الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: استدراك الفقيه على موافق له في المذهب، وتطبيقاته
.
صورته: أن يعمل فقيه عملاً فقهيًّا، فيرى فقيه آخر من نفس مذهبه أن في عمله خللاً فيتلافاه بعمل فقهي آخر.
وشهدت المذاهب الفقهية حركات تصحيح وتنقيح لمؤلفاتها وما تحمله من رواية ودراية، وكان ذلك واضحًا واسعًا في القرن الرابع إلى منتصف القرن السابع (1).
وفائدته: تصحيح المذهب، وتيسير الوصول إلى مسائله، وتحرير المعتمد فيه، ونقد الأقوال التي يراها الفقيه مخالفة لنص أو قاعدة، ينتج عنه - غالبًا - التقريب بين المذاهب الفقهية في المدارك والأحكام.
إن الفقيه الحقّ لا يُثنيه انتسابه إلى مذهب فقهي معين أن يستدرك على المذهب بما وصل إليه تحقيقه واجتهاده أنه على خلاف المذهب؛ وهذا من دلالات النصيحة للدين، ونبذ التعصّب للمذهب بدون دليل. كما أن من الوفاء لمذهبه أن يذبّ عنه ما ليس منه، وأن يسعى في إصلاحه.
(1) يُنظر: المدخل الفقهي العام، مصطفى أحمد الزرقا، (1/ 209).
ففي المذهب الحنفي مثلاً: السرخسي في (مبسوطه)، ومحمد بن أحمد بن أبي أحمد السمرقندي في (تحفة الفقهاء)، والكاساني في (بدائع الصنائع).
وفي المذهب المالكي مثلاً: أبو الحسن اللخمي في (التبصرة)، وأبو عبد الله المازري في (تعليقه على المدونة)، وإبراهيم بن بشير في (التنبيه على مبادئ التوجيه)، وأبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد في (البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل في مسائل المستخرجة)، والقاضي عياض في (التنبيهات على المدونة).
وفي المذهب الشافعي مثلاً: أبو المعالي الجويني في (نهاية المطلب)، ومؤلفات الغزالي والرافعي والنووي.
وفي المذهب الحنبلي مثلاً: المرداوي في (التنقيح المشبع) و (الإنصاف)
…
وابن مفلح (تصحيح الفروع).
تطبيقاته:
النموذج الأول: جاء في (الهداية): «والفاسق أهل للقضاء حتى لو قلد يصح، إلا أنه لا ينبغي أن يقلد، كما في حكم الشهادة، فإنه لا ينبغي أن يقبل القاضي شهادته، ولو قبل جاز عندنا» (1).
قال العيني (2): «وقال الشافعي رحمه الله ومالك وأحمد رحمهما الله: لا يصح تقليده، وبه قال بعض مشايخنا رحمهم الله. قلتُ: الصواب معهم، ولا سيما قضاة هذا الزمان» (3).
تحليل الاستدراك: استدرك العيني على مذهبه في صحة تولية الفاسق القضاء، وصوّب رأي الأئمة مالك والشافعي وأحمد وبعض مشايخ المذهب الحنفي في عدم صحة تولية الفاسق القضاء، مُراعيًا في ترجيحه حال الزمان الذي هو فيه، مما يُفهم منه أنه وإن صحّ مذهب الحنفية في المسألة ولكن المصلحة مرجوحة في توليته في زمان العيني.
(1) الهداية شرح بداية المبتدي لعلي بن أبي بكر المرغيناني مع البناية شرح الهداية، (8/ 6).
(2)
هو: أبو محمد، محمود بن أحمد بن موسى بن أحمد، العيني، الحنفي، بدر الدين، مؤرخ، علامة، من كبار المحدثين، أصله من حلب ومولده في عينتاب، وإليها نسبته، أقام مدة في حلب ومصر ودمشق والقدس، وولي في القاهرة الحسبة وقضاء الحنفية ونظر السجون، وتقرب من الملك المؤيد حتى عد من أخصائه، ولما ولي الأشرف سامره ولزمه، وكان يكرمه ويقدمه، ثم صرف عن وظائفه، وعكف على التدريس والتصنيف إلى أن توفي بالقاهرة، من كتبه: عمدة القاري في شرح البخاري، البناية في شرح الهداية، السيف المهند في سيرة الملك المؤيد أبى النصر، المقاصد النحوية في شرح شواهد شروح الألفية، يعرف بالشواهد الكبرى. توفي سنة 855 هـ.
[يُنظر: الفوائد البهية في تراجم الحنفية، (207). و: الأعلام، (7/ 163)].
(3)
البناية شرح الهداية، (8/ 6).
النموذج الثاني: جاء في (جامع الأمهات) في صيام يوم الشك: «والمنصوص النهي عن صيامه احتياطاً، وعليه العمل، وخرّج اللخمي (1) وجوبَه من وجوب الإمساك على من شك في الفجر، ومن الحائض تتجاوز عادتها. وهو غلط؛ لثبوت النهي» (2).
