الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: آداب الاستدراك الفقهي المتعلقة بالمستدرَك عليه، وتطبيقاتها
.
وتحصّل لي منها:
1 -
الاعتراف بالخطأ عند ظهور الحق، وسرعة الاستجابة، ولو كان المستدرِك أقل منه سنًّا أو علمًا أو كان تلميذًا عنده.
وقد تقدمتْ أمثلة تصلُح لهذا الأدب، كتراجع أبي هريرة رضي الله عنه عن قوله بعدم صحة صيام العبد إذا أصبح جنبًا (2)، وتراجع أبي موسى الأشعري رضي الله عنه لما بلغه استدراك ابن مسعود رضي الله عنه في ميراث بنت الابن مع بنت وأخت (3).
وقال صاحب (الاستذكار) معلّقًا على رجوع أبي هريرة رضي الله عنه عن قوله في صيام الجنب: «وفيه اعتراف العالم بالحق، وإنصافه إذا سمع الحجة، وهكذا أهل العلم والدين» (4).
وفي سرعة الاستجابة حتى ولو كان المستدرِكُ من التلاميذ، أو الأقل سنًّا:
عَنْ طَاوُوس قَالَ: كُنْتُ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ، إِذْ قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: تُفْتِى أَنْ تَصْدُرَ الْحَائِضُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهَا بِالْبَيْتِ؟ ! فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِمَّا لَا، فَسَلْ فُلَانَةَ
(1) درء تعارض العقل والنقل، أحمد بن عبد السلام بن تيمية، (9/ 207).
(2)
ينظر: (463) من هذا الفصل.
(3)
ينظر: (465) من هذا الفصل.
(4)
(3/ 292).
الأَنْصَارِيَّةَ (1)، هَلْ أَمَرَهَا بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: فَرَجَعَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَضْحَكُ وَهُوَ يَقُولُ: مَا أَرَاكَ إِلَاّ قَدْ صَدَقْتَ (2).
قال في (التمهيد): «هكذا يكون الإنصاف، وزيد معلم ابن عباس، فما لنا لا نقتدي بهم والله المستعان» (3).
2 -
الفرح بظهور الحق على لسان الغير.
قال صاحب (أخلاق العلماء): «وذلك أنه واجب عليه أن يحب صواب مناظره، ويكره خطأه، كما يحب ذلك لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه» (4). وهذا من علامات حبّ الحق، والسعي لاستكشافه.
وتقدم قول الشافعي: «ما ناظرتُ أحدًا قط على الغلبة، ووددتُ إذا ناظرت أحدًا أن يظهر الحق على يديه» (5).
3 -
عدمُ الحرص على السرعة في الرد على حساب إتقانه، وطلبُ الإمهال للمراجعة إذا اقتضى الأمر.
فقد يكون المُستدرَك عليه في حالة تُنقص إتقانه في الرد كالغضب أو الانشغال.
ومن نماذج ذلك:
ما حكاه صاحب (الفكر السامي) أن أبا الربيع سليمان
…
الونشريسي (6)
كان يحضر مجلسه
(1) صرّحت الروايات الأخرى أنها أم سليم رضي الله عنها. [يُنظر: فتح الباري، (3/ 588)]
(2)
صحيح مسلم، (601)، ك الحج، ب باب وُجُوبِ طَوَافِ الْوَدَاعِ وَسُقُوطِهِ عَنِ الْحَائِضِ، رقم (381 - 1328).
(3)
(17/ 270).
(4)
محمد بن الحسين بن عبد الله الآجري، (60).
(5)
المجموع، (1/ 68).
(6)
هو: أبوالربيع، سليمان الونشريسي الفاسي، الإمام المقرئ بجامع الأندلس، توفي سنة 705 هـ.
