الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فوائد لغوية
نقد تاريخ الأدب العربي
3 -
قرأ الزيات الأستاذ المهذب ما كتبناه في نقد الطبعة الثانية من كتابه هذا فلم يسخط ولا أوجسنا منه شأن المستكبرين بل أهدى إلى إدارة لغة العرب نسخة من كتابه من الطبعة الخامسة المزيدة المنقحة بمطبعة الاعتماد بالقاهرة 1349 هـ 1930 م، وكأنه رأى في الطبعة الثانية ما يلوي بمجهوده الذي أودع الطبعة الأخيرة إياه، ومن أحرى بالحق من صاحبه؟ وأشرف من طالبه؟ ولم يبعث بالكتاب غفلاً بل أرسل به وبكتاب يبين عما أضطم عليه هو من نفس كريمة وأخلاق طاهرة وطبع هادئ، ومما كان في هذا الكتاب أنه لم يوافقنا على الفصاحة التي تنشأ من استعمال جمع القلة وجمع الكثرة في مواضعهما محتجاً بان ذلك القيد من قيود القدماء الركيكة، ولإيضاح الأمر نورد ما جاء في المصباح المنير. قال الفيومي: (وأما ثلاثة قروء فقال الأصمعي: هذه الإضافة على غير قياس والقياس ثلاثة إقراء لأنه جمع قلة مثل ثلاثة أفلس وثلاثة رجلة ولا يقال: ثلاثة فلوس ولا ثلاثة رجال، وقال النحويون: هو على التأويل والتقدير: ثلاثة من قروء لان العدد يضاف إلى مميزه وهو من ثلاثة إلى عشرة قليل والمميز هو المميز فلا يميز القليل بالكثير، قال: ويحتمل عندي أنه قد وضع أحد الجمعين موضع الآخر أتساعاً لفهم المعنى - هذا ما نقل عنه - وذهب بعضهم إلى أن مميز
الثلاثة إلى العشرة يجوز أن يكون جمع كثرة من غير تأويل فيقال: خمسة كلاب وستة عبيد، ولا يجب عند هذا القائل أن يقال: خمسة أكلب ولا ستة أعبيد) أهـ. وهذا السبب الذي حملنا على أننا لم نخطئ الأستاذ الزيات ولكن لم نستفصح قوله، على أنه - حفظه الله - على بينة من تكلفات القدماء محق في دعواه، وقال المبرد في (2: 192) من الكامل توضيحاً لقول عمر بن أبي ربيعة:
فكان مجني دون من كنت أتقي
…
ثلاث شخوص كاعبان ومعصر
ما صورته (وقوله ثلاث شخوص، والوجه ثلاثة أشخص): قلنا وكان المبرد قد قال - كما في (1: 60) من كامله (وتصير حروف المضارعة تابعة للياء) وقال فيها (وحروف الحلق
سنة الهمزة والهاء والعين والغين والحاء والخاء) ولم يقل (الوجه أن أقول: أحرف المضارعة وأحرف الحلق) فما أحراه بذلك!.
