الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أصل اليزيدية وتاريخهم
3 -
نقول مختلفة عن نحلة اليزيدية:
كان صاحب كتاب النسطوريين بين عن اليزيدية ووصف حالتهم فأبدع الوصف. وذلك في المجلد الأول. وكانت عن مشاهدات قبل عام 1850م وفي ذلك العام نفسه.
ولا نتطلب من هذا السائح وأمثاله منهم اكثر من وصف الحالة. لذا يؤاخذ على بيان علاقة الماضي بالحاضر. فانه أبعد المرمى، وجعل اليزيديين بالإسلام، مداراً للاعتذار، وخوفاً من شرور المسلمين. وهذا فسر وجود الآيات القرآنية على أضرحة مشاهيرهم، بأنها ذر رماد في عيون المسلمين لدفع الغوائل عنهم. وذهب إلى أنهم من عباد يزدان، استناداً إلى قولهم نحن نعبد الله. والذي دفعه إلى هذا القول، ما تحققه منهم بصورة باتة أنهم نسوا الأسس التي تستند إليها ديانتهم.
وقبل نحو ثلاث سنوات، نشرت جريدة (العراق) في عددها المؤرخ في 25 كانون الأول سنة 1928 في عددها ال 2645 كلاماً للسر ريتشارد تمبل على اليزيدية، وبين أنهم مسلمون في الظاهر، ولكنهم من الغلاة في الباطن، وهم يؤمنون بالله وبآلهة صغيرة. . . إلى أن يقول: وهؤلاء الآلهة ليسوا واضحي الإلهية. وهم أشبه شئ بالقديسين عند النصارى، والأولياء عند المسلمين، لأنهم يعبدون الله، ولكنهم يراعون هذه الآلهة الصغرى. والتفاوت بين القولين كبير كما لا يخفى.
وهنا قول آخر، وهو لصاحب (دبستان مذاهب) بعنوان في
الأمويين واليزيديين وهذا نصه معرباً:
(هؤلاء يكونون في جبال المشرق في موقع يقال له (شوكنة) ويحكمهم
ملك يسمى يعقوب، يدعي انه من اصل أموي، وينتسب إلى خال المؤمنين معاوية بن أبي سفيان، وهم مشهورون بالشجاعة ومحرابون. ويواظبون على الصلوات. وأهل تقوى. ولديهم تفاسير كثيرة، ومؤلفات دين وفقه. يعتقدون بنبوة محمد (ص)، وإمامة الشيخين، ذي النورين، وخال المؤمنين معاوية. ويطعنون بعلي (ع) ويقولون انه ادعى الألوهية كاتباعه من الغلاة، وانه كان يدعوهم إلى ذلك وينسبون إليه هذه الخطبة:
(أنا الله، وأنا الرحمن، وأنا الرحيم، وأنا العلي، وأنا الخالق، وأنا الرزاق، وأنا الحنان، وأنا المنان، وأنا مصور النطفة في الأرحام). وأمثال ذلك. وهذا يشبه قول فرعون ونمرود وإضرابهما. ونظائر هذه الخطبة في كلامه كثير. وكان قاسي القلب، سفاكا. سلك مع الرسول (ص) سلوكاً مخالفاً للآداب. وذلك انه كان يأكل تمراً، فرمى الرسول (ص) النوى ووضعه أمامه فقال له الرسول (ص): يا علي أكلت تمراً كثيراً. لأن النوى متجمع أمامك، فأجابه علي (رض): إنك أكلت التمر مع النوى. ويزعمون انه نزلت في حقه هذه الآية: (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام). ويحبذون عمل أبن ملجم، ويقولون أن هذه الآية نزلت فيه:(من الناس من يشتري نفسه ابتغاء مرضاة الله). ويقولون أن الحسنين ليسا من نسلي رسول الله (ص) بحجة قوله تعالى: (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم، ولكن رسول الله وخاتم النبيين). ويقولون أن يزيد لم يقتل الحسين (ع) في بيته، وإنما عزم على الرحيل إلى العراق بقصد تسخير الملك فقتل. ويظهرون في العاشر من المحرم في ميدان وسيع خارج البلد، وهم فرسان ويصنعون صوراً من القتلى، والموتى، كلها من الطين، فيسيرون عليها ويسحقونها بأرجلهم، انتهاكا لأجساد شهداء كربلا. وعندهم هذا اليوم من الأيام المباركة، ويبدون فيه من الفرح والسرور ما يزيد على أفراح العيدين، لأن أمام الوقت يزيد، ظفر بعدوه فقتله، وفي يوم الجمعة وأيام الأعياد يطعنون بعلي
وأولاده على المنابر.