تحليل الاستدراك: استدرك ابن الحاجب (3)
على اللخمي في مسألة صيام يوم الشك، حيث قاس اللخمي مسألة صيام يوم الشك على مسألة الشك في طلوع الفجر على من عليه صيام رمضان، وعلى مسألة الحائض يتجاوز دمها أيام عادتها، بجامع وجوب الإمساك احتياطًا بسبب الشك. فاستدرك عليه ابن الحاجب بأن هذا القياس مصادم
(1) هو: أبوالحسن، علي بن محمد الربعي، المعروف باللخمي، القيرواني المالكي، الإمام الحافظ، رئيس الفقهاء في وقته، فقيه مالكي، له معرفة بالأدب، وإليه الرحلة، تفقه بابن محرز ولسيوري وجماعة، وبه تفقه المازري وأبو الفضل بن النحوي، وآخرون.
صنف كتبا مفيدة، من أحسنها تعليق كبير على المدونة في فقه المالكية، سماه (التبصرة) أورد فيه آراء خرج بها عن المذهب. توفي سنة 478 هـ.
[يُنظر: شجرة النور الزكية، (1/ 117). و: الأعلام، (4/ 328)].
(2)
جامع الأمهات، جمال الدين بن عمربن الحاجب المالكي، (1/ 171).
(3)
هو: أبو عمرو، عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس الرويني ثم المصري ثم الدمشقي ثم الإسكندري، المعروف بابن الحاجب، الملقب بجمال الدين، الإمام، فقيه مالكي، كان أبوه حاجبا فعرف به، كان صدراً في علماء بلده أستاذاً ممتعاً من أهل النظر والاجتهاد والتحقيق ثاقب الذهن أصيل البحث مضطلعاً بالمشكلات مشاركاً في فنون من فقه وعربية برز فيها إلى أصول وقراءات وطب ومنطق، له: جامع الأمهات، وقصيدة في العروض، ومنتهى السول والأمل في علمي الأصول والجدل. توفي سنة 646 هـ.
[يُنظر: الديباج المذهب في معرفة أعيان المذهب لإبراهيم بن علي بن فرحون اليعمري مع نيل الابتهاج بتطريز الديباج لأحمد بن أحمد بن أحمد المعروف ببابا التنبكتي، (189). و: الأعلام، (4/ 211)].
لصريح النهي الوارد في الحديث: «لَا يَتَقَدَّمَنَّ أَحَدُكُمْ رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمَهُ فَلْيَصُمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ» (1)، والقاعدة أنه لا قياس مع النص (2).
النموذج الثالث: جاء في (المجموع): «وفي (الإبانة) (3) و (البيان) (4) وجه أنه لو رفع من سجود التلاوة إلى الركوع ولم ينتصب أجزأه الركوع. وهو غلط، نبهت عليه لئلا يغتر به» (5).
تحليل الاستدراك: استدرك النووي على وجه في المذهب الشافعي في مسألة الانتصاب بعد سجود التلاوة للركوع في الصلاة، حيث غلّط القول بإجزاء الركوع إذا لم ينتصب الرافع من سجود التلاوة، وتنبيهه هذا أتى بعد قوله:«ولا خلاف في وجوب الانتصاب قائمًا لأن الهوي إلى الركوع من القيام واجب» (6). فسبب تخطئة هذا الوجه أنه مخالف للاتفاق على وجوب الهوي إلى الركوع.
(1) رواه البخاري في: صحيحه، (3/ 28)، ك الصوم، ب لَا يَتَقَدَّمنَّ رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلَا يَوْمَيْنِ، رقم (1914). وبنحو مسلم في: صحيحه، (483)، ك الصيام، ب لا تقدموا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلَا يَوْمَيْنِ، رقم (1082).
(2)
يُنظر: البحر المحيط، (5/ 33).
(3)
لأبي القاسم، عبد الرحمن بن محمد الفوراني المروزي الشافعي، (ت 461 هـ). [يُنظر: كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، مصطفى بن عبد الله الشهير بحاجي خليفة، (1/ 1)].
(4)
لأبي الخير، يحيى بن سالم اليمني الشافعي العمراني، (ت 558 هـ). [يُنظر: كشف الظنون، (1/ 264).
(5)
(3/ 385).
(6)
المرجع السابق، نفس الجزء والصفحة.
النموذج الرابع: جاء في (الزاد)(1) ممزوجًا مع (الروض)(2): «(وإن اشتبهت ثياب طاهرة بـ) ثياب (نجسة) يعلم عددها، (أو) اشتبهت ثياب مباحة (بـ) ثياب (محرمة) يعلم عددها (صلى في كل ثوب صلاة بعدد النجس) من الثياب والمحرمة منها ينوي بها الفرض احتياطًا .... (وزاد) على العدد (صلاة)؛ ليؤدي فرضه بيقين
…
تحليل الاستدراك: استدرك السعدي على المذهب عند الحنابلة في مسألة اشتباه الثياب النجسة بالطاهرة، أو المحرمة بالمباحة، ورأى أن الصحيح خلافه؛ لدلالة مَدارك رآها أرجح من معتمَد المسألة في المذهب.
(1) زاد المستقنع للحجاوي.
(2)
الروض المربع للبهوتي.
(3)
الروض المربع بشرح زاد المستقنع، منصور بن يونس البهوتي، (22).
(4)
يُشير إلى الاستدلال بقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16].
(5)
المختارات الجلية من المسائل الفقهية، عبد الرحمن بن ناصر السعدي، (13 - 14).