ظهور الإسلام واستقلال العدنانيين
وقال في ص 3 عند كلامه على اعصر الأدب (العصر الجاهلي ويبتدئ باستقلال العدنانيين عن اليمنيين في منتصف القرن الخامس للميلاد وينتهي بظهور الإسلام سنة 622 م) قلنا: ما نعلم حقيقة هذا الاستقلال ولم يذكر الزيات مصدر روايته وكل أمر تاريخي يذكر اليوم بلا مرواه لا يركن إليه ولا يوثق به، فإن كان الزيات على ثقة من أن العدنانيين استقلوا في القرن الخامس للميلاد فكيف يقول في ص 13 (فإن القحطانيين جلوا عن ديارهم بعد سيل العرم - وقد حدث عام 447 م كما حققه غلازر الألماني - وتفرقوا في شمال الجزيرة واستطاعوا بما لهم من قوة وما كانوا عليه من رقي أن يخضعوا العدنانيين لسلطانهم في العراق والشام كما أخضعوهم من قبل لسلطانهم في اليمن) وروى الواقدي في المغزي - كما في مج 3 ص 362) من شرح أبن أبي الحديد قول إياس بن أوس بن عتيك لرسول الله (ص)(وقد كنا يا رسول الله في جاهليتنا والعرب يأتوننا فلا يطمعون بهذا منا حتى نخرج إليهم بأسيافنا فنذبهم عنا، فنحن اليوم أحق إذ أمدنا الله بك). وفي ص 361 منه قول عبد الله بن أبي (يا رسول الله كنا نقاتل في الجاهلية في هذه المدينة (أي يثرب) ونجعل النساء والذراري في هذه الصياصي ونجعل معهم الحجارة، والله لربما مكث الولدان شهراً ينقلون الحجارة إعداداً لعدونا ونشبك المدينة بالبنيان فتكون كالحصن من كل
ناحية وترمي المرأة والصبي من فوق الصياصي والآطام ونقاتل بأسيافنا في السكك، يا رسول الله أن مدينتنا عذراء ما فضت علينا قط، وما خرجنا إلى عدو قط منها، إلا أصاب منا، وما دخل علينا قط إلا أصبناه) ففي الحجاز كانت الحروب والغزوات حاملة أوزاها، والمدينة كانت للقحاطنة. أما مدة الجاهلية فهي (120) سنة ولم يذكر الزيات أسم القحطانيين المغلبين على عدنانيي الشام والعراق في هذا القرن المذكور، ولعله أراد الغساسنة واللخميين فاللخميون مبدأ ملكهم على العراق سنة (268 م) ويقاس زمن الغساسنة على زمنهم، وحينئذ لا يوافق زمن جلائهم وقت ملكهم فيلزم أن يكون الجلاء قبل ما نقله الأستاذ الزيات، وأما أن الإسلام ظهر في سنة (622 م) فغير مقبول، لان هذا زمن هجرة
الرسول - ص - من مكة إلى المدينة كما ذكر هو في ص 87 فقد قال: (فكانت هذه الهجرة المباركة مبدأ لعلو كلمته وانتشار دعوته وتمام نصرته) فالصواب أن يقول (وينتهي بالهجرة سنة 622 م) أو يستبد به ما يريد.
رحلة الحجازيين التجارية
وقال في ص 7 (إلا قريشا فتحضروا لقيامهم على البيت الحرام وإيلافهم رحلة اليمن والشام) ثم قال في ص 16 عن قريش أيضاً: (وإيلافهم رحلة الشتاء إلى اليمن ورحلة الصيف إلى حوران) قلنا: أما رحلتهم إلى الشام فجائزة الحكم لان مرتحلهم داخل في ما يشمله الشام وأما تخصيص الرحلة بحوران فنحن نشك في جوازه، قال الواقدي:(وحثني هشام بن عمارة بن أبي الحويرث، قال: كان لبني عبد مناف فيها (أي في العير) عشرة آلاف مثقال وكان متجرهم إلى غزة من ارض الشام) وقال الواقدي أيضاً: (فكانت العير ألف بعير وكان المال خمسين ألف دينار وكانوا يربحون في تجاراتهم بالدينار ديناراً وكان متجرهم من الشام غزة لا يعدونها إلا غيرها).
