الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القضية تتكون من موضوع ومحمول، يُصاغان في (منظوم) أي تركيب لفظي، والاستدراك يلحق لفظها ومعناها، فاللفظ هو المنظوم المعبَّر به عن المعنى، والمعنى في القضية على شطرين: شطر لموضوعها، وشطر لمحمولها. وعليه فيُناقش الاستدراك على القضية الفقهية من ثلاث نواحٍ:
ناحية الموضوع، ناحية المحمول، ناحية المنظوم، وأخصص لكل ناحية منها مطلبًا.
وفائدة هذا التقسيم هو تحليل القضية الفقهية إلى عناصرها الأولية، ثم وضع اليد على موضع الخلل لمعالجته؛ لئلا يتوجه الاستدراك إلى غير موضع الخلل.
تنبيه: آثرتُ التعبير بـ (القضية) على التعبير بـ (المسألة)؛ لتشمل كل ما تكوّن من موضوع ومحمول، من مسألة أو نسبة أو حكاية
…
المطلب الأول: الاستدراك على موضوع القضية الفقهية، وتطبيقاته
.
موضوع القضية الفقهية هو محل الحكم فيها.
والموضوع قد يعتريه خلل في التصوير أو التصوّر، والتصور والتصوير يتواردان على محل واحد، والاختلاف هو من جهة الفاعل، فالتصوير فعل المُلقي، والتصور فعل المتلقي، وقد يتطابقان، وقد لا يتطابقان.
في حال التطابق لا ينظر المستدرِك في أهلية التراكيب اللفظية لأداء المعنى؛ فإنها قد أدَّتْه، ولكن ينظر إلى المعنى الذي أدّته: هل يحتاج إلى تقويم؟ ثم إن احتاج: هل يكرّ على اللفظ بتعديل فيه؟ أم يقترح تصويرًا جديدًا؛ لأنه يرى أن التصوير الأول ليس موافقًا للمحل الصحيح للحكم.
وفي حال عدم التطابق فللمستدرِك نظَران:
- نظر في اللفظ، لعلّه لم يكن موصِّلاً جيدًا للمعنى المُراد.
- نظر في المعنى؛ لأن اللفظ قد يكون جيِّدًا لتوصيل المعنى، ولكن قد يعتري المتلقي وهمٌ بدخول عنصر غير داخل أو بخروجه؛ لملابسات خارجة.
والتصوّر أمر خفيٌّ، فلا يُستطاع الاستدراك عليه - ما لم يُفِدْ به صاحبُه - إلا أنّ خبرة الفقيه وممارسته للنظر تجعله يتوقعُ فُهُومًا غيرَ مرادةٍ للنص فيستدركُ عليها.
تطبيقاته:
مثال الاستدراك على التصوير:
جاء في (حاشية الرهوني): «ظاهر كلام غير واحد من أهل المذهب وصريح كلام آخرين منهم أن الخلاف السابق (1) محله إذا انقطع التعامل بالسكة (2) القديمة جملة، وأما إذا تغيرت بزيادة أو نقص فلا. وممن صرح بذلك أبو سعيد بن لب (3).
قلتُ: وينبغي أن يقيد ذلك بما إذا لم يكثر جدا حتى
(1) يعني في مسألة ما لو كان التعامل بالفلوس ثم قُطعت، هل يقضي بالمثل أو بالقيمة؟ [يُنظر: حاشية الرهوني على شرح الزرقاني لمختصر خليل، محمد بن أحمد بن محمد الرهوني، (5/ 118 - 121).
(2)
السكة هي «القالب الذي تُصبّ فيه النقود» . [معجم لغة الفقهاء، (246)].
(3)
هو: أبو سعيد، فرج بن قاسم بن أحمد بن لب الثعلبي الأندلسي الغرناطي، إمامها ومفتيها، إليه مدار الفتوى والشورى ببلده، أقرأ في المدرسة النصرية، من أكابر علماء المذهب المتأخرين ومحققيهم، ممن له درجة الاختيار في الفتوى، له اختيارات خارجة عن مشهور المذهب، أخذ عنه أجلة كالشاطبي وابن الخشاب، ولي خطابة جامع قرطبة، له تآليف منها: شرح جمل الزجاجي، وشرح تصريف التسهيل، وله رسالتان في الفقه. توفي سنة 782 هـ.
[يُنظر: نيل الابتهاج مع الديباج المذهب، (219). و: الأعلام، (5/ 140)].
يصير القابض لها كالقابض لما لا كبير منفعة فيه لوجود العلة التي علل بها المخالف (1) والله أعلم» (2).
وذلك عند تحشيته على عبارة (وإن بطلتْ فلوسٌ (3) فالمثلُ) (4).
تحليل الاستدراك:
موضعه: قوله: «قلتُ: وينبغي أن يقيد ذلك بما إذا لم يكثر جدا حتى يصير القابض لها كالقابض لما لا كبير منفعة فيه لوجود العلة التي علل بها المخالف» .
التصوير قبل الاستدراك: تغيرت قيمة الفلوس بزيادة أو نقص، وقد اشتغلت الذمة بحقٍّ قبل التغير.
الحكم المترتب: لا خلاف عند المالكية أن عليه مثلَ ما ثبت في ذمته قبل التغير، فلا قائلَ بالقيمة.
التصوير بعد الاستدراك: تغيرت قيمة الفلوس بزيادة أو نقص، ولم يكن النقص كبيرًا جدًّا إلى حد أن صاحب الحق يقبض ما لا كبير منفعة فيه.
