الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: الاستدراك على منظوم القضية الفقهية، وتطبيقاته
.
منظوم القضية الفقهية هو التراكيب اللفظية المعبّرة عن موضوعها ومحمولها، وبالنظم الصحيح يصل المعنى المُراد، فإذا وقع خلل فيه، أدى إلى فهمٍ غير مراد، فالاهتمام بالنظم وتمحيصه وتحريره أتى من أنه هو الموصّل للمعنى، فيجب أن يكون موصّلاً جيدًا.
ومراعاة الألفاظ والاستدراك عليها مبدأ شهدت له النصوص الشرعية بالاعتبار، فمن القرآن قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)} (1).
ومن السنة: عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ (2) رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الْأَيْمَنِ، ثُمَّ قُلْ: اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ، اللَّهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ. فَإِنْ مُتَّ مِنْ لَيْلَتِكَ فَأَنْتَ عَلَى الْفِطْرَةِ، وَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ. قَالَ: فَرَدَّدْتُهَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا بَلَغْتُ: اللَّهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ. قُلْتُ: وَرَسُولِكَ. قَالَ: لَا، وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ» (3).
وقد صرّح عدة فقهاء محققين على استهداف النظم بالاستدراك.
(1) البقرة: 104
(2)
هو: أبو عمارة، البراء بن عازب بن الحارث، الأنصاري الحارثي المدني، الفقيه الكبير، من أعيان الصحابة، روى حديثا كثيرا، وشهد خمس عشرة غزوة مع النبي صلى الله عليه وسلم، واستصغر يوم بدر، ونزل الكوفة وتوفي بها أيام مصعب بن الزبير سنة 72 هـ.
[يُنظر: الطبقات الكبرى، (4/ 364). و: سير أعلام النبلاء، (3/ 194)].
(3)
رواه البخاري، (1/ 58)، ك الوضوء، ب فضل من بات على الوضوء، رقم (247). ومسلم بنحوه، (1246)، ك الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، ب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع، رقم (56 - 2710).
قال في (البهجة في شرح التحفة): «
…
مُصلحًا ما يحتاج إلى الإصلاح من ألفاظه المُخلة بالنظام» (1).
وفي (منهاج الطالبين): «
…
ومنها (2) إبدال ما كان من ألفاظه غريبًا أو موهمًا خلاف الصواب بأوضح وأخصر منه بعبارات جليات» (3).
وفي مقدمة (التنقيح في شرح الوسيط) ذكر من أغراضه في الكتاب: «بيان ألفاظ زائدة وناقصة، فالناقصة هي التي لا يصح الكلام بدونها، وقد حذفها (4)، والزائدة هي التي يَفسد الحكم بذكرها، ويتغير المعنى بها، فيجب حذفها» (5).
بل إن هذا النوع من الاستدراك الفقهي كان السبب الداعي لتأليف (البيان والتحصيل)(6)، ذلك أن بعض المستفيدين أشكل عليهم - عند قراءتهم على ابن رشد (7)
- مسألة في الاستلحاق من (العتبية) اختلفت فيها الألفاظ فيما لديهم من كتب، ففي بعضها نص المسألة جاء بلفظ: «سألنا مالكًا أترى العمل على الحديث الذي جاء
(1) علي بن عبد السلام التسولي، (1/ 7).
(2)
ضمير المؤنث يعود إلى (النفائس المستجادات).
(3)
(1/ 75).
(4)
أي الغزالي صاحب (الوسيط).
(5)
لمحيي الدين بن شرف النووي. المطبوع مع الوسيط في المذهب للغزالي ومجموعة أخرى، (1/ 80)، تحقيق: أحمد محمود إبراهيم.
(6)
لأبي الوليد بن رشد الجد.