وقال أبن خلكان في ترجم إبراهيم الغزي: (ولد الغزي المذكور بغزة وبها
قبر هاشم جد النبي - ع -. . . وغزة بفتح العين المعجمة وتشديد الزاي وبعدها هاء وهي البليلدة المعروفة في ساحل الشامي. . . من أعمال فلسطين على البحر الشامي بالقرب من عسقلان وهي في أوائل بلاد الشام من جهة الديار المصرية وهي إحدى الرحلتين المذكورتين في كتاب الله العزيز في قوله تعالى: (رحلة الشتاء والصيف)، واتفق أرباب التفاسير أن رحلة الشتاء بلاد اليمن ورحلة الصيف بلاد الشام فقد كانت قريش في متاجرها تأتي الشام في فصل الصيف لأجل طيب بلادها في هذا الفصل، وتأتي اليمن في فصل الشتاء لأنها بلاد حارة لا تستطيع الدخول إليها في فصل الصيف، قال أبو محمد عبد الملك بن هشام في أوائل سيرة رسول الله - ص -: أول من سن الرحلتين لقريش رحلة الشتاء والصيف هاشم جد النبي - ع - ثم ذكر بعد هذا بقليل، قال ابن إسحاق:(هلك هاشم بن عبد مناف بغزة من أرض الشام تاجراً) أهـ كلام ابن خلكان.
فقول الأستاذ الزيات يستلزم له مصدر ثقة، فان الواقدي ذكر أنهم لا يجاوزون غزة في متاجرهم.
الخصيص والخصيصة
وقال الأستاذ في الصفحة نفسها تعليقاً (إن البداوة خصيصة العرب في التاريخ القديم) وقد قال الفاضل أسعد خليل داغر في (ص 64، 65) من تذكرة الكاتب: (ولهم في هذه الأيام باستعمال كلمة: خصيص وخصيصة، ولع يفوق الوصف حتى أنك قلما تجد كاتباً يتجافى عن استعمالهما فتراهم يقولن: دعاني إليه خصيصاً وأقام له حفلة خصيصة وكان كلامه موجهاً إلي خصيصاً، وكأني بهم حذفوا من معاجم اللغة كلمة: مخصوص ومخصوصة وعلى الخصوص وخصوصاً وخاصة، واستغنوا عنها كلها بكلمة: خصيص وخصيصة، ولا يخفى أن صيغة فعيل بمعنى المفعول ليست من المقيسات بل هي مما يؤخذ بالسماع، ولم ينقل عن العرب: خصيص بمعنى مخصوص، نعم إنه سمع في بيتين قالهما أبو الرقمع ويخيل إليّ أن فقره الأدبي كان أشد من فقره المادي، وإلا لم يضطر إلى مخالفة
المسموع في هذا الاستعمال وكان في استطاعته أن يقول: واتى إلي رسولهم مخصوصاً، ويتخلص من خصيص. . .) وتابعه على هذا الرأي الشيخ إبراهيم المنذر فقال في ص 44 من كتابه (كتب خصيصاً لهذه المجلة: كتب خصوصاً أو خاصة لهذه المجلة لان وزن فعيل لم يسمع فصيحاً من هذا الحرف وابن الرقمع (كذا) لا يعد حجة بقوله:
أصحابنا قصدوا الصبوح بسحرة
…
واتى رسولهم إلي خصيصاً. . .) أهـ
قلنا: لا يرى اللغوي الأديب التحري ولا التدقيق في ما أجمع عليه هذان الفاضلان لان هذه الكلمة وأمثالها مما يبنى عليه أساس ترقي العربية في عصرنا. فينبغي لهما التوسع والتبسط في الكلام عليها، فالخصيصة أما بمعنى (الخصوص) كالجريرة والجريمة والرذيلة والشتيمة والسيئة والسوية والفضيلة والقذيعة والنقيصة والنميمة وهي أسماء مصادر، وإما بمعنى (خاصة) وأما بمعنى (مخصوصة) فالأولى كما في قول أبن أبي الحديد عن علي بن أبي طالب - ع - (فسبحان من خصه بالفضائل التي لا تنتهي ألسنة الفصحاء إلى وضعها وجعله أمام كل ذي علم، وقدوة كل صاحب خصيصة) وقال أبو جعفر الإسكافي - رض - (وهل ينتهي الواصف وان أطنب: والمادح وإن أسهب إلى الإبانة عن مقدار هذه الفضيلة والإيضاح بمزية هذه الخصيصة).
