الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول: استدراك الفقيه على نفسه، وتطبيقاته
.
وصورته: أن يرجع فقيه إلى عملٍ فقهي له فيلحظ فيه خللاً، فيكرّ عليه بالتلافي.
وفائدته: أن هذا النوع من الاستدراك مصدرٌ أساس في معرفة المعتمد من قول إمام المذهب. ومعرفةُ استدراك الفقيه على نفسه يقي الناقل من النسبة الخاطئة للرأي المستقر لدى فقيه في المسألة. كما أن الاطلاع على هذا النوع يُفيد الناظر الشجاعة في إبداء الاستدراك الفقهي عند تحقق الصواب، سواء على نفسه أو على غيره.
واستدراك الفقيه على ما سبق منه من عمل فقهي أمرٌ طبيعيٌّ، ينتُج عن توسُّع المدارك في التفقه، فقد يبلغ الفقيهَ نصٌّ مخالفٌ لعمله السابق لم يكن يعرفه، أو يلحظُ في موضوع المسألة ملحظًا مؤثّرًا قد غفل عنه في عمله السابق، فيستدرك على نفسه بعمل آخر يتلافى به ما سبق منه
…
وغير ذلك من الأسباب.
وقيل للخريبي (1) رجع أبو حنيفة عن مسائل كثيرة. قال: إنما يرجع الفقيه إذا اتسع علمه (2).
وهو مع ذلك أمر له دلالاته من خشية الله، ونبذ الكِبْر الذي يقتضي بطَر الحقّ.
تطبيقاته:
النموذج الأول: رجوع أبي حنيفة عن القول بأن الصدقة أفضل من حج التطوع، لمّا حج وعرف مشقته (3).
تحليل الاستدراك:
(1) هو: أبو عبد الرحمن، عبد الله بن داود بن عامر عبد الرحمن الهمداني، ثم الشعبي الكوفي، ثم البصري، المشهور بالخريبي لنزوله محلة الخريبة بالبصرة، الحافظ الإمام القدوة. كان ثقة عابدا ناسكا. توفي سنة 213 هـ.
[يُنظر: تذكرة الحفاظ، (1/ 337). و: سير أعلام النبلاء، (9/ 346). و: تهذيب الكمال، (14/ 458)].
(2)
تذكرة الحفاظ، (1/ 338).
(3)
يُنظر: رد المحتار، ابن عابدين، (1/ 172).
يستدل الحنفية بهذا على أن زيادة العلم بالتجربة سبب للترجيح بين الأقوال في المذهب (1)، فأبو حنيفة استبصر مُدركًا يُرجّح أفضلية حج التطوع على الصدقة، جعله يستدرك على قوله الأول القاضي بعكس ذلك؛ لما في الحج من مشقّة أعلى من مشقة الصدقة، فيكون بهذا أكثر أجرًا منها، فيفضُل عليها.
النموذج الثاني: استدراك مالك على نفسه في مسألة: إخْرَاجِ زَكَاةِ الْفِطْرِ عَنْ الْعَبْدِ يُبَاعُ يَوْمَ الْفِطْرِ.
تحليل الاستدراك: في هذه المسألة توارد مُلْكان على العبد في أثناء وقت وجوب زكاة الفطر، فعلى أيّ المالكين تكون زكاة الفطر التي عن العبد؟ هل على المالك الأول (وهو البائع هنا) باعتبار خطابه بالوجوب أولاً؟ حيثُ وُجد سبب الخطاب وقت مُلكه؟ أم على المالك الثاني (وهو المشتري هنا) باعتباره قد ملكه وقت وجوب، ولم تؤدّ عنه زكاة الفطر؟
بنى مالك قوله الأول في المسألة على أن العبد مادام قد دخل في مُلك المشتري في أثناء وقت الوجوب فزكاة الفطر تكون على مالكه الحالي، ولكنه استدرك على نفسه مدركًا في المسألة، وهو - فيما ظهر لي - أن وجود السبب يقتضي وجود الحكم،
(1) المرجع السابق، نفس الجزء والصفحة.
(2)
هو سحنون بن سعيد التنوخي (ت 240 هـ) راويةُ المدونة الكبرى عن الإمام عبد الرحمن بن القاسم العتقي (ت 191 هـ).
(3)
القائل هو الإمام عبد الرحمن بن القاسم العتقي.
(4)
(1/ 469).
فالسبب دخول وقت الوجوب، والحكم وجوب إخراج زكاة الفطر، وحصول السبب إنما كان في وقت ملك الأول، فعلمنا أن الخطاب توجّه إليه بمجرد حصول السبب، وبالتالي لا يتوجّه الخطاب إلى المالك الثاني.
النموذج الثالث: استدراك الشافعي على نفسه في مسألة: وضع الجار أجذاعه (1) في جدار جاره.
جاء في (الحاوي الكبير): «فَكَانَ يَذْهَبُ (2) فِي الْقَدِيمِ إِلَى أَنَّ لِلْجَارِ أَنْ يَضَعَ أَجْذَاعَهُ فِي جِدَارِ جَارِهِ جَبْرًا بِأَمْرِهِ وَغَيْرِ أَمْرِهِ،
…
ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ فِي الْجَدِيدِ وَقَالَ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَضَعَ أَجْذَاعَهُ فِي جِدَارِ جَارِهِ إِلَّا بِأَمْرِهِ، كَمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْلَاكِ الَّتِي لِجَارِهِ إِلَّا بِأَمْرِهِ» (3).