وهؤلاء أكثرهم أكراد. وفيهم جماعة تقف مصلتة السيوف وتلعن علناً علياً وأولاده. يقال لهم (السيافة). ويعتقدون في الأنبياء والأولياء التصرف فانهم يقولون انهم قادرون على الإحياء، والإماتة، ولا أن يجاد، والإفناء وعلى ما شاءوا فعله. ولا يليق باتباعهم أن يقتلوا حيواناً أو يذبحوه. لأنهم غير قادرين على أحيائه. ويعتقدون أن الأنبياء كانوا يتزوجون بأي امرأة ذات زوج متى شاءوا لأن الدنيا خلقت لجلهم، ولكن لا يجوز لأحد اتباعهم أن يتزوج بامرأة أحد. لأن الدنيا خلقت لأجلهم، وعندهم لزوم الاهتمام بأمر الجهاد، وغزو من يخالف الدين، ويعاديه حفظاً لبيضته. وهؤلاء لا يذبحون في شكونه (جبلهم) حيواناً ويكتفون بأكل العسل، والسمن، ولا يشربون المسكرات بتاتاً، حتى الأفيون والجوز. ولما سئل أحدهم عن المسكرات وأنها لو كانت حراماً لما شربها الأنبياء السالفون وبعض خلفاء
الأمويين، قال: كان لهؤلاء الأنبياء والخلفاء عقل كامل، بحيث أن المسكر ما كان يؤثر في عقولهم ولكننا لسنا مثلهم أو بدرجتهم. وكذا سألهم عن القدرة التي ينسبونها إلى الأنبياء والخلفاء الذين يتمكنون من أيجاد معدوم أو إفناء موجود ولماذا لم يجعلوا ألسنة الرافضين خرساً؟ فأجابه: إن بعض الأمراء قدم إلى أمير المؤمنين عمر (رض) زجاجة فيها سم زعاف ليفني بها عدوه. فقال لله الخليفة: إن اكبر أعدائي نفسي الأمارة، فتجرعها ولم يصب جسده المقدس ضرر.
فالحكيم الذي يتمكن من تجرع السم، بحيث لا يصيبه ضرر ما منه، كيف يتأذى من سماع طعن الأذلاء بحقه؟ وقس على ذلك سائر الصحابة.) أهـ تعريباً ما جاء في (دبستان مذاهب). وقال شهاب الدين احمد بن حجر الهيتمي المتوفى سنة 932هـ في كتابه
المطبوع بهامش الصواعق سنة 1324 المسمى (تطهير الجنان واللسان عن الخوض والتفوه بثلب سيدنا بن أبي سفيان) ما نصه:
(لان طائفة يسمون اليزيدية يبالغون في مدح يزيد، ويحتجون وممسكا عنان القلم أن يسترسل في سعة هذا الميدان. لأن من منح هداية، يكفيه أدنى برهان. . .)(راجع ص 5).
واخالني غير مبالغ إذا قلت أن المتتبعين وقفوا عند حد لم يتجاوزوه. ولذا لم يدققوا النظر في طريقة الشيخ عدي ولم يقفوا على روحها. وغاية ما رأينا انهم خلطوا بعض النتف التاريخية بأوهام ومشاهدات فظنوا انهم استكملوا العدة، في تحليل العقيدة والوقائع. وعلى كل حال أن الذي عندنا انه لم يدون التاريخ العلاقات السياسية، ولم يتعرض لديانة الجماعات وطرائقها ألا قليلا واستطراداً، أو بصورة الغرض والتضليل. والحال لدينا ما يفسر هذه الحقيقة وينطق يما يكشف عن أسرارها. ولكن يلاحظ هنا أن تاريخ العقائد في تحولاته بطئي السير لأن التبدل الروحي في الأقوام، قليل، وتطور العقدة لا يسجل يومياً بل في عصور متطاولة، وأزمان متفاوتة جداً، قد لا نرى الصلة بينها لبعد العهد. والأمل الوقوف على هذا التاريخ باستنطاق الكثيرين من المؤرخين وعلماء الكلام لتبدو صفحات مختلفة يتحقق من مجموعها (العقيدة).
