الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من دفائن رسائل الجاحظ
رسالة في إثبات إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه
السلام
للجاحظ
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا الكتاب من اعتزل الشك، والظن، والدعوى، والاهواء، وأخذ باليقين والثقة من طاعة الله، وطاعة رسوله، صلى الله عليه وسلم، وبإجماع الأمة بعد نبيها عليه السلام، مما تضمنه الكتاب والسنة، وترك القول بالآراء، فأنها تخطئ وتصيب، لان الأمة أجمعت أن النبي صلى الله عليه وآله، شاور أصحابه في الأسرى ببدر، واتفق رأيهم على قبول الفداء منهم، فأنزل الله تعالى:(ما كان لنبي حتى يكون له أسرى) الآية.
فقد بان لك أن الرأي يخطئ ويصيب، ولا يعطي اليقين، وإنما الحجة الطاعة لله ولرسوله، وما أجمعت عليه الأمة من كتاب الله، وسنة نبيها، ونحن لم ندرك النبي، ولا أحداً من أصحابه الذين اختلفت الأمة في حقهم، فتعلم أيهم أولى، ونكون معهم كما قال تعالى: وكونوا مع الصادقين ونعلم أيهم على الباطل فنجنبهم، وكما قال تعالى: والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً. حتى أدركنا العلم فطلبنا معرفة الدين واهله، واهل الصدق، والحق، فوجدنا الناس مختلفين يبرأ بعضهم من بعض، ويجمعهم في حال اختلافهم فريقان؛ أحدهما قالوا أن النبي صلى الله عليه وآله، مات ولم يستخلف احداً، وجعل ذلك إلى المسلمين يختارونه، فاختاروا أبا بكر. والآخرون قالوا: إن النبي صلى اله عليه وآله، استخلف علياً فجعله إماماً للمسلمين بعده. وادعى كل فريق منهم الحق.
فلما رأينا ذلك، وقفنا الفريقين لنبحث ونعلم المحق من المبطل، فسألناهم جميعاً: هل للناس بد من وال يقيم أعيادهم، ويجبي زكواتهم. ويفرقها على مستحقيها، ويقضي بينهم، ويأخذ لضعفهم من قويهم، ويقيم حدودهم،
فقالوا لابد من ذلك، فقلنا: هل لأحد أن يختار أحداً فيوليه بغير نظر في كتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: لا يجوز ذلك إلا بالنظر. فسألناهم
جميعاً عن الإسلام الذي أمر الله به. فقالوا: إنه الشهادتان، والإقرار بما جاء من عند اله، والصلوة، والصوم، والحج بشرط الاستطاعة، والعمل بالقرآن يحل حلاله ويحرم حرامه. فقبلنا ذلك منهم لإجماعهم. ثم سألناهم جميعاً: هل لله خيرة من خلقه اصطفاهم واختارهم؟ فقالوا نعم: فقلنا: ما برهانكم؟ فقالوا: قوله تعالى: ربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة من أمرهم، فسألناهم من الخيرة؟ فقالوا: هم المتقون. قلنا ما برهانكم؟ قالوا: قوله تعالى. إن أكرمكم عند الله اتقاكم فقلنا هل لله خيرة من المتقين؟ قالوا نعم، المجاهدون، بدليل قوله تعالى: فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة فقلنا: هل لله خيرة من المجاهدين؟ قالوا جميعاً، نعم السابقون من المهاجرين إلى الجهاد. بدليل قوله تعالى: لا يستوي منكم من قبل الفتح وقاتل. الآية. فقبلنا ذلك منهم لإجماعهم عليه؛ وعلمنا أن خيرة الله من خلقه؛ المجاهدون السابقون إلى الجهاد. ثم قلنا: هل لله منهم خيرة؟ قالوا: نعم. قلنا: من هم؟ قالوا: أكثرهم عناء في الجهاد، وطعناً وضرباً وقتلا في سبيل الله، بدليل قوله تعالى: ومن يعمل مثقال ذرة خيراً يره. وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله. فقبلنا ذلك منهم، وعلمناه وعرفنا أن خيرة الخيرة أكثرهم في الجهاد عناء. وأبذلهم لنفسه في طاعة الله، واقتلهم لعدوه. فسألناهم عن هذين الرجلين: علي بن أبي طالب عليه السلام، وأبي بكر، أيهما كان اكثر عناء في الحرب، واحسن بلاء في سبيل الله؟ فاجمع الفريقان علي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، أنه كان اكثر طعناً، وضرباً، واشد قتالا وأذب عن ديك الله ورسوله.
