الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: الأساليب المعنوية للاستدراك الفقهي، وتطبيقاتها
.
وأعني بها ما يدل على استدراك فقهي، ولكن ليس بطريق صريح، بل بطريق ضمني، يُفهم من دلالات خارجة عن النص، ويُساعد في معرفة هذا الأسلوب:
- التتبع التاريخي للخلاف الفقهي، من انقسامه إلى فريق أهل الرأي وأهل الحديث، ثم إلى المدارس الفقهية، فلا تخلو كتب كل فئة من استدلال أو تقرير يُستدرَك به ضِمنًا على المُخالف.
- معرفة الشخصيات الفقهية التي عُرف بينها الترادّ والاختلاف في الرأي.
ودلالة هذا الأسلوب دلالة ظنية، تقوى وتضعُف لدى الباحث حسب قرائن الحال المُحيطة بالنص الفقهي.
في (الاتجاهات الفقهية) عن آراء البخاري في (صحيحه): «لكن البخاري في هذه المواضع التي يبدي فيها رأيه، لا يعني بالضرورة أن يقصد الرد على أهل الرأي، وإنما نسبة ذلك إليه اجتهاد وظن، راجع إلى الباحثين، لا نستطيع أن ننسبه صراحة إليه. أما الذي يمكن نسبته إليه، فهو ما صرح فيه بالرد على مخالفيه، الذين أطلق عليهم (بعض الناس) في (صحيحه)، أو ناقشهم في مؤلفات خاصة» (1).
وهذه تطبيقات لبعض الأساليب المعنوية:
النموذج الأول: تقرير الاستدلال بالنصوص تقريرًا مُشعِرًا بالردّ.
روى البخاري في (صحيحه): عن سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«فِيمَا سَقَت السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا الْعُشْرُ وَمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ» (2).
(1)(579).
(2)
(2/ 126)، ك الزكاة، ب الْعُشْرِ فِيمَا يُسْقَى مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ وَبِالْمَاءِ الْجَارِي وَلَمْ يَرَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي الْعَسَلِ شَيْئًا، رقم (1483).
ثم روى بعده حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَيْسَ فِيمَا أَقَلُّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ (1) صَدَقَةٌ، وَلَا فِي أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةٍ مِنْ الْإِبِلِ الذَّوْدِ (2) صَدَقَةٌ، وَلَا فِي أَقَلَّ مِنْ خَمْسِ أَوَاقٍ (3) مِنْ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ» (4).
قال السندي (6) مُعلّقًا: «ومراده الرد على أبي حنيفة حيث أخذ بإطلاق حديث ابن عمر
…
، فأشار إلى أنه حديث مبهم، يفسره حديث أبي سعيد» (7).
النموذج الثاني: إيراد قول من يعتد به في المذهب بعد نصٍّ مما يُشعر بميل سائق القول بمضمون القول المسوق.
في (مختصر خليل) في الوقت المختار لصلاة المغرب: «وَلِلْمَغْرِبِ غُرُوبُ الشَّمْسِ تُقَدَّرُ بِفِعْلِهَا بَعْدَ شُرُوطِهَا» . بمعنى أنه يجوز تأخيرها بقدر فعلها - وهو الركعات
(1) الوسق: «مكيال قدره حمل بعير = أو ستون صاعا = سعة 165 لترا» . [معجم لغة الفقهاء، (502)].
(2)
الذود: من الثلاثة إلى العشرة، وقوله:«من الإبل» بيانٌ للذود. [يُنظر: فتح الباري، (3/ 323)].
(3)
جمعُ أوقية، وهي معيار للوزن، يختلف مقدارها باختلاف الموزون، وأوقية الفضة: أربعون درهما، ودرهم الفضة يساوي 975، 2 غ، وعلى هذا فأوقية الفضة = 119 غ. [يُنظر: معجم لغة الفقهاء، (97)].
(4)
(2/ 126)، ك الزكاة، ب بَاب لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ، رقم (1484).
(5)
السابق، نفس الجزء والصفحة.