والحاصل أن عقيدة هؤلاء القوم واضحة وبارزة للعيان بالرغم مما نراه من تكتم أهلها،
والإبهام الذي أبدوه مؤخراً، وغالبه ناشئ من الجهل والنسيان بسبب الوقائع المؤلمة. إلا أن نسيان الأساسات لم يكن عاماً في جميعهم فهم غير متساوين في قبول الخرافات بدليل النص المنقول أعلاه عن (دبستان مذاهب).
وأياً كان الأمر، فالعقيدة واضحة في الماضي، وفي الحاضر، ولكن (من شدة الظهور الخفاء). فلا غموض في التطور وهو متجل عيوننا. ومع هذا نسعى وراء المجهول، فكأننا نحاول فتح مغلق الغاز أو منهم طلسمات! وترجمة الشيخ عدي توضح نوعا ما قلته. فدونكها:
ترجمة الشيخ عدي:
هو شيخ (الطريقة العدوية). اشتهر في عصره أيام حياته بالتفوق
وتابعه كثيرون وشهد في حقه وجال الطرائق الأخرى المعروفون بالفضل والمكانة إلى اليوم، وهو ابن مسافر الشيخ الصالح. المشهور في زمنه، أبن إسماعيل ين موسى بن مروان (إلى هنا اتفق المؤرخون على نسبه بهذه الصورة) بن الحسن (وفي بهجة الأسرار ابن الحكم لا الحسن) ابن مروان (قال ابن خلكان: كذا أملي نسبه بعض ذوي قرابته. ووافقه عليه صاحب القلائد في سرد النسب بهذه الصورة. وزاد العليمي انه) بن إبراهيم ابن الوليد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن العاص بن عثمان ين عفان بن ربيعة بن عبد شمس بن زهرة بن عبد مناف (وقد تابع صاحب الشر فنامة هذا النقل أو كاد).
ولد في (بيت فار) من أعمال بعلبك، وعلى رواية بعضهم، أن بيت فار من البقاع، قاله ابن كثير في القلائد وهي بقاع العزيز بين بعلبك والشام، ولا تفاوت بين القولين إذا كانت بقاع العزيز من أعمال بعلبك قال ابن خلكان والبيت الذي ولد فيه يزار للآن.
عاش 90 عاماً، أو نحو ذلك، وتوفي سنة 557هـ على الرواية التي رجحها ابن خلكان، وقيل عام 555هـ. ويطعن بصحة هذه الرواية ما جاء في البهجة من أن الشيخ أبا محمد يوسف العاقولي قال:(قصدت زيارة الشيخ عدي في أوائل سنة 556) وانه تحادث مع الشيخ عدي، وهذه الرواية مما يطعن بصحة الرواية الأخرى، ويروي صاحب البهجة انه توفي في أوائل المحرم سنة 558 هـ. والتفاوت قليل بين وراية ابن خلكان وهذه الرواية تفسر بوصول الخبر. وقد أيد صاحب الكواكب الدرية أن وفاته كانت سنة 558هـ.
والكل متفقون على انه أموي من صميم الأمويين. وبذلك يفسر حب اتباعه ومن خلفه ليزيد والتعصب له، وينفي قول القائلين بأنهم يزدانيون. ومن يراجع الشرفنامة ير أن الكثيرين من أمراء الكرد أمويون ويتحقق أن الأمويين لجئوا إلى الجبال بعد ضياع حكمهم، فتولوا رياسة القبائل الكثيرة من الكرد.
نعته:
وقد نعته مظفر الدين صاحب اربل - كما نقل عن ابن المستوفي بأنه شيخ ربعة - اسمر اللون. . . (ابن خلكان) ج1 ص 316.
