الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول: أثر الاستدراك الفقهي على الاتجاهات الفقهية، وتطبيقاته
.
تمثل هذا الأثر في صور، تحصّل لي منها الصور التالية:
- الأثر التوليدي.
فالاستدراكات الفقهية أثّرت في توليد اتجاهات فقهية من خلال تبادل الاستدراكات بين اتجاهين أو أكثر.
وعند التأمل في المذاهب الفقهية نجد أنها ترجع لجذور الخلاف والاستدراك الذي كان بين الصحابة.
جاء في (الاتجاهات الفقهية): «نستطيع أن نعتبر عصر الصحابة منبع الآراء الفقهية: منه تنبع وتتدفق، ثم تسيل متشعبة في أودية الزمن، مكتسبة في مسيرتها ما اختلطت به من الطبائع والعقول والبيئات
…
ونظرة فاحصة إلى معظم المذاهب الإسلامية بما تمثله من اتجاهات فقهية تؤكد ما نقول، وتكشف عن جذور هذه المذاهب الممتدة إلى عصر الصحابة - رضوان الله عليهم - تمتص منه حياتها، وتتلمس فيه البراهين على صحتها، واستقامة طريقها، وتستأنس به لما تذهب إليه» (1).
وقد درس الباحث/ محمد عيد استدراكات الصحابة في الكتب الستة، ودرس أثر كل استدراك على المذاهب الفقهية، مما ثبت معه تطبيقيًّا أثر الاستدراكات في نشأة الاتجاهات الفقهية (2).
ومن الاتجاهات التي درسها صاحب (الاتجاهات الفقهية) - اتجاهًا متولّدًا عن الاستدراكات - اتجاهُ (فقه المحدّثين) حيث قال: «ومن النتائج الهامة التي أسفر عنها الصراع بين المحدثين وخصومهم بروز فقه المحدثين وظهوره إلى الوجود، مستقلاًّ عن مذاهب الفقهاء، متميّزًا عنهم، شاقًّا لنفسه طريقًا لا تنتسب لأحد غير المحدثين» (3).
(1)(140).
(2)
في رسالته الوسومة بـ: كشف الغطاء عن استدراكات الصحابة النبلاء رضي الله عنهم بعضهم على بعض من خلال الكتب الستة جمعًا ودراسة.
(3)
(121).
وقال في موضع آخر: «وفي عصر أحمد بن حنبل، وبتأثيرات التيارات النقدية، وحدّة الصراع الفكري، وعنف محنة خلق القرآن، وصلابة أحمد بن حنبل فيها - برز فقه المحدثين، ووجد التربة الصالحة لنموه ونضجه» (1).
ويُمكن تطبيق هذا الأثر أيضًا على ما جاء به الشافعي، الذي والفَ بين اتجاه أهل الأثر في الحجاز، واتجاه أهل الرأي في العراق، حيث استدرك على الفريقين، وأبرزَ اتجاهًا يجمع بين الرأي والأثر، وذلك واضح في (رسالته).
- الأثر التقاربي.
قال في (الاتجاهات الفقهية): «كما ينبغي أن نتنبه إلى أن اللقاءات التي كانت موجودة في القرن الأول لم تنقطع في هذا القرن (4)، بل كانت دائرتها متصلة، وكثيرًا ما أنتجت هذه اللقاءات مناقشات ومناظرات كانت ذات أثر لا يُنكر في تقارب الأفكار،
(1)(127).
(2)
هو: محمد بن أحمد أبو زهرة، من أكبر علماء الشريعة الإسلامية في عصره، تربى بالجامع الأحمدي وتعلم بمدرسة القضاء الشرعي، وأصدر من تأليفه أكثر من 40 كتابا، منها: تاريخ الجدل في الإسلام، والملكية ونظرية العقد في الشريعة الإسلامية، وخلاصة أحكام الأحوال الشخصية والوصايا والمواريث، وهذه كتبها إجابة لطلب معهد القانون الدولي بواشنطن، وترجمت إلى الانجليزية. ووتواريخ مفصلة ودراسة فقهية أصولية للائمة الأربعة) فأخرج لكل إمام كتابا ضخما: أبو حنيفة، مالك، الشافعي، ابن حنبل. توفي سنة 1394 هـ.
[يُنظر: الأعلام، (6/ 25)].