فثبت بما ذكرناه من إجماع الفرقين، ودلالة الكتاب والسنة، أن علياً عليه السلام افضل. وسألناهم ثانياً عن خيرته من المتقين، فقالوا هم الخاشعون بدليل قوله تعالى: وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ من خشي الرحمن بالغيب. وقال تعالى: أعدت للمتقين الذين يخشون ربهم.
ثم سألناهم: من هم الخاشعون. قالوا: هم العلماء. لقوله تعالى: إنما يخشى الله من عباده العلماء. ثم سألناهم جميعاً: من اعلم الناس؟ قالوا أعلمهم بالقول وأهداهم إلى الحق وأحقهم أن يكون متبوعاً ولا يكون تابعاً، بدليل قوله تعالى: يحكم به ذوا عدل منكم. فجعل الحكومة إلى أهل العدل. فقبلنا ذلك منهم، ثم سألناهم عن اعلم الناس بالعدل من هو؟ قالوا: ادلهم عليه. قلنا: فمن أدل الناس عليه؟ قالوا أهداهم إلى الحق،
وأحقهم أن يكون متبوعاً، ولا يكون تابعاً، بدليل قوله تعالى: أفمن يهدي إلى الحق أن يتبع. الآية.
فدل كتاب الله وسنة نبييه عليه السلام، والإجماع أن افضل الأمة بعد نبييها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، لأنه إذا كان أكثرهم جهاداً، كان اتقاهم، وإذا كان اتقاهم كان أخشاهم، وإذا كان أخشاهم كان أعلمهم، وإذا كان أعلمهم، كان أدل على العدل، وإذا كان أدل على العدل، كان أهدى الأمة إلى الحق، وإذا كان أهدى، كان أولى أن يكون متبوعاً، وان يكون حاكما. لا تابعاً ولا محكوماً عليه.
وأجمعت الأمة بعد نبييها أنه خلف كتاب الله تعالى ذكره، وأمرهم بالرجوع إليه إذا نابهم أمر، وإلى سنة نبيه صلى الله عليه وسلم فيتدبرونهما ويستنبطون منهما ما يزول به الاشتباه. فإذا قرأ قارئهم: وربك يخلق ما يشاء ويختار. فيقال له أثبتها. ثم يقرأ أن أكرمكم عند الله اتقاكم، وفي قراءة ابن مسعود أن خيركم عند الله أتقاكم. ثم يقرأ وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ من خشي الرحمن بالغيب. فدلت هذه الآية على أن المتقين هم الخاشعون. ثم يقرأ حتى إذا بلغ إلى قوله تعالى: إنما يخشى الله من عباده العلماء، فيقال لم: اقرأ حتى ننظر، هل العلماء افضل من غيرهم أم لا؟ حتى إذا بلغ إلى قوله تعالى يرفع الله الذين آمنوا منكم، والذين أوتوا العلم درجات، قيل قد دلت الآية على أن الله تعالى قد اختار العلماء وفضلهم ورفعهم درجات، وقد أجمعت الأمة على أن العلماء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين يؤخذ عنهم العلم، كانوا أربعة: علي بن أبي طالب عليه السلام، وعبد الله بن العباس، وابن مسعود، وزيد بن ثابت رضي الله عنهم.
وقالت طائفة عمر بن الخطاب رضه: فسألنا الأمة من أولى الناس بالتقديم، إذا حضرت الصلوة؟ فقالوا أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: يؤم بالقوم أقرأهم، ثم أجمعوا أن الأربعة كانوا أقرأ لكتاب الله تعالى من عمر؛ فسقط عمر. ثم سألنا الأمة: أي هؤلاء الأربعة اقرأ لكتاب الله وافقه لدينه، فاختلفوا، فوقفناهم حتى نعلم، ثم سألناهم: أيهم أولى بالإمامة، فاجمعوا على أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الأئمة من قريش. فسقط ابن مسعود وزيد بن ثابت، وبقي الإمام علي بن أبي طالب وابن عباس، فسألنا أيهما أولى بالإمامة: فاجمعوا على أن النبي صلى الله عليه وآله، قال: إذا كان عالمين فقيهين قرشيين، فأكبرهما سناً، وأقدمهما هجرة. فسقط عبد الله
بن العباس، وبقي أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب، صلوات الله عليه. فيكون أحق بالإمامة لما أجمعت عليه الأمة، ولدلالة الكتاب والسنة عليه.