فإضافة هذا القيد للتصوير قيد محل الحكم، بأن الزيادة والنقص المذكوران فيه ليسا على الإطلاق لتوفّر نفس العلة في المسألة التي قبلها وهي بطلان التعامل بالفلوس.
مثال الاستدراك على مُقدّر في التصور:
النموذج الأول:
قول ابن عابدين (5) بعد أن قرر مذهب الحنفية في مسألة التعويض حال رخص النقود وغلائها، بذكر قول الإمام وموافقة أبي يوسف له أولاً ثم رجوعه ثانيًا: «ثم اعلم
(1) لما قرّر الرهوني أن مذهب المدونة هو قضاء مثل الفلوس إن بطل التعامل بها، ذكر من خالف هذا المذهب من المالكية، وأنهم علّلوا صحة القول بالقيمة بأن المُعطي قد أعطى شيئا مُنتفعًا به، لأخْذ شيء منتفع فيه، فلا يُظلم بأن يُعطى ما لا يُنتفع به. [يُنظر: حاشية الرهوني، (5/ 120)].
(2)
(5/ 121).
(3)
نوع من النقود المضروبة من غير الذهب والفضة قيمتها سدس درهم، وهو عند الحنفية:(0،521 جرامًا)، وعند الجمهور:(0،496 جرامًا). [يُنظر: المكاييل والموازين الشرعية، علي جمعة محمد، (28)].
(4)
حاشية الرهوني، (5/ 118).
(5)
هو: محمد أمين بن عمر بن عبد العزيز بن أحمد، الشهير بابن عابدين، الدمشقي الحنفي، مفتي الديار الدمشقية، يتصل نسبه إلى سيدنا الحسين، نشأ في حجر والده، اشتغل بالعلم من الصغر، وحفظ المتون في القراءات والفقه والنحو والصرف وغيرها، تفنن وأفتى ودرس، وله تآليف عدة منها:«العقود الدرية في تنقيح لفتاوى الحامدية» و «حاشية على البحر الرائق» وأخرى على شرح المنار سماها «رد المحتار» و «شرح عقود رسم المفتي» ، توفي سنة 1252 هـ بدمشق.
[يُنظر: فيض الملك الوهاب المتعالي بأنباء أوائل القرن الثالث عشر والتوالي، عبد الستار بن عبد الوهاب البكري الهندي، (2/ 1338). و: الأعلام، (6/ 42)].
أن الظاهر من كلامهم أن جميع ما مر إنما هو في الفلوس والدراهم التي غلب غشها (1)، كما يظهر بالتأمل، ويدل عليه اقتصارهم في بعض المواضع على الفلوس وفي بعضها ذكر العَدَالِي (2) معها
…
» (3).
تحليل الاستدراك:
استدرك ابن عابدين على تصوّر مقدّر لموضوع القضية، ذلك التقدير هو إدخال عناصر إلى القضية ليست من محل الحكم، فأفادنا بهذا الاستدراك أن الدراهم الخالصة أو التي خفّ غشها لا يتأثر ما ترتب في الذمة منها حال الرخص والغلاء.
النموذج الثاني:
جاء في (المغني): «وقال أحمد في رجل تزوج امرأة، فأُدخلت عليه أختها: لها المهر؛ بما أصاب منها، ولأختها المهر. قيل: يلزمه مهران؟ قال: نعم، ويرجع على وليها. هذه مثل التي بها برص أو جذام، علي يقول: ليس عليه غرم. وهذا ينبغي أن يكون في امرأة جاهلة بالحال أو بالتحريم. أما إذا علمت أنها ليست زوجة محرمة عليه،
(1)«يتمثّل غش الدراهم الفضية في خلطها بالصفر أو النحاس حتى يصبح عيارها رديئا، أو بأن تضرب من النحاس أو الصفر وتبطن بالفضة» . [تطور النقود في ضوء الشريعة الإسلامية مع العناية بالنقود الكتابية، أحمد حسن أحمد الحسني، (88)].
(2)
«بفتح لعين المهملة وتخفيف الدال المهملة وباللام المكسورة، أي الدراهم المنسوبة إلى العدالي وكأنه اسم ملك سب إليه درهم فيه غش» [البناية، (7/ 638 - 639)].
(3)
مجموعة رسائل ابن عابدين - تنبيه الرقود على مسائل النقود من رخص وغلاء وكساد وانقطاع، محمد أمين أفندي الشهير بابن عابدين، (2/ 61).
وأمكنته من نفسها، فلا ينبغي أن يجب لها صداق؛ لأنها زانية تطاوعه، فأما إن جهلت الحال فلها المهر ويرجع به على من غره» (1).
تحليل الاستدراك:
موضوع المسألة: هو إدخال أخت الزوجة على الزوج.
محمولها: أنّ لهذه المُدخلة (وهي أخت الزوجة) المهر؛ وسبب استحقاقها له: ما أصاب منها.
وألفاظ القضية الفقهية قد أوصلت معناها جيِّدًا، ولكن لما كان الموضوع بظاهره واصفًا لحالٍ مطْلقةٍ للأخت المُدخلة، والحكم إنما يختص بحال معينة، وهو جهلها بالحال أو جهلها بالتحريم - لزم الأمر الكشف عن هذا الحال لئلا يُحمل قول الإمام على الإطلاق، وبهذا يتنقح محل الحكم، وهذا الاستدراك بالكشف عن هذا الوصف المؤثّر أتى خشيةً من غيابه عن ذهن المُتلقي، فيُخطئ في التصوّر.
(1)(9/ 481).