الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: تأصيل الاستدراك الفقهي من الكتاب بنص خاص
.
أجلى ما وقفتُ عليه في هذا المقام هو قوله تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} (1).
وحاصل معنى الآية أن داود عليه السلام قضى في قضية قوم لهم حرثٌ أفسدته غنمُ قوم آخرين: أنّ الغنم لصاحب الحرث، ولكنّ سليمان عليه السلام رأى أنّ الحرثَ يُسلَّم لأصحاب الغنم ليعمروه ويُصلحوه، وتُسلّم الغنم لأصحاب الحرث، لهم لبنُها ونفعُها حتى يصلُح حرثهم (2).
والاستدلال بها على مشروعية الاستدراك الفقهي يستقيم بالاستدلال المركب، وهو يتركب من أمرين: تقرير وجه الاستدراك الذي دلت عليه الآية، ثم تقرير الدعوة إلى انتهاجه.
فالأمر الأول أشار إليه المفسرون للآية (3)، وفي (تفسير القرطبي) تصريح بلفظ الاستدراك في نحو حكم سليمان المخالف لحكم أبيه عليهما السلام، حيث قال: «وذهب أبو علي ابن أبي هريرة (4) من أصحاب الشافعي إلى أن نبينا صلى الله عليه وسلم مخصوص منهم (5) في جواز الخطأ عليهم، وفرق بينه وبين غيره من الأنبياء أنه لم يكن بعده من
(1) الأنبياء: 78 - 79.
(2)
يُنظر: تفسير الطبري، (16/ 321، وما بعدها). و: تفسير ابن كثير، (9/ 420، وما بعدها).
(3)
يُنظر: تفسير الطبري، (16/ 328). و: تفسير ابن كثير، (9/ 422، وما بعدها). و: تفسير أبي السعود، (3/ 718).
(4)
هو: أبو علي، الحسن بن الحسين بن أبي هريرة، الإمام القاضي، وانتهت إليه إمامة العراقيين، وكان معظماً عند السلاطين والرعايا، تفقه على ابن سريج وأبى إسحاق المروزي، وشرح مختصر المزني وعلق عنه الشرح أبو علي الطبري، وله مسائل في الفروع. توفي سنة 345 هـ.
[يُنظر: طبقات الشافعية الكبرى، (3/ 257). و: وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، أحمد بن محمد بن أبي بكر بن خلكان، (2/ 75)].
(5)
أي من الأنبياء.
يستدرك غلطه، ولذلك عصمه الله تعالى منه، وقد بُعث بعد غيره من الأنبياء من يستدرك غلطه. وقد قيل: إنه على العموم في جميع الأنبياء، وأن نبينا وغيره من الأنبياء صلوات الله عليهم في تجويز الخطأِ على سواء، إلا أنهم لا يقرّون على إمضائه، فلم يعتبر فيه استدراك من بعدهم من الأنبياء» (1).
أما الأمر الثاني من مركب الاستدلال، فهو في تقرير الدعوة إلى انتهاج هذا الاستدراك، ويُمكن تقرير ذلك من وجهين:
الوجه الأول: ضميمة قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (2)، ففيها الأمر المتوجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بالأنبياء (3)، المُشار إليهم بـ {أُولَئِكَ}
…
بدلالة سباق الآية، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم خطاب لأمته، ما لم يرد مُخصص (4)، ولا مخصص. واستدراك خطأ الرأي بالصواب عملٌ من نبي وهو سليمان عليه السلام فيتوجّه الاقتداء به في ذلك، وتصحيح الخطأ غرض من أغراض الاستدراك الفقهي، وتُقاس عليه باقي الأغراض بجامع التلافي وإقامة الأمر غير المستقيم. والله أعلم.
الوجه الثاني: إن لم يكن في حكاية القصة فائدة العمل بما دلت عليه لكان في حكايتها عبثٌ يُنزّه عنه القرآن؛ فقصص الأولين عبرة لنا، قال تعالى {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} (5)، وثمرة الاعتبار العمل. ومما دلت عليه الآية من العمل
(1) تفسير القرطبي، محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، (11/ 309).
(2)
الأنعام: 90.
(3)
يُنظر: مدارك التنزيل، (1/ 376). و: تفسير ابن كثير، (6/ 109).
(4)
يُراجع في هذه المسألة الأصولية: فواتح الرحموت، (1/ 272، وما بعدها). و: نشر البنود، (1/ 179). و: البدر الطالع، (1/ 357). و: العدة في أصول الفقه، محمد بن الحسين بن الفراء البغدادي، (1/ 318). وغيرها. وعزاه شيخ الإسلام ابن تيمية إلى جمهور علماء الأمة في: فتاويه، (22/ 322).
(5)
يوسف: 111.
استدراك خطأ الرأي بالصواب، وهو من أغراض الاستدراك الفقهي، وتُقاس عليه باقي الأغراض بجامع التلافي وإقامة الأمر غير المستقيم. والله أعلم.