(3)
الشافعي حياته وعصره - آراؤه وفقهه، محمد أبو زهرة، (79).
(4)
أي القرن الثاني الذي سياق كلام المؤلف له من ص (54).
والاطلاع على ثمرات العقول المختلفة؛ فأبو حنيفة يلتقي مع الأوزاعي ويناقشه
…
ويناظر مالكٌ أبا حنيفة حتى يعرق من المناظرة معه، ويقول لليث: إنه لفقيه يا مصري. ويزامل الليثُ بن سعد مالكًا في الدراسة، ويتلقى عمن تلقى عنه، ثم يسافر إلى العراق، ويرى أبا حنيفة يجيب عن مسألة فيصوّر الليثُ انطباعه لهذه الإجابة بقوله:«والله ما أعجبني صوابُه كما أعجبتني سرعة جوابه» ، ثم يعود الليث إلى مصر. كما يلتقي أبو يوسف بمالك، ثم يتتلمذ محمد بن الحسن عليه، ويروي عنه الموطأ، ويعلق عليه من وجهة نظر مدرسته، ويتعلم الشافعي بمكة والمدينة، ثم يلتقي بمحمد بن الحسن، ويأخذ عنه، ويناظره، ويرحل أسد بن الفرات إلى مالك ويسمع منه، ثم يذهب إلى العراق، فيلقى أبا يوسف ومحمد بن الحسن، وقد ذكر القاضي عياض أن أبا يوسف أخذ عنه موطأ مالك» (1).
ويذكر التأثير التقاربي للمناظرات على الاتجاهين فقال: «فإذا عيب على أهل الرأي أنهم لا يشتغلون برواية الحديث فقد نفعهم هذا النقد، وحاولوا أن يسدوا هذه الثغرة، فاشتغلوا برواية الحديث على يد أبي يوسف ومحمد بن الحسن، وإذا عيب على أهل المدينة أنهم لا يعطون العقل حريته في التصور وفرض الفروض، فقد سلموا عمليّا بذلك، وامتلأت كتبهم من بعد بالفروع المقدرة والفروض الممكنة، سواء في الفقه المالكي والفقه الشافعي» (2).
وسجّل صاحب (الفكر السامي) أيضًا هذا الأثر فقال: «ولكن لما انتقلت العاصمة إلى بغداد نقل بنو العباس علماء جلة من الحجاز إلى العراق لنشر السنة، منهم ربيعة بن أبي عبد الرحمن ويحيى بن سعيد (3) وهشام بن عروة،
(1)(74 - 75).
(2)
(76). ويُنظر: (121) منه.
(3)
هو: أبو سعيد، يحيى بن سعيد بن قيس، الأنصاري الخزرجي النجاري المدني القاضي، الإمام، عالم المدينة في زمانه، وشيخ عالم المدينة، وتلميذ الفقهاء السبعة. عنه اشتهر حديث «إنما الأعمال بالنيات» ، حتى يقال: رواه عنه نحو المئتين. أقدمه المنصور العراق، فولاه قضاء الهاشمية. توفي سنة 143 هـ.
[يُنظر: تهذيب الأسماء واللغات، (1/ 712). و: سير أعلام النبلاء، (5/ 468)].
ومحمد بن إسحاق (1) صاحب (المغازي)، وغيرهم، فعند ذلك بدأ امتزاج مذهب العراق بمذهب الحجاز، وتقاربا، ثم زاد التقارب برحلة أصحاب أبي حنيفة كأبي يوسف ومحمد بن الحسن إلى مالك، والأخذ عنه، كما أن أفكار العراقيين انتقلت مع هؤلاء، وقبلهم أيضًا برجوع ربيعة بن أبي عبد الرحمن من العراق للمدينة، فزالت النفرة شيئًا ما» (2). وقال عن (الموطأ):«وقد اعتدل الحنفية لما رحلوا إليها وأخذوها» (3).
- الأثر التباعدي.
هذا أثر نتج عن الاستعمال السلبي للاستدراكات، وذلك عندما يكون القصد منها نصرة المذهب أو رأي الإمام وليس الوصول إلى الحق، ويقول في هذا صاحب (الاتجاهات الفقهية):«غير أن هذه المذاهب شرعت تتباعد برجالها، وتتجافى بالقائمين عليها، والمنتسبين إليها، ببدء شيوع فكرة التقليد للمذاهب، والتعصب لرجاله، والمناظرات التي اتخذت قاعدتها أن تعرف الحق بالرجال، لا أن تعرف الرجال بالحق، مما جعل التنافس المذهبي يستعر، والتنابز بالألقاب ينتشر كالوباء الباسط جناحيه على أفق العالم الإسلامي، لا يكاد ينجو منه أحد إلا من عصم الله» (4).