(6)
هو: أبو الحسن، محمد بن عبد الهادي التتوي، السندي، نور الدين، فقيه حنفي عالم بالحديث والتفسير والعربية، أصله من السند ومولده فيها، وتوطن بالمدينة، له: حاشية على سنن ابن ماجه، وحاشية على صحيح البخاري، وحاشية على سنن النسائي، وحاشية على البيضاوي، وغيرها. توفي سنة 1138 هـ.
[يُنظر: الأعلام، (6/ 253)].
(7)
حاشية السندي على صحيح البخاري، محمد بن عبد الهادي السندي، (1/ 501).
الثلاث - مضافًا إليه قدر تحصيل شروطها من طهارتي الحدث والخبث واستقبال القبلة وستر العورة، وزِيد الأذان والإقامة (1).
قال في (التاج والإكليل): «فِيهَا: وَقْتُ الْمَغْرِبِ غُرُوبُ الشَّمْسِ لَا تُؤَخَّرُ. ابْنُ رُشْدٍ: إلَّا لِعُذْرٍ، مِثْلِ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ لِلْمَرِيضِ، وَالْمَطَرِ، وَالْمُسَافِرِ. ثُمَّ قَالَ: فَحَصَلَ الْإِجْمَاعُ أَنَّ الْمُبَادَرَةَ بِالْمَغْرِبِ عِنْدَ الْغُرُوبِ أَفْضَلُ» (2).
فحكاية قول ابن رشد فيه الإرشاد إلى ما تضمه قوله من الاستدراك بالتقييد بالعذر في التأخير.
النموذج الثالث: ذكر لوازم فاسدة للنص مما يُشعر بردّه وأن الصواب خلافه.
حكى في (الاستذكار) أن سعيد بن المسيب والحسن البصري يقولان بغسل الشهيد، وقال:«لا أعلم أحدًا من فقهاء الأمصار قال بقول سعيد بن المسيب والحسن البصري في غسل الشهداء إلا عبيد الله بن الحسن العنبري (3)، وليس ما قالوه من ذلك بشيء» (4).
(1) يُنظر في نص خليل مع شرحه: الشرح الكبير للدردير مع حاشية الدسوقي وتقريرات عليش، (1/ 177 - 178).
(2)
مع مواهب الجليل، (2/ 32).
(3)
هو: عبيد الله بن الحسن بن الحصين بن مالك، العنبري، قاضي البصرة، وخطيبها، وكان محمودًا ثقة عاقلا من الرجال، توفي سنة 168 هـ.
[يُنظر: الطبقات الكبرى، (7/ 285). و: الوافي بالوفيات، صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي، (19/ 244)].
(4)
(5/ 118).
قال: وهذا يدل على خصوصهم، وأنهم لا يشركهم في ذلك غيرهم كما لا يشركهم في شهادة النبي صلى الله عليه وسلم.
قال أبو عمر (3): يلزمه أن يقول في المحرم الذي وقصته ناقته أن لا يفعل بغيره من المسلمين كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم به؛ لأنه قال فيه: «يبعث يوم القيامة ملبيا» (4). وهو لا يقول بذلك» (5).
(1) يظهر لي أن المراد: في ترك غسل شهداء أحد خاصة؛ لأن ابن عبد البر ساق حجة سعيد والحسن في اختصاص شهداء أحد بعدم الغسل أنه كان للشغل في ذلك اليوم ولكثرتهم. [يُنظر: الاستذكار، (5/ 118)].
وهنا يسوق حجة أخرى لمن ذهب مذهبهما.
(2)
جزء من حديث عند البخاري في: صحيحه، (2/ 91)، ك الجنائز، ب الصَّلَاةِ عَلَى الشَّهِيدِ، رقم (1343)، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ثُمَّ يَقُولُ: «أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ؟ » فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ، وَقَالَ:«أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ فِي دِمَائِهِمْ وَلَمْ يُغَسَّلُوا وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ» . ورواه في مواضع أخرى في صحيحه.