والثانية كما في قول الإمام علي - ع - في نهج البلاغة (أنا وضعت في الصغر بكلاكل
العرب، وكسرت نواجم قرون ربيعة ومضر، وقد علمتم موضعي من رسول الله - ص - بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره) أي المنزلة الخاصة وهي ضد العامة، وأما الثالثة فهي كالذبيحة والنطيحة والبحيرة ففي مادة (ش ج1) من مختار الصحاح (ويقال: ويل للشجي من الخلي، قال المبرد: ياء الخلي مشددة وياء الشجي مخففة، قال: وقد شدد في الشعر وأنشد: نام الخليون عن ليل الشجيينا، فان جعلت الشجي فعيلا من شجاه الحزن فهو مشجو
وشجي، كان بالتشديد لا غير) فهذا دليل على أن (فعيلا) بمعنى مفعول مقيس من كل فعل ثلاثي متعد ألا تراه يقول (فان جعلت) وقد أولعت العرب بفعيل بدلا من مفعول لخفته على اللسان وربما ألتبس بفاعل ولكنها لم تبال ذلك فقالت (البديع) لكليهما ومثله (الصريخ) للمغيث والمستغيث.
وأما الخصيص فثابت بحكم الخصيصة، قال ابن خلكان في ترجمة بهاء الدين زهير:(واخبرني جمال الدين أبو الحسن يحيى بن مطروح. . . قال: كتبت إليه - وكان خصيصاً به -) ونقل في ترجمة شهدة الكاتبة: (ثم علت درجته (أي درجة ثقة الدولة الانباري) إلى أن صار خصيصاً بالمقتفي) والقول للسمعاني وفي ص 45 من نسختنا للحوادث الجامعة (فكاتبا جماعة من الأتراك الخصيصين بالعادل محمد).
وتحويل (فاعل) إلى فعيل للمبالغة مطرد، قال ابن عقيل في شرح الألفية:(يصاغ للكثرة فعال ومفعال وفعول وفعيل وفعل فيعمل عمل الفعل) فماذا الذي يمنع (الخصيص) بمعنى الخاص من الموانع؟ وليس في العبارات التي ذكرها أسعد خليل داغر وإبراهيم المنذر ما يعين لفظ (الخصيص) للمخصوص لأنه يقبل المعنيين على تأويلين لا يخفيان على الأديب، فقول الأستاذ الزيات صواب سماعاً وقياساً وعقلا، وما تعرضنا له إلا لكونه معضلة لغوية عجز عنها الحالون على كبر دعواهم، ثم إننا نرى أن الخصائص جمع خصيصة لا خاصية كما رآه غيرنا.
دين شعيب بين العرب
وقال في ص 8 (وإنما كان بقية أثرية من دين إبراهيم جاءتهم من وراء القرون عن طريق الوراثة مشوهة) قلنا: بل كان من العرب من يدين بدين شعيب - ع - قال الحارث بن كعب المذحجي لبنيه لما حضره الموت: (يا بني قد أتى علي ستون ومائة سنة ما صافحت
بيميني يمين غادر، ولا قنعت نفسي بخلة فاجر، ولا صبوت بابنة عم ولا كنة، ولا طرحت عندي مومسة قناعها، ولا بحت لصديقي بسر، وأني لعلى دين شعيب النبي عليه السلام وما عليه أحد من العرب غيري وغير أحيد بن خزيمة وتميم بن مرة فاحفظوا وصيتي وموتوا على شريعتي. . .) ومن المؤكد أن بين دين إبراهيم ودين شعيب فرقاً بحسب تطور الإنسان وتبدل الزمان وتغير القرون وقانون الرسالة بل أن في الإسلام منسوخاً وناسخاً وهو دين رسول واحد.
م. جواد