تحليل الاستدراك: جواز وضعِ الأجذاع على جدار الجار بدون إذنه تنازعه أصلان، أصل عام وهو: ما دلّت عليه عمومات الشريعة من حرمة التصرف في مال المرء إلا بإذنه، وأصل خاص وهو: النهي عن منع الجار جاره أن يرتفق بجداره الوارد في الحديث: «لا يمنع جارٌ جاره أن يغرز خشبَهُ في جداره» (4).
بنى الشافعي مذهبه القديم على ظاهر الحديث، فحمل النهي فيه على التحريم، وبدا له في مذهبه الجديد معارضة هذا لعموم تحريم التصرف في مال المرء إلا بإذنه، فجعل هذا الأصل الأخير صارِفًا للنهي في الحديث عن التحريم إلى الكراهة (5).
(1) جمع جِذْع، وهو ساق النخلة. [يُنظر: مادة (جذع) في: لسان العرب، (3/ 104). و: القاموس المحيط، (637)].
(2)
أي الإمام الشافعي.
(3)
الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه وهو شرح مختصر المزني، علي بن محمد بن حبيب الماوردي، (6/ 391).
(4)
رواه البخاري في: صحيحه، (3/ 132)، ك المظالم، ب لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبه في جداره، رقم (2463).
(5)
ويُنظر: الحاوي الكبير، (6/ 391). و: فتح الباري، (5/ 110).
النموذج الرابع: اختلفت الرواية عن أحمد في مسألة القرء: هل هو الحيض أو الطهر؟ ففيه روايتان:
الرواية الأولى: هو الحيضُ (1). «قال الْقَاضِي (2):
الصَّحِيحُ عن الْإِمَامِ أَحْمَدَ رحمه الله أَنَّ الْأَقْرَاءَ الْحِيَضُ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَصْحَابُنَا، وَرَجَعَ عن قَوْلِهِ بِالْأَطْهَارِ. فقال في رِوَايَةِ النَّيْسَابُورِيِّ (3): كُنْت أَقُولُ إنَّهُ الْأَطْهَارُ، وأنا أَذْهَبُ الْيَوْمَ إلَى أَنَّ الْأَقْرَاءَ الْحَيْضُ. وقال في رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ (4): كُنْت أَقُولُ الْأَطْهَارُ ثُمَّ وَقَفْتُ لِقَوْلِ الْأَكَابِرِ» (5).
(1) يُنظر: المقنع لموفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، لعلي بن سليمان المرداوي المطبوعان معًا مع الشرح الكبير لشمس الدين عبد الرحمن بن محمد بن قدامة:(24/ 43 وما بعدها).
(2)
هو: أبو يعلى الفراء عند متقدمي الحنابلة. [يُنظر: مصطلحات المذاهب الفقهية وأسرار الفقه المرموز، (298)]
والقاضي أبو يعلى هو: أَبُو يَعْلَى، مُحَمَّدُ بنُ الحُسَيْنِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ خَلَفِ، ابْنُ الفَرَّاءِ، البَغْدَادِيُّ، الحَنْبَلِيُّ، القَاضِي، شَيْخُ الحنَابِلَةِ. أَفتَى وَدرَّس، وَتَخرَّج بِهِ الأَصْحَاب، وَانتهتْ إِلَيْهِ الإِمَامَةُ فِي الفِقْهِ، وَكَانَ عَالِمَ العِرَاق فِي زَمَانِهِ، مَعَ مَعْرِفَةٍ بعلُوْمِ القُرْآن وَتَفْسِيْرِهِ، وَالنَّظَرِ وَالأُصُوْل، وَكَانَ أَبُوْهُ مِنْ أَعْيَانِ الحَنَفِيَّة. له: التعليقة الكبرى، وأَحكَام القُرْآن، والعدة في أصول الفقه، والرَّدّ عَلَى الكَرَّامِيَّة. توفي سنة 458 هـ.
[يُنظر: طبقات الحنابلة، محمد بن محمد بن أبي يعلى الفراء، (2/ 193). و: سير أعلام النبلاء، (18/ 89)].
(3)
هو: أَبُو يَعْقُوب، إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن هانئ النيسابوري، ذكره الْخلال وَقَالَ: أخا دين وورع وَنقل عَن إمامنا مسَائِل كَثِيرَة. توفي سنة 275 هـ.
[يُنظر: طبقات الحنابلة، (1/ 107). و: المقصد الأرشد، (1/ 241)].
(4)
هو: أبو بكر، أحمد بن محمد بن هانئ، الطائي، ويقال الكلبي، الإسكافي، الأثرم، حافظ، إمام. سمع الإمام أحمد، وأبا بكر بن أبي شيبة والقعنبي وغيرهم، نقل عن الإمام أحمد مسائل كثيرة وصنفها ورتبها أبوابا. توفي سنة 260 هـ.
[يُنظر: المقصد الأرشد، (1/ 161). و: المنهج الأحمد، (1/ 240)].
(5)
الشرح الكبير، (24/ 43). و: الإنصاف، (24/ 43) وما بعدها. المطبوعان مع المقنع.
تحليل الاستدراك:
كل من الروايتين يُفهم منها أنه رجع إلى الأخرى، ولا أستبعدُ أن الإمام تكرر نظره في المسألة، وتكرر استدراكه فيها أكثر من مرة، بحيث يقول بقول ثم تبدو له مدارك في المسألة تُرجح القول الآخر فيرجع إليه بعد أن استدرك عليه.
فعلى الرواية الأولى استدرك على قوله بأنه الطهر إلى أنه الحيض؛ لأن القول بالطُّهر ليس بقول الأكابر. وعلى الرواية الثانية استدرك على قوله بأنه الحيض إلى أنه الطهر؛ لأن الأخير أسعد بقوة الأدلة وصحتها.
(1) الشرح الكبير، (24/ 44). و: الإنصاف، (24/ 49). المطبوعان مع المقنع.