حادثة حمله وفصاله:
إن أباه رجل صالح كما تقدم. ويحكى انه دخل غابة ومكث فيها يتعبد منقطعاً عن الناس نحو 40 عاماً (راجع قلائد الجواهر ص 88) وروى صاحب جامع كرامات الأولياء، انه سكن الغابة نحو 30 سنة ثم انه رأى رؤيا مؤداها أن قائلا يقول له:(أخرج من هذه الغابة. واذهب إلى زوجك، واتصل بها يأتيك الله تعالى ولياً يذيع ذكره، وينتشر فضله في الخافقين).
ولما أتى زوجته، قالت: لا افعل حتى تصعد المنارة، وتنادي بأهل هذا البلد انك قدمت، فنادى:(يا أهل هذه البلد أنا مسافر قدمت، وقد أمرت أن اعلم فرسي، فمن علا فرسه أتاه ولي).
فولد لأجله 313 ولياً. وذكر لحمله خوارق كتسليم الأولياء عليه وهو في بطن أمه وجوابه بعد ولادته وأيام طفولته (راجع قلائد الجواهر ص 88) فلا نطيل القول فيها.
والرجل العظيم يفسر صغره وولادته وحمله بأمور خارقة، خصوصاً من كان شيخ طريقة، أو عظيماً دينياً، مما لا يعلق عليه أهمية كبيرة بدرجة سلوكه ونهجه وذلك لا يزيد في عظمته، ولا مما يصح وزنه بميزان العقل اكثر من انه رجل كبير، ظهرت مواهبه في انقطاعه، وخلوته، فنالت طريقته مكانة ورسوخاً في الأذهان، اللهم إلا في نظر من لا يعلق قيمة إلا للخوارق أو لا يكاد يؤمن إلا بها.
كيف جاهد:
إن الرجل العظيم قد لا يرى في محيطه من يبرد غلة تعطشه، أو انه لم يتحقق من صحة مبدأه. أو يشتبه من نهجه الذي ينوي القيام به، أو انه يتجول للأخذ عن أكابر من ينوي السلوك بموجبهم والأخذ منهم لينكشف له طريقه
ويتقن من الصحة. وهذا بمقام اختبار آراء أكابر الرجال. وفي ذلك الأوان كانت بغداد كعبة القصاد لكل صنف من أصحاب البضائع العلمية والأدبية. . . وفيها البغية لكل متطلب، فمن لم يأخذ عن أكابر رجالها لا يعد شيئاً، أو أن هؤلاء وأمثالهم من المشاهير قدوة الناس، ومحل اعتمادهم، وموطن ثقتهم، ويجب أن يحصل على رضاهم والإجازة بالأخذ عنهم.
لذلك كله أو بعضه تجول مترجمنا للأخذ، فحط ركابه في بغداد وأخذ عن أعاظم فضلائها، ونال شهرة فائقة في مجاهداته. وحسن اخذه، فلم يبق له بعد الدرس إلا الانقطاع، والتفرغ، لما أهب نفسه للقيام به، ولكنه لم يعد إلى موطنه الأصلي، وأراد العزلة عن الناس والتباعد عن الضوضاء في محل هادئ، فاختار الانقطاع إلى جبال هكار كأسلافه من بعض صلحاء الأمويين ممن بقدم ذكرهم وآوى في أول أمره إلى المغارات والجبال والصحارى مجرداً سائحاً بأخذ نفسه بأنواع المجاهدات مدداً مديدة. وقد نال في المجاهدة طوراً صعب المرتقى عزيز المنال تعذر على كثير من المشايخ سلوكه.
ومن ثم حصلت له المتابعة والانقياد التام لنهج زهده وسلوكه، فصارت تلك المواطن مأهولة به، وعم فيها الصلاح بسبب إرشاده، فقصده الناس بالزيارة من كل قطر، واجمع المشايخ وغيرهم في عصره على تبجيله والاعتراف بمكانته. فهو أحد من تصدر لتربية المريدين الصادقين ببلاد الشرق، وانتهى إليه تسليكهم، وكشف لهم مشكلات أحوالهم وتتلمذ له خلق من الأولياء وتخرج بصحبته غير واحد من ذوي الأحوال الفاخرة.
