الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: المنهج المتكامل، وتطبيقاته
.
هو المنهج الذي يجمع المنهجين: النقلي والعقلي، سواء كان المنهج العقلي يُمكن استقلاله عن المنهج النقلي - بحيثُ يمكن الاستدراك به وحده على العمل السابق - أو لا يمكن استقلاله - بحيث يُعتبر جزءًا لا يُمكن الاستدراك به وحده على العمل السابق.
وأذكر تطبيقًا لكل حالة:
الحالة الأولى: ما يمكن فيها فصل المنهج العقلي عن المنهج النقلي.
ناقش ابن حجر الخلاف في مسألة صلاة تحية المسجد والإمام يخطب يوم الجمعة، ونصر القول بالجواز، وأورد حجج القائلين بالمنع، وردّ عليها، منها ما جاء في نصه الآتي:
«الثالث (1): قيل كانت هذه القصة (2) قبل شروعه صلى الله عليه وسلم في الخطبة، ويدل عليه قوله في رواية الليث عند مسلم: «والنبي صلى الله عليه وسلم قاعد على المنبر» (3). وأجيب بأن القعود على المنبر لا يختص بالابتداء، بل يحتمل أن يكون بين الخطبتين أيضا، فيكون كلّمه بذلك وهو قاعد، فلما قام ليصلي قام النبي صلى الله عليه وسلم للخطبة؛ لأن زمن القعود بين الخطبتين لا يطول. ويحتمل أيضا أن يكون الراوي تجوّز في قوله:«قاعد» ؛ لأن الروايات الصحيحة كلها مطبقة على أنه دخل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب» (4).
(1) أي مما أجاب به المانعون لتأييد القول بالمنع.
(2)
قصة دخول سليك الغطفاني على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب الجمعة، التي منها قطعة الحديث الآتية في كلام ابن حجر.
(3)
صحيح مسلم، (388)، ك الجمعة، ب التحية والإمام يخطب، رقم (58 - 875).
والحديث بتمامه هو ما رواه مسلم بسنده إلى الليث عَنْ أَبِى الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: جَاءَ سُلَيْكٌ الْغَطَفَانِيُّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَاعِدٌ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَعَدَ سُلَيْكٌ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«أَرَكَعْتَ رَكْعَتَيْنِ» . قَالَ: لَا. قَالَ «قُمْ فَارْكَعْهُمَا» .
(4)
فتح الباري، (2/ 409).
وأحلل هذا النموذج على النحو التالي:
المُستدرِك: ابن حجر، أو من سبقه بهذا الاستدراك.
المستدرَك عليه: القول بمنع صلاة تحية المسجد والإمام يخطب للجمعة.
الاستدراك الفقهي: أن القول بالمنع غير صحيح، وأن الصحيح القول بالجواز.
المعيار: الحديث، والقواعد الأصولية:
أما معيار الحديث فيتجلى في قوله: «لأن الروايات الصحيحة كلها مطبقة على أنه دخل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب» (1).
وأما القاعدة الأصولية المُعيّر بها فهي: حكايات الأحوال إذا تطرق إليها الاحتمال كساها ثوب الإجمال وسقط بها الاستدلال (2).
ذلك أن الروايات التي فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قاعد على المنبر، لا تصلح للاستدلال على المنع بحجة أن لفظ القعود يدل على أن الأمر بصلاة الركعتين حصل قبل الخطبة،
(1) روى البخاري القصة بسنده عن جابر رضي الله عنه فيها أن الرجل دخل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب للجمعة.
يُنظر: (صحيحه)، (2/ 12)، ك الجمعة، ب إذا رأى الإمام رجلاً جاء وهو يخطب أمره أن يصلي ركعتين، رقم (930).
و: نفس الجزء والصفحة والكتاب، ب من جاء والإمام يخطب صلى ركعتين خفيفتين، رقم (931).
وروى مسلم القصة بسنده من عدة طرق عن جابر رضي الله عنه فيها أن الرجل دخل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب للجمعة
يُنظر (صحيحه): (387 وما بعدها)، ك الجمعة، ب التحية والإمام يخطب، رقم (54 - 875، 55 - 875، 56 - 875، 59 - 875).
وروى الترمذي القصة بسنده عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه فيها أن الرجل دخل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب. يُنظر: (جامعه)، (1/ 517)، أبواب الجمعة، ب ما جاء في الركعتين إذا جاء الرجل والإمام يخطب، رقم (511). وقال: حديث حسن صحيح.
(2)
وهي عبارة منسوبة إلى الشافعي. يُنظر: الفروق للقرافي مع إدرار الشروق وحاشية محمد علي المالكي، (2/ 153). و: نهاية السول مع حاشية المطيعي، (2/ 370). و: شرح الكوكب المنير، (3/ 172).
لأن اللفظ مُحتمل لمعنيين: القعود في أول الخطبة، والقعود بين الخطبتين، فصار اللفظ مُجمَلاً يحتاج إلى بيان، فيسقط الاستدلال به.
ومن جهة أخرى يحتمل أن الراوي تجوّز بقوله: «قاعد» ، فلا يُستفادُ من لفظه حقيقة القعود، والصارف المسوّغ للانتقال من حقيقة اللفظ إلى مجازه هو دلالة باقي الأحاديث الواردة في نفس القصة.
المنهج: منهج متكامل جمع بين العقلي والنقلي.
أما المنهج العقلي فهو بتطبيق القاعدة الأصولية في استعمالها لإبطال الاستدلال بلفظ «قاعد» على أن القعود كان في أول الخطبة، حيث استفاد منه المُخالف أن الأمر بالصلاة كان قبل الخطبة، وبالتالي لا دلالة - عند المخالف - على جواز صلاة التحية أثناء الخطبة.