(1) هو: أبو بكر، وقيل: أبو عبد الله، محمد بن إسحاق بن يسار بن خيار، القرشي المطلبي مولاهم المدني، العلامة الحافظ الإخباري، صاحب السيرة النبوية، هو أول من دون العلم بالمدينة، وذلك قبل مالك وذويه، خرج من المدينة فأتى الكوفة والجزيرة والري وبغداد فأقام بها حتى مات سنة 150 هـ.
[يُنظر: سير أعلام النبلاء، (7/ 33). و: الطبقات الكبرى، (7/ 321)].
(2)
(2/ 110).
(3)
(2/ 116). ويُنظر: الشافعي حياته وعصره - آراؤه وفقهه، (79).
(4)
(76).
- الأثر الاستمراري.
فالاستدراكات الفقهية مثّلت عاملاً مهمًّا في بقاء الاتجاهات الفقهية وعدم اندراسها.
وقد سجّلت (الموسوعة الفقهية الكويتية) هذا فقالت: «وَالْحَقُّ أَنَّ بَقَاءَ مَذْهَبٍ مَا أَوِ انْتِشَارَهُ يَعْتَمِدُ - أَوَّلاً وَقَبْل كُل شَيْءٍ - عَلَى ثِقَةِ النَّاسِ بِصَاحِبِ الْمَذْهَبِ وَاطْمِئْنَانِهِمْ إِلَيْهِ، وَعَلَى قُوَّةِ أَصْحَابِهِ وَدَأْبِهِمْ عَلَى نَشْرِهِ وَتَحْقِيقِ مَسَائِلِهِ وَتَيْسِيرِ فَهْمِ هَذِهِ الْمَسَائِل بِحُسْنِ عَرْضِهَا» (1).
فتحقيق المسائل وتيسير عرضها يلازمه الاستدراك على رواياتها الضعيفة، أو المناقشة النقدية لمدركها، أو منهج عرضها وترتيبها.
وفي (الفكر السامي) قال - مبيّنًا أثر إهمال الاستدراك الفقهي على المذاهب -: «إن عدم تنقيح كتب الفقه هو من موجبات هرمه أيضًا لا سيما في المذهبين الحنفي والمالكي، إذ كان فيهما مجتهدون متفاوتون كثيرون، فلا تزال مسائلهما متشتتة في كتب الفتاوى، فالمفتي محتاج إلى مراجعة أسفار كثيرة ونظر عميق، وربما وجد المسألة في غير مظنتها، فإذا لم يكن له حفظ وباع ومزيد اطلاع، وراجع في الفتوى الواحدة جميع الباب التي منه كباب البيوع في مسألة من البيع، فإنه يقع في الغلط والشغب لا محالة» (2).
- الأثر التجديدي.
بمعنى تجديد النظر في أصول الاتجاهات وفروعها.
فالاستدراكات الفقهية أثّرت في إبراز مواضع الخطأ أو النقص في الاتجاهات لدى أصحابها، فيكرّوا عليها بالإصلاح تنقيحًا وتحريرًا.
(1)(1/ 40).
(2)
(4/ 226).
طبّق ذلك صاحب (الفكر السامي) على محمد بن الحسن حيث قال: «وأخذُه عن مالك كبح جماحه عن التغالي في الرأي، فأدخل بسبب ذلك تعديلاً كبيرًا على أهل الرأي، ثم كذلك احتكاكه بالشافعي لما كان بالعراق» (1).
وقد سجّل الباحث/ عشاق هذا الأثر من خلال دراسته لمناظرات مالكية العراق والقيروان مع أصحاب المذاهب الأخرى قائلاً: «كما كانت لمناظرات مالكية العراق والقيروان مع أصحاب المذاهب الأخرى أثر جلي في تشربهم للحس النقدي الذي كرّوا به على أصول المذهب وفروعه تنقيحًا وتحريرًا» (2).
(1)(2/ 209).
(2)
منهج الخلاف والنقد الفقهي عند الإمام المازري، (1/ 11).