(راجع قلائد الجواهر ص 88 و85 وبهجة الأسرار ص 150).
العصر الذي وجد فيه:
إن هذا العصر طافح بأعاظم الرجال المشهورين بالصلاح والتقوى، مثل الشيخ عبد القادر الجبلي، والشيخ احمد الرفاعي، والشيخ على الهيتي، وعلي ابن وهب السنجاري وقضيب البان، وشعيب أبي مدين وغيرهم. جمع النوابغ في الزهد بحيث لم يظهر في غيره من
العصور التالية مثل هذه العصبة ثقافة وتقوى. ويصلح أن يقال أن هؤلاء خلاصة من سبقهم، وجماع مسالك القوم، ونتاج أصول
تربيتهم، ومن راجع كتاب سير السلف، والكواكب الدرية وسائر كتب الطبقات في التصوف وراعى تطور العصور الإسلامية. ينكشف له بوضوح طريق القوم، ويعلم يقيناً أن هؤلاء هم (الصفوة).
وكل ما وصل إلينا من هؤلاء انهم أرادوا تهذيب نفوسهم، وتجريدها من العوارض الدنيوية، مما يستدعي انشغال البال، والتفكر في أحوال المعاش. وبذلك تمكنوا من توجيه الناس إلى الطريقة التي حصلوا عليها، وصرفوا الناس عن أمور كانت شغلهم الشاغل وهمهم الوحيد مثل المقارعات الكلامية، والمجادلات الدينية إلى نحوها، وحضوهم على العمل بعد أن تيقنوا أن الجدل قد يفسد المنطق، ويسوق الناس إلى المماحكات، وان أتقنوا ترتيب أشكال القياس وليس هذا موطن تفصيل هذه الأمور.
وهذا العصر انجب مثل مترجمنا الشيخ عدي، تجول وسار في الأقطار، حتى بلغ المكانة المرضية بمجاهداته؛ لتحقيق منطوق الآية (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا). فشاع أمر المترجم في الآفاق وقصدنا بالزيارة في حياته؛ وهو الذي غطت شهرته سائر الزهاد في الأنحاء التي اختار العزلة فيها، مثل علي بن وهب السنجاري، ومن تقدم الكلام عليهم ومثل جاكير الكردي. فلم يزاحمه ويكفيه فخراً ومكانة شهادة الشيخ عبد القادر الجيلي في حقه إذ قال:(لو كانت النبوة تنال بالمجاهدة، لنالها عدي بن مسافر). ولذا اضربنا عن ذكر شهادات الآخرين بعده.
عقيدته:
لم يبتدع جديدة. وإنما هي عقيدة أهل السنة. وقد أوضحها في رسالة له. ونقل عنها ابن تيمية في رسالته المارة قبلا. وقد عثر عليها الدكتور رولدف فرانك في مكتبة الترك في برلين، وفيها يقول ما مؤداه: إنه ليس في العالم حادث خارج الإرادة الإلهية، وان العمل جزء من الإيمان، وانه يقبل (الزيادة والنقصان). وأورد في تلك الرسالة حديث افتراق الأمة، وان أهل السنة، هم الفرقة الناجية، ويندد الشيعية. ويلتزم جانب معاوية بن أبي سفيان ويناضل عنه. وهو على أهل البدع ممن يخالف أهل السنة. ويعتبر نفسه من
أهل الحديث، ويحمل على المعتزلة ويضللهم، ويذكر أحوال الآخرة من جنة وجهنم والنضال
عن سب معاوية قد قام به جماعة من أهل السنة وكتب ابن حجر رسالته المذكورة. وفيها إيضاحات وافية لمتطلب التوسع في هذه المباحث. وكذا في الصواعق بعض المباحث. ولا يهمنا التوسع في موضوعها، إذ الغرض هنا بيان العلاقة لا غير. وله في باب توحيد البارئ عز وجل قول مأثور:
(لا تجري ماهية في مقال. ولا تخطر كيفيته ببال، جل عن الأمثال والأشكال، صفاته قديمه كذاته، ليس بجسم في صفاته، جل أن يشبه بمبتدعاته وان يضاف إلى مخترعاته. ليس كمثله شئ. وهو السميع البصير. لا سمي له في أرضه وسماواته. ولا عديل له في حكمه وإراداته، حرام على العقول أن تمثل الله تعالى. وعلى الأوهام أن تحده. وعلى الظنون أن تقطع، وعلى الضمائر أن تعمق، وعلى النفوس أن تفكر. وعلى الفكر أن تحيط، وعلى العقول أن تتصور. إلا ما وصف به ذاته في كتابه العزيز، أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم.)(بهجة الأسرار ص 151) وقال في باب القضاء والقدر:
(لا يخلو أخذك وتركك أن يكون بالله، أو له. فان كان به، فهو يباديك بالعطاء، وان كان له، فأسترزقه بأمره. وأحذر ما فيه الخلق، فمتى كنت معهم استعبدوك، ومتى كنت مع الله عز وجل حفظك، ومتى كنت مع الأسباب فاطلب رزقك من الأرض، وإذا كنت مع التوكل، فان طلبت بهمتك لن يعطيك وان أزلت همتك أعطاك، وإذا كنت واقفاً مع الله عز وجل، صارت الأكوان خالية لك من المواطن، وأنت في القبضة فان، والكون كله فيك ولك.) أهـ عنها ص 150.