[يُنظر: الفكر السامي، (4/ 70)]
خلف الله المجاصي (1)، وهذا الأخير كان يحفظ (المقدمات) و (البيان والتحصيل) لابن رشد. ونسب أبا الربيع في بعض دروسه مسألة من المسح على الخفين لابن رشد من (التقييد والتقسيم)، فقال خلف الله: والله ما قال هذا ابن رشد قط! ولحسن خلق الشيخ ما غضب ولا احمرّ، بل نزل عن كرسيه وهو يقول: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم. وترك القراءة يومين، وكان الطلبة يحضرون ويتركون الكلام في الموقف إعظامًا للشيخ، وفي اليوم الثالث حضر واجتمع عليه الطلبة، فقال لخلف الله: يا أبا سعيد! تُكذّبني في النقل؟ نصحتك أعوامًا كثيرة فما جزائي إلا هذا! فقال: يا سيدي! إن ابن رشد ما تكلم على الخفين في (مقدماته)، ولا ذكر ذلك في (بيانه). فأخذ الشيخ الجزء الذي وسمه ابن رشد بـ (التقييد والتقسيم)، ودفعه إليه حتى رأى فيه ما نقله عنه، فقبّل حينئذ يده، واعتذر، فقبِل عذره (2).
4 -
تحمّل فظاظة العبارات الصادرة من المستدرِك.
ويصلحُ لهذا نموذج أبي الربيع سليمان الونشريسي مع خلف الله المجاصي، المحكي في الأدب السابق.
5 -
إبداء الاهتمام بكلام المستدرِك، وحسن الإنصات له؛ فلا يلتفت إلى غيره أثناء توجيه الكلام له، ولا يُهمِل استدراكه.
وقد عدّه صاحب (الجدل على طريقة الفقهاء) من آداب الجدل (3).
(1) هو: أبو سعيد، خلف الله المجاصي، الفقيه الحافظ، من علماء فاس وشيوخها، كان يحفظ المقدمات والبيان والتحصيل لابن رشد، أخذ عن أبي الربيع سليمان الونشريسي، توفي سنة 732 هـ.
[يُنظر: جذوة الاقتباس في ذكر من حل من العلام مدينة فاس، (192). و: سلوة الأنفاس ومحادثة الأكياس بمن أقبر منالعلماء والصلحاء بفاس، محمد بن جعفر بن إدريس الكتاني، (1/ 228). و: نيل الابتهاج مع الديباج المذهب، (110)].
(2)
…
(4/ 70 - 71).
(3)
(2).
ومن نماذجه ردُّ مالك على رسالة الليث التي فيها استدراكات على بعض آراء مالك، فمما جاء في الردّ:«وكان حبيبٌ إليّ حفظك، وقضاء حاجتك، وأنت لذلك أهل، وصبرت نفسي في ساعات لم أكن أعرض فيها؛ لأن الحج فيها، فتأتيك مع الذي جاءني بها حيثُ دفعتُها إليه، وبلغت من ذلك الذي رأيتُ أنه يلزمني في حقك وحرمتك، وقد نشطني ما استطلعت مما قبلي من ذلك في ابتدائك بالنصيحة لك، ورجوتُ أن يكون لها عندك موضع، ولم يكن يمنعني من ذلك قبل اليوم أن لا يكون رأيي لم يزل فيك جميلاً، إلا أنك لم تكن تذاكرني شيئًا من هذا الأمر، ولا تكتب فيه إليّ» (1).
كما ردّ عليه الليث بنفس الاهتمام والترحيب فمما جاء في رده على كتابه الذي منه ما ذكرتُ: «وأنه بلغكَ أني أُفتي بأشياء مخالفة لما عليه جماعة الناس عندكم، وإني يحق علي الخوف على نفسي لاعتماد من قِبَلي على ما أفتيتُهم به، وأن الناس تبعٌ لأهل المدينة التي إليها كانت الهجرةُ وبها نزل القرآن، وقد أصبتَ بالذي كتبتَ به من ذلك إن شاء الله، ووقع مني بالموقع الذي تُحبّ» (2).
(1) كتاب المعرفة والتاريخ، (1/ 695).
(2)
السابق، (1/ 688).