(7)
هو: أبو الوليد، محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد القرطبي المالكي، الإمام العلامة، شيخ المالكية، قاضي الجماعة بقرطبة، تفقه بأبي جعفر أحمد بن رزق، وسار في القضاء بأحسن سيرة، وأقوم طريقة، ثم استعفى منه، فأعفي، ونشر كتبه، كان فقيها عالما، حافظا للفقه، مقدسا فيه على جميع أهل عصره، عارفا بالفتوى، بصيرا بأقوال أئمة المالكية، نافذا في علم الفرائض والأصول، من أهل الرياسة في العالم، والبراعة والفهم، من تآليفه: المقدمات، والبيان والتحصيل، واختصار مشكلة الآثار للطحاوي. توفي سنة 536 هـ.
[يُنظر: سير أعلام النبلاء، (19/ 501). و: الديباج المذهب مع نيل الابتهاج، (278).].
في القافة (1) أيؤخذ بقولهم اليوم ويُصدَّقون؟ فقال: أما فيما تلحقه من الولد فنعم، وأما بقايا أهل الجاهلية فلا أرى أن يؤخذ بقولهم وصدقوا، ولا يكون إلا في ولادة الجاهلية».
بينما جاء في نصها في بعض الكتب: «وأما بقايا أهل الجاهلية فلا، وأرى أن يؤخذ بقولهم» . وفي بعض الكتب: «ولا يكون ذلك في ولادة الجاهلية» .
قال المؤلف معلقًا: «وحق لها أن تشكل عليهم لما ذكرناه من اختلاف الألفاظ فيها مع تقديم وتأخير وقع في سياقتها. وسألني أن أبينها عليه ففعلت، وكان مما بينت عليه من أمرها أن الاختلاف الذي وقع فيها في الكتب يرجع إلى روايتين مستقيمتين، ففي الرواية الواحدة بثبت (الواو) في (وأرى) وثبت (إلا) في قوله (ولا يكون ذلك إلا في ولادة الجاهلية)، وفي الرواية الأخرى بسقط (الواو) من (وأرى)، وسقط (إلا) من قوله (ولا يكون ذلك إلا في ولادة الجاهلية). وبسطت له القول في ذلك وبينت عليه وجه كل رواية منهما وما يستقيم به معناهما، فسر بذلك أثراً جميلاً يبقى عليك ذكره، ويعود عليك ما بقيت الدنيا أجره. فقلت لهم: وأي المسائل هي المسائل المشكلات منها المفتقرة إلى الشرح والبيان، من الجليات غير المشكلات التي لا تفتقر إلى كلام ولا تحتاج إلى شرح وبيان؟ ! فقل مسألة منها وإن كانت جلية في ظاهرها، إلا وهي مفتقرة إلى التكلم على ما يخفى من باطنها» . وذكر عزمه على المرور على كل مسائل (العتبية) بالبيان ورفع الإشكال (2).
(1) جمعُ قائف، ويطلق على من يتتبع الأثر، وعلى الذي يعرف النسب بفراسته ونظره إلى أعضاء المولود. [يُنظر: معجم لغة الفقهاء، (353)]
(2)
يُنظر: البيان والتحصيل، (1/ 26، وما بعدها).
تطبيقاته:
النموذج الأول:
جاء في (الدر المختار) في تعداد شروط إمام المسلمين الإمامة الكبرى: «ويشترط كونه مسلمًا حُرًّا ذكرًا عاقلاً بالغًا قادرًا، قرشيًّا، لا هاشميًّا علويًّا معصومًا» (1). استدرك ابن عابدين على قوله: «لا هاشميًّا علويًّا معصومًا» فقال: «وكان الأولى أن يكرر (لا) ليظهر أن كل واحد من هذه الثلاثة قول على حدة، فإن عبارته توهم أنها قول واحد ح» (2).
تحليل الاستدراك:
هنا أراد صاحب (الدر) أن ينفي أقوالاً اشترطت صفات في الإمام، قول اشترط النسبة إلى هاشم، وقول اشترط النسبة إلى علي، وقول اشترط العصمة، فلما قال:«لا هاشميًّا علويًّا معصومًا» ، أوهم وجود قول يقول باجتماع هذه الثلاثة في الإمام، وهو غير مُراد للمؤلف، بل مراده نفي اشتراط كل صفة من هذه الصفات، لأن كل صفة جاء اشتراطها عن جماعة، والمقصود نفي كل الأقوال، وهذا يستقيم لو قال: لا هاشميًّا ولا علويًّا ولا معصومًا.
