الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من كلام الجاحظ
هذا كلام للجاحظ في كتابه (المعنون بالأخبار) نقله عنه الإمام المهدي لدين الله احمد بن يحيى في كتابه (المنية والأمل) قال:
قال الجاحظ أن الناس يخصون الدين من فاحش الخطأ وقبيح المقال ما لا يخصون به سواه في جميع العلوم والأداء والآداب والصناعات. إن الفلاح والصانع والنجار والمهندس والمصور والكاتب والحاسب من كل أمة وملة لا تجد بينهم من التفاوت في العقل والصناعة ولا من فاحش الخطأ وإفراط النقص كالذي تجده في أديانهم وفي عقولهم عند اختبار الأديان. والدليل على ما وصفت لك أن الأمم التي عليها المعتمد في العقل والبيان والرأي والأدب والاختلاف في الصناعات أربع: العرب والهند والروم والفرس. ومتى نقلتهم من الدنيا إلى علم الدين حسبت عقولهم مختبلة وفطرهم مسترفة كالعرب فأنها مخصوصة بأجود البيان الذي ليس كمثله بيان واللغة التي ليس مثلها في السعة لغة وقيافة الأثر مع قيافة البشر وليس في الأرض قوم غير العرب يرون المتباينين في الصورة المتفاوتين في الطول والقصر المختلفين في الألوان فيعلمون أن هذا الأسود ابن لهذا الأبيض وهذا الطويل ابن لهذا القصير وهذا القبيح عم هذا المليح. وللعرب الشعر الذي لا يشاركهم فيه أحد من العجم. وقد سمعت للعجم كلاماً حسناً وخطباً طوالاً يسمونه أشعاراً فأما أن لهم شعراً له اعاريض معلومة وأوزان معروفة إذا نقص منها أو زاد حرف أو تحرك ساكن أو سكن متحرك كسره وغيره فليس يوجد ذلك إلَاّ للعرب خاصة دون غيرهم وليس في الأرض قوم عني بذم جليل القبيح ودقيقه وبمدح دقيق الحسن وجليله مثل العرب حتى لو جهد أفطن البريئة واعقل الخليقة أن يذكر معنى لم يذكروه لما أصابه.
وللعرب من صدق الحس وصواب الحدس وجودة النظر وصحة الرأي ما لا يعرف لغيرهم ولهم العزم الذي لا يشبههم فيه عزم والصبر الذي لا يشبهه صبر والجود والأنفة والحمية التي لا يدانيهم أحد فيها ولا يتعلق بها رومي ولا
هندي ولا فارسي بل هذه الأمم كلها يخالف العرب. ثم لهم من بعد الهم والطلب بالطوائل ما ليس لغيرهم مع المعرفة بمساقط النجوم والعلم بالأنواء وحسن المعرفة مما يكون منها للاهتداء ولهم حظ العربية مع الحفظ
لأنسابهم ومحاسن أسلافهم ومساوئ اكفائهم والتعيير بالقبيح والتفاخر بالحسن ليجعلوا ذلك عوناً لهم على اكتساب الجميل واصطناع المعروف ومزجه لهم عن إتيان القبيح وفعل العار ليؤدبوا أولادهم بما أدبهم به آباؤهم ثم الحفظ الذي لا يقدر أحد على مثله وان دونه وخلده في كتبه لا تصاب إلَاّ فيهم وذلك أن العي والبيان في كل قوم منثور متفرق ولست ترى واحداً في البادية غبياً رأسا ً على انهم وان تفاوتوا في البيان فليس بمخرج أخسهم إلى العي. وفيهم أيضاً خصلة لا تصاب إلَاّ فيهم وذلك أن سفلة كل جيل وغفلة كل صنف إذا أشتد تشاجرهم وطالت ملاخاتهم وكثر مزاحهم والدعابة بينهم وجدتهم يخرجون إلى ذكر الحرمات وشتيمة الأمهات واللفظ السيئ والسفه الفاحش ولست بسامع من هذا حرفاً في البادية لا من صغيرهم ولا من كبيرهم ولا جاهلهم ولا عالمهم وكيف يقولون هذا والحيان منهم يتفانيان في دون ذلك. وليس في الأرض صبيان في عقول الرجال غير صبيانهم وكل شيء تقوله العرب فهو سهل عليها أو كطبيعة منها وكل شيء تقوله العجم فهو تكلف واستكراه. وللعرب البديهة في الرأي والقول خاصة ولهم الكنى في الأسماء خاصة وقد زعم قوم من الفرس أن فيهم الكنى واحتجوا بقول عدي بن زيد:
أين كسرى وكسرى الملوك أبو سا
…
سان أم أين قبله سابور؟
وليس كذلك إنما كناه عدي بن زيد على عادته حين أراد تعظيمه أن صحت رواية هذا البيت فأما أبو عمرو بن العلاء ويونس النحوي وأبو عبيدة فرووا جميعاً أن عدياً قال:
أين كسرى وكسرى الملوك أنو شر
…
وان أم أين قبله سابور؟
فاخطأ الراوي الرواية وقيل ذلك عنه من لا علم له وليس في الأرض عجمي له كنية إلَاّ أن تكنيه العرب.
