الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرضم في شمالي العراق
مقدمة
في جبال الكرد في الجهة الشرقية الشمالية من العراق يلقى السائح من حين إلى حين مناظر طبيعية خلابة تأخذ بمجامع القلوب. فهناك تتكلل رؤوس الجبال الشامخة بالثلوج شتاء وتبقى آثار الثلوج إلى أواسط الصيف. وهناك في الجبال البعيدة عن البليدات والقرى ترى الجبال مكسوة أشجار العفص والبلوط وأشجار الفواكه والأثمار التي غرستها بد القدرة من زعرور وكمثرى وجوز ولوز وبطم وسماق وغيرها وأشجار أخر غير مثمرة تصلح للنجارة والوقود قد ظللت مجاميع من الأعشاب والأزهار مختلفاً ألوانها. وهناك أودية ومنحدرات تنساب فيها المياه صافية كاللجين، وتكون أحياناً شلالات صغيرة لطيفة يطرب خريرها. أضف إلى ذلك أنواعاً من الطيور. كل تلك المناظر البديعة التي لا يختفي بعضها عن عين المسافر إلَاّ ويظهر له غيرها تجعله لا يمل السفر في الربيع وأوائل الصيف ولا يحس بالتعب فيلازم طريقه جذلاً مستنشقاً هواءاً صافياً لا بل عبيراً منعشاً.
ولكن ما منحته الطبيعة هذه البقعة المباركة لا يتناسب معه ما قامت به يد البشر من العمران. فليس هناك من طرق معبدة إلَاّ في اتجاهات معينة والى مدى محدود. وليس هناك من مدن حديثة وقرى أنيقة ومنازل جمعت وسائل الراحة والرفاهية. بل جل ما هناك بليدات من الطراز القديم وقرى حقيرة وأكواخ بائسة.
على أن السائح الباحث يجد في كثير من المواقع آثار مهمة تاريخية، لا بل آثار ما قبل التاريخ. يجد هنا وهناك كثيراً من خرائب القلاع وغرفاً ومساكن وصهاريج منقورة في الصخر، وبعض آثار الآشوريين والفرس وغيرهم وأخرى أقرب عهداً، وهذه الآثار كثيرة لا تقع تحت حصر، والبحث عنها يستغرق زماناً طويلاً ويستلزم تأليف مجلدات عدة.
موضوع البحث
غير أني أقصد في هذه العجالة ذكر آثار عادية عجيبة صادفتها في بعض أسفاري، وهي عبارة عن أبنية منفردة أقيمت في سفوح بعض الجبال لم يستعمل
فيها شيء من مواد البناء
سوى صخور عظيمة لا يكفي لرفع الواحدة منها عن الأرض أقل من عشرة رجال شداد أو أكثر. وقد أحكم رصفها وتطبيق بعضها على بعض بحيث لا تتجاوز الواحدة الأخرى خارج البناء ولا داخله. ولم يعط للصخور التي فيها شكل هندسي، بل تركت كل صخرة على حالها بعد حذف ما يزيد عن المطلوب منها. ولكن جعل القسم الذي أقل ثخناً من الصخرة يقابله القسم الاثخن من التي تحتها والقسم المحدب من الصخرة الواحدة يلاقيه القسم المقعر من الأخرى. وقد حبكت هذه الصخور بحيث يؤلف المجموع جدراناً أربعة تحيط بفضاء على شكل غرفة كبيرة مربعة مستطيلة. ولا بد أنه كان لهذه الغرف أبواب ضيقة وسقوف من خشب وأغصان الشجر فوقها تراب كما هو الحال في ريازة مساكن الكرد الحالية. وقد سقط بعض الصخور من أعالي الجدران إلى داخل الغرفة وخارجها، وذلك أما من عمل الأعداء أو عبث العابثين أو من تأثير الزلازل العظيمة ولا أعلم الغاية من هذه الأبنية العجيبة، هل كانت مسكناً للرؤساء الأقوياء الجبابرة أم محلاً للأصنام أو مذبحاً لتقديم الأضحية للآلهة.