هذا آخر رسالة أبي عثمان عمر بن بحر الجاحظ.
فضل الله الزنجاني
كلمة في هذه الرسالة الجاحظية
نحن لا نستغرب مقالة الجاحظ في تفضيل علي - ع - على غيره من الخلفاء الراشدين لأنه كن يصح عليه قول الشاعر: (واقذف بنفسك حيث ترجو الدرهما) على أن الذي يقرأ شيئاً من كتابه العثمانية يظهر له تفضيله وتقدينه إسلام أبي بكر - رض - على إسلام (الإمام علي) - ع - ونقضه فضائل علي - ع - واستهوانه أفعاله للإسلام. وقد قال أبو جعفر الإسكافي المعتزلي فيه وفي مقالاته بكتابه نقض العثمانية. أما القول فممكن والدعوى سهلة سيما على مثل الجاحظ فأنه ليس على لسانه من دينه وعقله رقيب وهو من دعوى الباطل غير بعيد فمعناه نزر وقوله لغو ومطلبه سجع، وكلامه لعب ولهو. يقول الشيء وخلافة، ويحسن القول وضده، ليس له من نفسه واعظ ولا لدعواه حد قائم. وقال:(إن مثل الجاحظ مع فضله وعلمه لا يخفى كذب هذه الدعوى (هي عدم اعتراف علي لنفسه بالتقدم في الإسلام) وفسادها، ولكنه يقول ما يقوله تعصباً وعناداً). وعناه أبو جعفر - على ما ظهر لنا - (ومعتزلي قد نقض في الكلام وابصر في الاختلاف وعرف الشبه وموضع الطعن وضروب التأويل قد التمس الحيل في إبطال مناقبه (أي مناقب علي - ع -) وتأويل مشهور فضائله فمرة يتأولها بما لا يحتمل
ومرة يقصد أن يضع من قدرها بقياس منتقص). وقال: (ينبغي أن ينظر أهل الإنصاف ويقفوا على قول الجاحظ والأصم في نصرة العثمانية واجتهادها في القصد إلى فضائل هذا الرجل وتهجينها، فمرة يبطلان معناها ومرة يتوصلان إلى حط قدرها فلينظر في كل باب اعتراضاً فيه. أين بلغت حيلتهما. وما صنعا في احتيالهما في قصصهما وسجعهما. أليس إذا تأملتها علمت أنها ألفاظ ملفقة بلا معنى وأنها عليها شجار وبلاء). وقال: (لا اشك أن الباطل خان أبا عثمان، والخطأ اقعده، والخذلان أصاره إلى الحيرة، فكا علم وعرف حتى قال ما قال). وقال أبو جعفر في قول للجاحظ: (هذا هو الكذب الصراح والتحريف والإدخال في الرواية ما ليس منها). وقال:
(إن أبا عثمان يجر على نفسه ما لا طاقة له به من مطاعن الشيعة). وقال في كلام له: (هذا الكلام وهجر السكران سواء في تقارب المخرج واضطراب المعنى). وقال: (نعجب من مذهب أبي عثمان، أن المعارف ضرورة وأنها تقع طباعاً. وفي قوله بالتولد وحركة الحجر بالطبع حتى رأينا من قوله ما هو اعجب منه، فزعم أنه ربما يكون جهاد علي - ع - وقتله المشركين لا ثواب فيه لأنه فعله طبعاً. وهذا أطرف من قوله في المعرفة وفي التولد). وقال: (لقد أعطي أبو عثمان مقولا وحرم معقولا أن كان يقول هذا على اعتقاد وجد، ولم يذهب به مذهب اللعب والهزل أو على طريق التفاصح والتشادق وإظهار القوة والسلاطة وذلاقة اللسان وحده الخاطر والقوة على جدال الخصوم). قلنا: وقد بلي الجاحظ من أبي جعفر الإسكافي بحجيج ذي مرة وحجج راسية.
مصطفى جواد