة.
وبعدُ، فأُخصص لكل ناحية مبحثًا على النحو التالي:
تنبيه في التحذير من الاستدراك على الشرع
.
بين يدي هذا المطلب رأيت من تمام الكلام في هذا الاعتبار التنبيه بتحديد الجهات المعتبرة فيه؛ وأنها ما سوى الشرع، فقد تمّ هذا الدين وَحْيًا، وتمّت معه الأحكام تشريعًا، وتمت مقاصدها وقواعدها عدلاً وحكمةً ورحمةً، ومقتضى الإيمان بالتمام التسليمُ بذلك، وعدم الاستدراك على أحكام الله بدعوى النقص، أو بغرض النقض، أو بدعوى تقويم الموازين لتُصبح أكثرَ عدلاً ورحمةً وحكمةً مما هي عليه في التنزيل الحكيم، وفي سنة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، فمن اعتقد أن هدي غير الإسلام أكمل من هدي الإسلام، أو أحسن منه فقد انتقض إسلامه (1).
ويرجع هذا الباب إلى مقدمتين كبيرتين (2):
1 -
الإيمان بأن الله تعالى لا يشرع إلا ما فيه مصلحة عاجلة أو آجلة، ولا ينهى إلا عن ما فيه مفسدة عاجلة أو آجلة، وأنّ الشريعة دلّت على كل المصالح وكل المفاسد، ولم يعزُب شيءٌ من ذلك عنها (3).
(1) يُنظر: مؤلفات الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب - نواقض الإسلام، إعداد: عبد العزيز بن زيد الرومي وَمحمد بلتاجي وَسيد حجاب، (1/ 386).
(2)
من اجتهاد الباحثة، بمراعاة الترتيب المنطقي للنتائج على المقدمات، فمن ظن مصلحةً غائبةً عن التشريع، أو ظنَّ نقصًا في التبليغ - والعياذ بالله - فإن نتيجة التسليم بكمال الشرع، وعدم الاستدراك عليه لن تحصل. عصمني الله وإياك والمسلمين من مضلات الفتن.
(3)
ينظر في بناء أحكام الشريعة على جلب المصالح ودرء المفاسد: قواعد الأحكام في إصلاح الأنام، عبد العزيز بن عبد السلام السلمي، (1/ 39). و: مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي، في مواضع منها:(10/ 512)، (13/ 96)، (20/ 48). و: قسم المقاصد من الموافقات. و: مقاصد الشريعة الإسلامية، محمد الطاهر بن عاشور
…
وغيرها.
وتشهد لهذه المقدمة نصوص كثيرة، منها:{مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)} (1)، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)} (2)، {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)} (3)، وفي صفة النبي صلى الله عليه وسلم:{يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (4).
2 -
الإيمان بتمام البلاغ الذي يترتب عليه الإيمان بتمام هذه الشريعة.
وتشهد لهذه المقدمة نصوص كثيرة، منها:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (5)، ومنها:{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)} (6)، ولا يمكن تصوُّر تمام الشريعة إلا بتمام بلاغها، وتمام البلاغ هو وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم:{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (7).
إذا تقرر هذا فلا يُتصوّر الاستدراك على كامل، ولا على مصدر التعرُّف على المصالح والمفاسد، فضلاً عن أن يقصُر عن تبيين بعضها!
(1) النساء: 147.
(2)
فصلت: 46.
(3)
البقرة: 143. و: الحج: 65.
(4)
الأعراف: 157. أي بكل معروف وكل منكر وكل طيب وكل خبيث، لدخول الألف واللام التي لغير العهد، وهي تفيد العموم في الصحيح عند المحققين في الأصول.
(5)
المائدة: 3.
(6)
الأنعام: 115.
(7)
المائدة: 67.
لذلك كان من مقتضى الإيمان التسليم للشرع، وعدم المراجعة والاستدراك عليه {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)} (1)، {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} (2)، ولذلك يغضب النبي صلى الله عليه وسلم ممن يُراجعه في الأمر التشريعي، ففي (صحيح البخاري): عن عائشة رضي الله عنها قَالَتْ: «كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذَا أَمَرَهُمْ أَمَرَهُمْ مِن الْأَعْمَالِ بِمَا يُطِيقُونَ. قَالُوا: إِنَّا لَسْنَا كَهَيْئَتِكَ يَا رسول الله، إِنَّ الله قَدْ غَفَرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ. فَيَغْضَبُ حَتَّى يُعْرَفَ الْغَضَبُ فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ يَقُولُ إِنَّ أَتْقَاكُمْ وَأَعْلَمَكُمْ بِالله أَنَا» (3).
وبعد هذا التمهيد أدخل في المقصود من تقسيم الاستدراك الفقهي بهذا الاعتبار.
والمقصود بهذا التنويع أننا إذا نظرنا إلى وجوه التلافي من جهة من استُدرك عليه نجد أنها تتنوع بتنوع هذا المُستدرك عليه، وقد يكون المستدرك عليه حقيقةً أو تقديرًا.
وبالتأمل في جملة من استدراكات الفقهاء مع اعتبار القسمة المنطقية تحصّلت لي خمسة أنواع بهذا الاعتبار، أُناقش كل نوع منها في مطلب، على ما سيأتي.
(1) النور: 51.
(2)
الأحزاب: 36.
(3)
(1/ 13)، ك إيمان، ب قَوْلُ النبي صلى الله عليه وسلم أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِالله وَأَنَّ الْمَعْرِفَةَ فِعْلُ الْقَلْبِ لِقَوْلِ الله تَعَالَى {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225]، رقم (20).