تسمي الكرد هذه الماديات (دهر كافره) بكسرات ثلاث في دهر وبكسر الفاء في كافره، ومعناه دير الكافر أو حصن الكافر. وتسميه نصارى قرية (برسفة) أو برسبا (أي بئر السبع بلغة عوام السريانيين) الواقعة شرقي زاخو وأهل شارنش نصارى في شماليها ب (قصر سطانا) أي قصر الشيطان. ولا يعرفون عنها شيئاً مطلقاً غير أنهم يعتقودن أنها قديمة جداً جداً.
رأيت واحداً من هذه الأبنية في الشمال الغربي من قرية برسفة يبعد عنها نحو كيلو مترين أو ثلاثة. وآخر في سفح رابية مرتفعة في الجهة الشمالية من قرية (شرانش نصارى)(لأنهما قريتان غير بعيدة إحداهما عن الأخرى، يسكن السفلى منهما كرد وتسمى (شارنش إسلام) والأخرى أعلى وهي (شارنش نصارى) هذه). ورأيت أثنين منها: الواحد قرب الآخر في سفح جبيل في شرقي (مارسيس). وهي قرية في واد بين جبال شاهقة تقع شمالي شارنش وكل هذه القرى داخلة في حدود العراق.
إن وقوع هذه الأبنية في سفوح الجبال خصيصاً تدل على أنهم كانوا يعمدون
إلى صخور السفح فيزلمونها أي فيشذبون منها الأطراف الناتئة والزائدة عن المقدار المطلوب ويقلبونها
على الأرض إلى أسفل حتى إذا بلغوا بها المكان المطلوب وضعوه عليه وأتوا بالثانية والثالثة الخ. حتى إذا أرتفع بهم البناء دمساً جعلوا حوله وداخله تراباً كي تسهل عليهم دحرجة صخور أخرى ووضعها في المكان المطلوب. وهكذا يضعون التراب أطراف البناء كلما أرتفع حتى ينتهوا من عملهم. ثم يزيلون التراب فيبرز البناء.
لا بد من القول أن العرب عرفوا هذه الأبنية أو شيئاً من قبيلها. فقد ورد في مادة رضم في تاج العروس ما نصه: (والرضم بالفتح ويحرك وككتاب وأقتصر الجوهري على الأولى والأخيرة صخور عظام يرضم بعضها فوق بعض في الأبنية. الواحدة رضمة). وجاء فيه: (الرضيم والمرضوم البناء بالصخر) وفيه: (ذات الرضم من نواحي وادي القرى وتيماء، وذو الرضم موضع حجازي) وفيه: (رضم عليه رضماً: وضع الحجارة بعضها فوق بعض ورضم المتاع فارتضم مثل نضده فأنتضد). ويقرب من الرضام لفظاً ومعنى الركام. جاء في القرآن الكريم (ثم يجعله ركاماً) يعني السحاب أي يجمع بعضه فوق بعض. ويقرب منهما لفظ الرخام أي المرمر لأنهم يقدون منه قطعاً يجعلون بعضها فوق بعض.
إن ما تسميه الإفرنج بالأبنية الدرويدية نسبة إلى الدرويد وهو كاهن القاطيبن قبل المسيحية في غربي أوروبا والتي منها ما هو على شكل خوان عظيم مؤلف من صخرة منبسطة قائمة على صخرتين أو أربع وتسمى بال (دلمن ومنها ما هو عبارة عن صخور ركزت عمودياً وصفت بشكل محيط دائرة، أقول أن الأبنية الدرويدية وأن كانت من الأعمال الرضامية أيضاً فهي بسيطة نسبة إلى هذه الرضم (قصور الشيطان).
لا بد أن الرضم لا تقتصر على ما ذكرت ولا بد أن منها ما هو في سائر أنحاء كردستان داخل حدود العراق وخارجه وفي أراض جبلية أخرى في سائر أنحاء آسيا وأوربا وغيرهما، ولا بد أن علماء الإفرنج بحثوا عنها. ولكني لم أطلع على ما كتبوه عنها ولا أعلم بماذا أسموها. فارجوا ممن له إطلاع أن يتحفنا بمعلومات أوفى وأتم عنها وأحث السياح ومحبي البحث على مشاهدتها.
الدكتور داود الجلبي