قال الجاحظ وهم ما حكيت لك من حجة العقل وكرم الطبيعة وحسن البيان
وسعة المعرفة وجودة الرأي وشدة الأنفة يعبدون الحجارة ويحلفون بها ويتحامون كسرها وينكسون لها ويدعونها آلهة ويخاطبونها ولا يتجبرون عليها وينكرون على من ينقصها ثم مع ذلك ربما رموا بها واتخذوا سواها ثم كانوا يرون أن الرجل منهم إذا مات فلم يأخذ ولية بعيره فيحفر له حفرة ثم يقيده على شفيرها ويطرح برذعته على وجهه ورأسه ثم لا يسقيه ولا يعلفه حتى يموت. إن ذلك الرجل الميت يجيء يوم القيامة حافياً راجلاً فإذا فعل ذلك أتى راكباً
وذلك البعير يسمى البلية. قال ابن مقبل: كالبلايا رؤوسها في اللوايا. وقال آخر:
منازل لا ترى الأنصاب فيها
…
ولا حفر البلايا للمنون
ويقولون أيما رجل قتل فلم يطلب وليه بدمه خلق من دماغة طير يسمى هامة فلا يزال يزقو على قبره وينعى إليه حتى يبعد قال شاعرهم:
فان تك هامة بهراة تزقو
…
فقد أزقيت بالمروين هاما
ومن ثم كانوا يستسقون للميت وكانوا يقولون أيما شريف قتل فوطئته امرأة مقلات، عاش ولدها. قال بشر بن أبي حازم الأسدي:
تظل مقاليت النساء بطأنه
…
قلن ألا يلقى على المرء مئزر
وكانوا يقولون أن الرجل إذا ملك ألفاً من الإبل أن السواف يأتي على ابله فيفقأ عين الفحل فان زادت على ألف فقأ عينيه جميعاً فذلك المفقأ والمعمى قال الشاعر:
فقأت لها عين البعير تفقداً
…
وفيهن زعلا المسامع والجرن (كذا)
وكانوا إذا أجدبت بلادهم، فأرادوا الأستمصار، اخذوا بعيراً أورق، فشدوا في أذنيه العشر، والسلع، وصعدوه في الجبل وأشعلوه في أذنيه النار، ودعوا وتضرعوا ويزعمون انهم أن لم يفعلوا ذلك، لم يستجب الله منهم
وكانوا، إذا وقع العرفي الإبل، يأخذون بعيراً سليماً لا عيب فيه فيقطعون مشفره ثم يكوونه ليذهب العر عن سائر الإبل وإلا فشافيها. قال النابغة:
وحملتني ذنب امرئ وتركته
…
كذي العر يكوى غيره وهو راتع
وكان الرجل منهم إذا غزا، عقد خيطاً في ساق شجرة، إذا رجع ورآه منحلا
فقد خانته قعيدته بزعمهم، وان رجع ووجده بحاله، فقد حفظت نفسها له. قال الشاعر:
هل ينفعنك اليوم أن همت بهم
…
كثرة ما توصي وتعقاد الرتم
والرتمة: اسم الخيط بعينه.
وكانوا يقولون: إذا احب الرجل المرأة وأحبته، فان لم يشق عليها برقعها وتشق عليه رداءه، فسد حبهما، وان فعلا ذلك دام حبهما. قال عبد بني الحسحاس:
وكم قد شققنا من رداء ومئزر
…
ومن برقع عن طفلة غير عانس
إذا شق برد شق بالبرد مثله
…
دواليك حتى كلنا غير لابس
هذا مع إيمانهم بالعدوى والجن، وتكون الغيلان، وان الجن هي التي طردت أهل وبار عن ديارهم، وصارت الجن سكانها فليس بها إلا الجن والوحش.