وإنما كان سبب الإيهام في تصوّر الموضوع هو خلل في التركيب اللفظي له.
النموذج الثاني:
في (مختصر خليل) في مسألة من عليه هدي وهو غير موسر، فأيسر أثناء صيام الثلاثة أيام التي عليه أن يصومها في الحج بدلاً من الهدي:«ونُدب الرجوع له بعد يومين» (3). قال الخرشي (4)
شارحًا ومُستدرِكًا: «ضَمِيرُ (لَهُ) يَرْجِعُ لِلْهَدْيِ، يَعْنِي أَنَّهُ إذَا
(1) الدر المختار مع حاشيته رد المحتار، (2/ 280 - 282).
(2)
المرجع السابق، (2/ 282).
(3)
مختصر خليل لخليل بن إسحاق الجندي مع شرح الخرشي وحاشية العدوي، (1/ 379).
(4)
هو: أبو عبد الله، محمد بن عبد الله الخراشي المالكي، أول من تولى مشيخة الأزهر، أخذ عن والده والبرهان اللقاني والأجهوري، وعنه علي النوري، والشرفي الصفاقسي وعلي اللقاني، ومحمد عبد الباقي الزرقاني، له: الشرح الكبير، والشرح الصغير، كلاهما على متن خليل، وله منتهى الرغبة في حل ألفاظ النخبة لابن حجر. توفي سنة 1101 هـ.
[يُنظر: شجرة النور الزكية، (1/ 317). و: الأعلام، (6/ 240)].
أَيْسَرَ بَعْدَ أَنْ صَامَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ مِنْ الثَّلَاثَةِ فَإِنَّهُ يَجْزِيهِ الصَّوْمُ، وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الْهَدْيِ. وَلَوْ قَالَ: وَنُدِبَ الرُّجُوعُ لَهُ قَبْلَ كَمَالِ ثَالِثِهِ لَكَانَ أَوْضَحَ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ يُوهِمُ أَنَّهُ بَعْدَ يَوْمٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ، وَلَوْ قَالَ بَعْدَ يَوْمٍ لَاقْتَضَى أَنَّهُ بَعْدَ أَكْثَرَ لَا يُنْدَبُ الرُّجُوعُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ» (1).
تحليل الاستدراك:
واضحٌ من كلام الخرشي.
النموذج الثالث:
جاء في (تحرير الفتاوي): «قوله (2): (النوع الثاني: الصلح على الإنكار، فيبطل إن جرى على نفس المدعي، وكذا إن جرى على بعضه في الأصح)، فيه أمور:
…
رابعها: قوله: (على نفس المدعي) لا يستقيم؛ فإن على والباء يدخلان في باب الصلح على المأخوذ، ومن وعن على المتروك، وصوابه (على غير المدعى) بالغين المعجمة والراء، وكذا هو في المحرر (3) والروضة (4) وأصلها (5)، والذي في المنهاج تصحيف» (6).
تحليل الاستدراك:
استدرك أبو زرعة على لفظ (نفسه) في (المنهاج)، فخطّأه؛ لأنه مخالف لباقي الكتب المعتمدة في المذهب التي حكت المسألة، ورأى أن ما وقع في (المنهاج) إنما هو تصحيف.
(1) المرجع السابق، نفس الجزء والصفحة.
(2)
يعني النووي في المنهاج.
(3)
للرافعي.
(4)
هي روضة الطالبين للنووي.
(5)
هو فتح العزيز للرافعي.
(6)
من كتاب البيوع إلى آخر كتاب الغصب، (2/ 613، 615)، بتحقيق / حنان بنت عيسى علي الحازمي.