أما المنهج النقلي فهو بالرجوع للأحاديث الصحيحة في نفس القصة، والتي بها يرتفع الاحتمال في لفظ «قاعد» ، فهي صريحة في أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم الرجلَ بصلاة الركعتين كان في أثناء الخطبة، ولم يكن في أولها، فيسلم بذلك الاستدلال على جواز صلاة التحية أثناء الخطبة.
ويُمكن الاكتفاء بأحد المنهجين عن الآخر في الاستدراك، فيُمكن الاكتفاء بتطبيق القاعدة الأصولية حيث يبطل بها استدلال المخالف، ليرجع إلى القول بالجواز، وكذلك يمكن الاكتفاء بإيراد الأحاديث الصحيحة في نفس القصة، وترجيحها على غيرها للصحة والصراحة في اللفظ.
الحالة الثانية: ما لا يمكن فيها فصل المنهج العقلي عن المنهج النقلي.
في (جامع بيان العلم وفضله): «وعن ابن عباس: من شاء باهلتُه (1) أن الظِّهار (2) ليس من الأمة، إنما قال الله عز وجل:{مِنْ نِسَائِهِمْ} (3). وقيل لمجاهد في هذه المسألة: أليس الله عز وجل يقول: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} (4)، أفليس الأمة من النساء؟ فقال مجاهد: قد قال الله: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} (5)، أفليس العبد من الرجال؟ أفتجوز شهادته؟
يقول: كما كان العبد من الرجال غير المراد بالشهادة، فكذلك الأمة من النساء غير المراد بالظهار، وهذا عين القياس» (6).
وأحلل هذا النموذج على النحو التالي:
المُستدرِك: ابن عباس رضي الله عنهما، ومجاهد رحمه الله، والذي جمع بين المنهجين هو مجاهد.
المستدرَك عليه: قول من قال إن الظهار يكون من الأمة.
الاستدراك الفقهي: لا يكون من الأمة ظهار.
المعيار: القرآن مع القياس.
(1)«المباهلة: مفاعلة من بهل بهلا، الملاعنة. قول كل فريق من المختلفين لعنة الله على الظالم منا» . [معجم لغة الفقهاء، (399). ويُنظر: طلبة الطلبة، (148)].
(2)
«الظهار: بكسر الظاء من الظهر، وهو خلاف البطن. تحريم الرجل امرأته عليه بقوله: أنت علي كظهر أمي» . [معجم لغة الفقهاء، (296). ويُنظر: المطلع، (418)].
(3)
يعني في آيتي المجادلة في شأن الظهار وهما قوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3)} [المجادلة: 2 - 3].
(4)
المجادلة: 3.
(5)
البقرة: 282.
(6)
(970).
أما القرآن فهو قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} .
والقياس هو قياس التخصيص في الاستعمال في قوله: {مِنْ نِسَائِهِمْ} عند الظهار على التخصيص في الاستعمال في قوله: {مِنْ رِجَالِكُمْ} عند الشهادة.
المنهج: منهج متكامل جمع المنهجين: العقلي والنقلي، وهما مرتبطان لا ينفكان، لأن القياس لا يُمكن فهمه إلا بالآية؛ لأن الآية أصلٌ للقياس، ولا قياس بلا أصل.
وبيان ذلك أن سائلي مجاهد اعتمدوا العموم في لفظ {نِسَائِهِمْ} ، وهو يقتضي دخول الإماء في العموم، فبيّن مجاهدٌ أن العموم في مثل هذا قد يُراد به خصوص الأحرار في إطلاق القرآن، ولإثبات ذلك لابد من المنهج النقلي الذي يُثبت هذا الاستعمال في الإطلاق، فكان استدلالُه بآية {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} ، المتفق على خروج العبيد منها بين الخصمين هنا (1)، ثم المنهج العقلي بحمل الاستعمال المشكوك فيه في قوله:{مِنْ نِسَائِهِمْ} على الاستعمال المتفق عليه، في قوله:{مِنْ رِجَالِكُمْ} ، فكما خرج العبد من قوله:{رِجَالِكُمْ} فلا يُستشهد، فكذلك تخرج الأمة من قوله:{نِسَائِهِمْ} فلا يكون منها ظهار، لجامع الرّق. يقول العيني:«النساء جمع امرأة من غير لفظها، فيتناول الزوجات وغيرها، ولكن تفسير النساء من الزوجات ممكن من حيث قصد الآية يدل على أن المراد الزوجات، وإلا فلفظ النساء من حيث اللغة أعم من الزوجات وغيرها» (2).
(1) للتوسع في الخلاف في قبول شهادة العبيد: البناية، (8/ 162). و: الذخيرة، (10/ 226). و: المحلى، (10/ 280).
(2)
البناية، (5/ 333). وللاطلاع على الخلاف في المسألة يُنظر: البناية، (5/ 333). و: بداية المجتهد، (2/ 104). و: أحكام القرآن، محمد بن عبد الله بن العربي، (2/ 463). و: تكملة المجموع، (19/ 44). و: المُغني، (11/ 67). و: المحلى، (11/ 122).
وأختم الكلام عن المناهج بأني لا أرى أهمية الخوض في أفضلية بعضها على بعض؛ لأن كل منهج يُراعى فيه حال المُستدرَك عليه - سواء كان بمعنى العمل أو بمعنى صاحب العمل - فقد يُناسب المقام الاكتفاء بالنقل، وقد يُناسب الاستدراك بالعقل، وقد يُناسب الجمع بينهما، ويسهل ذلك إذا تصوّرنا أن الاستدراك هو بمنزلة الدواء، إذا حصل الشفاء ببعضه أغنى عن الباقي، ويُناسب بعض الأمراض من الدواء ما لا يُناسب بعضها الآخر.