ومع مذهبهم في الحام والبحيرة، والوصيلة، والسائبة، وسيأتي تفسيرها. وأمور كثيرة لا يحتاج إلى ذكرها، وإنما أردنا أن تعرف الناس التفاوت ما بين حال العاقل في دنياه ودينه، فإذا صار إلى التكذيب والتصديق. والإيمان والكفر، صار إلى غير ذلك الذي كان عليه من التمييز.
قال الجاحظ: ثم ملنا إلى الهند، فوجدناهم يقدمون في الحساب والنجوم، ولهم العلم الهندي خاصة، ويقدمون الطب، ولهم أسرار الطب، وعلاج فاحش الأدواء خاصة، ولهم خرط التماثيل، ونحت الصور، مع التصوير في الأصباغ وكوى المحاريب وأشباه ذلك.
ولهم الشطرنج، وهو اشرف لعبة، وأكثرها تدبيراً.
ولهم صنعة السيوف الهندية.
ولهم الكنككة وهي وتر واحد على قرعة، فيقوم مقام العود والضنج.
ولهم ضروب الرقص والخفة.
ولهم الثقافة خاصة.
ولهم السحر والترصد والخطب الطوال.
ولهم الرأي والنجدة والصبر، وليس لأحد من الصبر ما لهم،
ولهم الأخلاق المحمودة والسواك والخضاب.
وهم مع ما ذكرنا أصحاب بددة وهي جمع بد. والبد الصنم، ينحتونها بأيديهم ثم يعبدونها ويجعلون لهم بيوتاً كمساجد المسلمين، وفيها بنات رؤسائهم موهوبة لتلك البددة على وجه التقرب بها، والنذر، والكفارات، وتلك النساء واقفة للفساد والفجور يأمرها أهلها بذلك. ويرون أن لهم فيه أجراً عظيماً. ولهم عباد ورهبان متجردون عن اللباس يدعون الزهد في الدنيا، لا يمسون الماء ويتبركون بأوساخهم، ويختبرونهم بتلك النساء وملاعبتها، فمن اشتاق من أولئك العباد إلى تلك النساء. وهاج فقد كفر كفراً عظيماً؛ واتى بأعظم منكر، وألحقوه أنواع العذاب والنكال، وقتلوه. هذا في الزهاد خاصة، فأما غيرهم منهم، فلا ينكرون عليه الفجور بتلك النساء، وإذا اشتاق الهنود إلى زيارة موتاهم، أضرموا النيران،
وحملوا معهم الهدايا واللطائف، وتضمخوا بالصندل وتكفنوا، ورموا بأنفسهم في تلك النيران، ويزعمون انهم يرجعون إلى أهليهم إذا قضوا وطراً من زيارة موتاهم. وهذا عجيب في جميع الهنديين، إذ يرى دقة النظر في دنياهم وجهالاتهم في دينهم.
قال الجاحظ: ثم ملنا إلى الروم فوجدناهم أطباء وحكماء ومنجمين ولهم أصول اللحون وصنعة القرسطون.
وهم الغايات في التصوير، يصور مصورهم الإنسان، حتى لا يغادر شيئاً، ثم لا يرضى بذلك حتى يصوره شاباً، وان شاء كهلا، وان شاء شيخاً، ثم لا يرضى بذلك حتى يصوره باكياً، أو ضاحكاً، ثم لا يرضى بذلك حتى يجعله جميلا ناعماً، عتيقاً، ثم لا يرضى بذلك حتى يفصل بين ضحك الشامت، وضحك الخجل، وبين المتبسم والمستعبر، وبين ضحك السرور، وضحك الهازئ وضحك المتهدد، فيركب صورة في صورة، وصورة في صورة، وصورة في صورة.