آداب سلوكه:
أن المترجم تولى إرشاد الكرد الجبليين، فجاء إلى هكار، فانتصب للإرشاد في زاويته في لالش (ليلش) حتى تمكن من إدخالهم في طريقته والظاهر أن طريقته هذه لم تؤثر في
من ذكرهم صاحب (دبستان المذاهب) أو لم يقفوا عليها. وله مؤلفات في السلوك غير الرسالة المذكورة وهي:
1 -
رسالة في آداب النفس. 2 - أخرى في وصاياه للخليفة. 3 - وصاياه لمريده (قائد).
وفي الأولى منها يقول: إن الدعوى تطفئ سراج المعرفة، ويحث على مراعاة عشر خصال. منها: تلاوة القرآن الكريم للصلحاء، ولزوم ترك المعاصي. . . . ويرغب في
المجاهدات.
وفي الثانية: يوصي بالتباعد عمن تظهر منه الكرامات، إذا لم يوفق بين أعماله وسلوكه وبين أوامر الشرع ويزدجر عن نواهيه. ولا يسوغ التساهل من أحد ولو صدرت منه بدعة طفيفة.
وفي الثالثة: يخاطب (قائداً) وهو أحد مريديه قائلاً: (يا (قائد) أوصيك بمراعاة الأحكام الشرعية، فلا تتجاوزها، والتزم الشرع، وراع التقوى، وجانب من يركض وراء الدنيا). وقال:(الجوع مفتاح الزهد، وحياة القلب كما أن عيسى قال لحوارييه: سيرون الله تعالى إذا أجعتم بطونكم، وأظمأتم كبودكم، وخلعتم اللباس).
قال محمد شرف الدين بك: إن تصوفه قريب جداً من نهج الغزالي فيه، وهذه الرسائل موجودة في مكتبة الترك في برلين نقلاً عن الدكتور الموما إليه وذكر أن في المتحفة البريطانية قصيدتين في مجموعة، مطلع إحداهما:
تفردت في حب الذي كنت أهواه
…
واصبح عندي اشتياق للقياه
وأصبحت نشواناً بكأس شربته
…
ولم يعلم الناس من أين محياه
وكان نديمي اشرف الرسل احمد
…
مليح التثني تخجل الصب عيناه
وهنا يستدرك على الفاضل محمد شرف الدين بك انه بعد أن ذكر ذلك، قال:(إن اليزيديين قد ضلوا في زمن ابنه حسن، أي ابن الشيخ عدي). وبهذا يكون قد قصد عدياً ابن أبي البركات لا المترجم. ولما لم يفرق بينهما ينبغي التحرز
من حقيقة نسبة الأبيات المذكورة إليه. والظاهر أنها لابن ابن أخيه عدي الثاني.
ومن أقواله في آداب السلوك: 1 - الشيخ من جمعك في حضوره وحفظك في مغيبه، وهذبك بأخلاقه، وأدبك بإطراقه، وأنار باطنك بإشراقه.