(3)
هو ابن عبد البر صاحب الاستذكار.
(4)
جزء من حديث عند البخاري في: صحيحه، (2/ 75)، ك الجنائز، ب الْكَفَنِ فِي ثَوْبَيْنِ، رقم (1265)، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ، إِذْ وَقَعَ عَنْ رَاحِلَتِهِ، فَوَقَصَتْهُ - أَوْ قَالَ فَأَوْقَصَتْهُ - قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ، وَلَا تُحَنِّطُوهُ، وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ؛ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا» . ورواه في مواضع أخرى من صحيحه.
(5)
(5/ 119).
النموذج الرابع: النفي أو الإثبات المشعران بالخلاف مع اعتبار قرائن الحال؛ ويقوى الظنُّ عند شُهرة القول المُخالف.
جاء في (الابتهاج في شرح المنهاج): «وَلَا فَرْقَ فِيْ تَسْمِيَتِهِ صَدَاقَاً وَمَهْرَاً بَيْنَ أَنْ يَكُوْنَ مُسَمَّىً فِيْ العَقْدِ أَوْ وَاجِبَاً بِالوَطْءِ؛ فَقَدْ جَاءَ فِي الحَدِيْثِ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ» (1)،
وَفِيهِ فِي رِوَايَةٍ: «فَإِنْ أَصَابَهَا فَلَهَا الصَّدَاقُ» (2)، وَفِيْ رِوَايَةٍ:«فَلَهَا الْمَهْرُ» (3)» (4).
فالنفي في قوله: «وَلَا فَرْقَ فِيْ تَسْمِيَتِهِ صَدَاقَاً وَمَهْرَاً بَيْنَ أَنْ يَكُوْنَ مُسَمَّىً فِي العَقْدِ أَوْ وَاجِبَاً بِالوَطْءِ» ، ثم استدلاله على صحة هذا النفي يظهَر أنه استدراكٌ على من فرّق بينهما، مما حُكي في كتب الفقه، كما في (أسنى المطالب):«وَقِيلَ الصَّدَاقُ ما وَجَبَ بِتَسْمِيَةٍ في الْعَقْدِ، وَالْمَهْرُ ما وَجَبَ بِغَيْرِ ذلك» (5).
(1) أخرجه الترمذي في: جامعه، (2/ 392 - 393)، ك النكاح، ب ما جاء لا نكاح إلا بولي، رقم (1102)، عن عائشة رضي الله عنها بلفظ:«أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا المَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا، فَإِنْ اشْتَجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ» . وقال الترمذي: هذا حديث حسن.
وصححه الألباني. [يُنظر: إرواء الغليل، (6/ 243)].
(2)
أخرجها الشافعي في: الأم، (6/ 32 - 33)، رقم (2203)، عن عائشة رضي الله عنها بلفظ:«أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَإِنْ أَصَابَهَا فَلَهَا الصَّدَاقُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا» .
والبيهقيُّ بسنده من طريق الشافعي بلفظه في: معرفة السنن والآثار، (10/ 29)، ك النكاح، ب لا نكاح إلا بولي، رقم (13506). وقال:«هَذَا حَدِيثٌ رَوَاهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى، عَنِ الزُّهْرِيِّ وَكُلُّهُمْ ثِقَةٌ حَافظٌ» .
(3)
كما في لفظ الترمذي في الهامش قبل السابق.
(4)
الابتهاج في شرح المنهاج لتقي الدين أبي الحسن علي بن عبد الكافي السبكي (ت: 756 هـ) رحمه الله كتاب الصداق دراسة وتحقيقًا، عبد الحميد بن صالح الكراني، جامعة أم القرى، كلية الشريعة والدراسات الإسلامية - قسم الدراسات العليا الشرعية، 1427 - 1428 هـ، إشراف/ د. ناصر الغامدي، (269)، (ماجستير).
(5)
أسنى المطالب في شرح روض الطالب، زكريا بن محمد بن زكريا الأنصاري، مع حاشية الرملي الكبير، (3/ 200).