ثم لهم في البناء ما ليس لغيرهم، ومن الخرط، والنجر، والصناعة، ما ليس
لسواهم ثم هم مع ذلك أصحاب كتاب وملة، ولهم من التدقيق في المكيدة ما ليس لغيرهم. ثم هم مع ذلك أجمع يرون أن الإلهة ثلاثة: بطن اثنان (كذا) وظهر واحد (كذا)، كما لابد للمصباح من الدهن والفتيلة والوعاء، فكذلك جوهر الآلهة. فزعموا: إن مخلوقاً استحال خالقاً، وان عبداً تحول رباً، وان حديثاً انقلب قديماً، إلا انه قد قتل. وصلب بعد هذا، وفقد (كذا) وجعل على رأسه إكليل الشوك، ثم أحيا نفسه بعد موته. وإنما أمكن عبيده من أخذه وأسره وسلطهم على قتله، وصلبه ليؤاسي أبناءه بنفسه، وليحبب إليهم التشبه به، وليستصغروا جميع ما صنع بهم (كذا)، ولئلا يعجبوا بأعمالهم فيستكثروها لربهم، فكان عذرهم اعظم من جرمهم. فلولا أنا رأينا بأعيننا، وسمعنا بآذاننا لما صدقنا، ولا قبلنا أن قوماً متكلمين، وأطباء، ومنجمين، ودهاة، وحساباً، وحذاق كل صنعة، يقولون في إنسان رأوه يأكل ويشرب، ويبول، وينجو، ويجوع، ويعطش، ويكتسي، ويعرى، ويزيد، وينقص، ثم يقتل بزعمهم ويصلب. إنه رب خالق، وانه قديم غير محدث، يميت الأحياء، ويحيي الموتى، وان شاء. . . في الدنيا، ثم يفتخرون بقتله. . . اليهود. (كذا. وفي هذه العبارات العائدة إلى الروم كلام مغلق غير واضح ولا متسق. وما كان منقطاً هو محذوف في الأصل. ل، ع)
قال الجاحظ: ثم ملنا إلى فارس، فوجدنا هناك العقول التي لا تبلغها عقول، والأحلام التي لا تشبهها احلام، والسياسة العجيبة. والملك المؤيد بتدبير الأمور، والعلم بالعواقب، ثم كانوا مع ذلك يغشون الامهات، ويأكلون الميتة، ويتوضأن بالأبوال، والماء موجود عندهم، ويعظمون النار، وهم أظهروها، وإن شاءوا أطفأنها. ويقولون أن الله كان وحده لا شيء معه،
فلما طالت وحدته استوحش؛ فلما استوحش فكر فلما فكر تولد من فكرته اهرمن، وهو ابليس، فلما مثل بين يديه أراد قتله، فلما أراد قتله امتنع، فصالحه إلى أجل معلوم، وأودعه إلى مدة مسماة، على أن لا يمتنع عليه إذا استوفى الاجل، وبلغ المدة، ثم أن اهر من نوى الغدر، وذلك لهيمنته فانشأ يخلق أصناف الشر، يستمد بها عليه، فلما عرف بذلك منه، أنشأ أصناف الخير، ليضع بازاء كل جند جنداً، وله بعد ذلك فضل قوته، وانه يسمى القديم دونه.
ثم قالوا في قسمة العوالم عندهم، وفي أسمائها وجواهرها، وهيئاتها، وفي خلق مهنه ومهينه وهو آدم وحواء، وفي لسومن المنتظر عندهم، ما لا يستطيع وصفه أحمق منقوص. ولا عالم تام، ولو جهد كل جهده، واستفرغ كل قوته.
قال الجاحظ: ووجه آخر يستدل به على قلة عناية الناس بأكثر (كذا، ولعلها بأمر) الدين وأن شأنهم تعظيم الرجال، والاستسلام للمنشأ، والذهاب مع العصبية والهوى، والرضا بالسائق إلى القلوب؛ واستثقال التمثيل، وبغض التحصيل، ما نجد من اعتقاد أكثر البصريين، وسوادهم، لتقديم عثمان بن عفان، ومن اعتقاد أكثر الكوفيين لتقديم علي بن أبي طالب (ع) ومن اعتقاد أكثر الشاميين لدين بني امية، وتعظيم عثمان، وحب بني مروان أهـ.
زنجان (إيران) في 7 ربيع الآخر 1348:
أبو عبد الله الزنجاني
(لغة العرب) تأخر نشر هذه المقالة لوقف الجزءين الأخيرين من هذا المجلة على الفهارس ولإتمام ما كان حضرة الدكتور داود بك الجلبي قد بعث به إلينا من رسائل الجاحظ.
فنطلب المعذرة من حضرة صديقنا الجليل الشيخ أبي عبد الله.