2 -
المريد من أنار نوره مع الفقراء بالأنس والانبساط، ومع الصوفية بالأدب والانحطاط، وحسن الخلق والتواضع في كل شئ، ومع العلماء (رض) بحسن الاستماع، ومع أهل المعرفة بالسكون، ومع أهل المقامات بالتوحيد.
3 -
يا هذا! البدلاء ما صاروا بدلاء، بالأكل والشرب والنوم والطعن والضرب، وإنما بلغوا ذلك بالمجاهدات والرياضات. لأن من يموت لا يعيش ومن كان لله تلفه كان على الله
تعالى خلفه. ومن تقرب لله تعالى بإتلاف نفسه اخلف الله عليه نفسه. (راجع قلائد الجواهر ص 84 - 85).
4 -
من لم يأخذ أدبه من المتأدبين افسد كل من تبعه.
5 -
من اكتفى بالكلام من غير عمل انقطع عن الله، ومن اكتفى بالتعبد من غير فقه، خرج من الدين (كان شافعي المذهب وكذلك جميع الكرد الشماليين - معجم البلدان وغيره)، ومن اكتفى بالفقه من دون ورع اغتر بالله، ومن قام بما عليه من الأحكام نجا.
6 -
أول ما على سالك طريقنا ترك الدعاوي الكاذبة، وإخفاء المعاني الصادقة (وهذا يوافق ما جاء في رسالته الأولى من رسائل آداب السلوك وحينئذ نقطع بأنها له).
7 -
إذا رأيتم الرجل تظهر له الكرامات الخوارق، فلا تعبئوا به، حتى تنظروه عند الأمر والنهي. فان جمعاً من الكفار اظهروا خوارق وعجائب وهم كفار (وهذا القول أيضاً يؤيد صحة الرسالة الثانية من آداب سلوكه.)(راجع الكواكب الدرية).
8 -
من كان فيه أدنى بدعة، فأحذر مجالسته، لئلا يعود عليك شؤمها ولو بعد حين. (بهجة الأسرار ص 150).
طريقته الصوفية - مقاطعة اللعن:
إن آداب سلوكه وأقواله هي مجموع طريقته، ولكن أوضح شئ في طريقته هذه (مقاطعة اللعن) وهي بسيطة جداً، ويسهل تناولها على كل أحد، وتلخص في انه حذر من اللعن، (حتى لعن الشيطان) خوفاً من الاتصال بشائبة السب.
ومن هذا تولد لزوم الاشتغال بالعبادة والصلاح، ومراعاة أحوال الزهد والتقوى، وأساسها الاشتغال بأمر إصلاح النفس. فلا كره هنا بل حب لله. ولرسوله، وللمؤمنين، واتباع أوامر الشرع، واجتناب زواجره؛ ومراعاة الأخلاق الفاضلة. بالوجه المار في السلوك والعقيدة ويترتب على هذه:
أ - زوال الكره، ومراعاة الإخاء.
ب - تأمين الوحدة بان لا يشذ أحد عن المبدأ العام.
ج - اتباع العقيدة.
د - تنقية اللسان من البذاءة.
هـ - رفع الحزبية الشخصية.
فلا ينكر الزهد أحد ولا تثريب على من يراعي الأحكام الشرعية وان يقوم المرء بما استطاع من عبادة: (واتقوا الله ما استطعتم).
وأما مقاطعة اللعن فأنها سلوك بسيط بالنظر إلى العوام ولا تحتاج إلى دراسة ولا حفظ فهو ترك، لا عمل، أو انه من المنبهات كما أنها معالجة قضية اجتماعية هامة. فهي بسيطة وسلبية اكثر منها إيجابية.
أن هذا الشيخ أختط هذه الخطة بعد أن عالجها مدة طويلة، واعتقد أنها الناجحة.
وقد اشتهرت طريقته (سلوكها وآدابها) في سورية، مصر، وذاع صيتها وقد أوضح المرحوم احمد باشا تيمور التكية العدوية في مصر في كتابه اليزيدية وقد لعبت الأيدي مؤخراً في هذه الطريقة، وتطورت كثيراً وسيأتي الكلام على أخلاقه وعلى هذا التحول والغلو فيه.
المحامي عباس العزاوي