الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أصل اليزيدية وتاريخهم
- 5 -
الغلو في العقائد والعوائد
1 -
قبل عدي:
إن هؤلاء قبل مجيء عدي إليهم، كانوا يتعصبون ليزيد. ولكن دخول الشيخ يزيد بين ظهرانيهم، خفف نوعاً من غلوائهم، فدعاهم للإصلاح، فمالوا إليه كل الميل وأطاعوه طاعة عمياء، ليس وراءها طاعة، فصار لا يرد له قول.
2 -
عدي لا يأكل ولا يشرب:
وهذه المتابعة أدت إلى أن اعتقدوا فيه اعتقاد المغالين، وهو في قيد الحياة، فقالوا عنه أنه لا يأكل ولا يشرب. ولما سمع بذلك برز إليهم وصار يأكل ويشرب بمشاهدة منهم، وأبدى أنه بشر يحتاج إلى ما يحتاجون إليه، بلا فرق من تعاطي ضروريات الحياة، وأنه لا غنى له عنها. (راجع: ص 89 من القلائد نقلا عن الذهبي.)
3 -
الغلو بعد وفاة عدي:
وأهم ما جرى من الغلو بعد وفاته، ما أشار إليه (ابن تيمية) في وصبته الكبرى. وكذا ما أورده صاحب البهجة وهو معاصر لأبن تيمية. فقد نقل عن الشيخ عدي خوارق لا تزال آثارها مرعية إلى اليوم. وأيدها صاحب القلائد بالمنقول عن مؤرخين عديدين مثل الذهبي، وابن كثير، والعليمي.
وإني ذاكر ما يوضح الموجود اليوم ضارباً صفحاً عما أندثر، أو لم يعثر عليه في عقائدهم الموجودة.
وهنا أكرر القول أن المتعلمين إذا نقلوا في كتبهم أمثال هذه، فمن الأولى أن لا يستغرب نقل اليزيدين عن كبارهم وأن يحمل ذلك على جهلهم. فإذا انتبهوا وزال الجهل عادوا إلى صفوة العقيدة، ونفذوا إلى روحها. والرجوع إلى الأصل، كما حصل شذوذ في المبدأ، شأن
العقلاء الذين لم تكن نياتهم سيئة.
4 -
الخطة أي الدارة:
هذه من أقدم العوائد المنقولة. يقال أن عدياً كان لا يخرج من زاويته إلا وبيده عكازته. وهي من الخشب اليسر. فخيط بها (دارة). وهي المعروفة اليوم (بالخطة) يراقب فيها. وكان يجلس من أراد فيها من أكابر أصحابه ليسمع كلام الشيخ عبد القادر الجيلي في بغداد.
وأما الشيخ عبد القادر فكان يقول حينئذ لأهل مجلسه: عين الشيخ عدي ترمقكم فدخل يوما الدارة، فحنى عنقه حتى كاد رأسه ينال الأرض، وأخذه وجد عظيم، وتكلم بكلام حسن لطيف، بين فيه حال الأولياء فسئل عن ذلك فقال: قد قال الشيخ عبد القادر ببغداد في هذا اليوم: (قدمي هذه على رقبة كل ولي) في الوقت الذي أرخناه. (ر: القلائد والبهجة)
ومهما كانت درجة صحة هذا النقل فأن تاريخه يصل إلى عام 618هـ أي بعد وفاة عدي بمدة ومنه يعلم درجة ارتباطهم (بالخطة) بحيث أننا نشاهدهم الآن لا يجوزون خرقها، أو انتهاك حرمتها، بحيث لا يحلف أحدهم بها كذباً، وإذا خطت حوله، لا يتمكن من الخروج منها ولا خرقها بيده، ولو أدت إلى هلاكه (ر: أوليا جلبي ج 4 ص 69 وغيره)، ومن هذا الأمر عم الشمول وتولد ليزيد خطة كما لعدي. ومن أيمانهم المعروفة ما جرى حين حسم قضية إدارية بين يزيديين فأحيلت إلى مجلس التحكيم فقرر لزوم تحليف أحد المتنازعين بما صورته:
(أخرج من خطة يزيد، وأدخل خطة العجم، أن كنت فعلت كذا وكذا.) ومن شكل اليمين هذه يفهم درجة ارتباط اليزيدي بالخطة، وفي الوقت نفسه يعرف عداؤهم المتمكن للعجم.
ثم أن الغلو في هذه الخطة، بلغ حده إلى درجة أن المخالفين لهم نرى أطفالهم يتخذون من اليزيديين بعض المهزئ للنكاية، أو لاستجلاب نفع طفيف بأن يتربصوا الفرصة لاتخاذ خطة حول أحدهم. وحينئذ لا يرفعونها إلا بعد الالتماس والرجاء الكثير، أو أخذ دريهمات، أو حصول من يمر ويشاهد هذه الحالة فينقذ من أجريت الدارة حوله.
هذا مبدأ هذه العقيدة أو الاعتياد، وهذا تطورنا إلى هذا اليوم.! وما يعطف لها من الأهمية.
وعندنا نظيرها تقريباً، ومعروفة في إنحائنا. ولكن الأمة المتكتمة تسجل كل حركاتها وسكناتها باعتبارها كلها غرائب وعجائب. ولو دونا كل معروف عندنا لفتحنا فتحاً عزيزاً
من الخرافات والأساطير التي لم يعثر عليها من قرأ كتبنا الدينية ومدوناتنا.
5 -
مقاطعة اللعن:
إن مقاطعة اللعن كانت نصحاً صوفياً قويماً، أختاره الشيخ عدي بن مسافر، ويراد به الانصراف إلى العبادة والتقوى، دون التفات إلى ما لا يعني من الأمور الشخصية، مما يولد الشحناء بين المسلمين. بالوجه الذي أشير إليه فيما سبق. وأساس ذلك آية (ولا تنابزوا بالألقاب) وحديث (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) و (المسلم من سلم الناس من يده ولسانه) الخ. ولكن قد يتولد من المبدأ الحق عكس الغرض المطلوب الذي هو إزالة البغضاء بين العناصر الإسلامية.
لم تمض مدة إلا وقد طبق الموضوع بتمامه وروعي حرفياً، وقاوموا اللعن بشدة. وما زالوا عليها ولا يزالون. سوى أنه حصل منهم ما يدعوا إلى التمسك بالألفاظ وقلب الغرض. إن ترك المبدأ الأصلي وعد هذا النصح ديناً.
ومن غلهم في أمر اللعن وشدة تمسكهم باللفظ أنهم حرموا:
1 -
اللعن وما أشتق منه فلا يجوز لأحدهم أن ينطق بذلك.
2 -
نعل. وهو مقلوب لعن، ونعل الدابة يسمونه (صول) و (نعلبد) المألوف عندنا (صولبند).
3 -
نيل. وهذا تحتوي ألفاظه على أكثر حروف اللعن، فهذا أيضاً من المحرمات، خوفاً من أن يجر إلى اللعن.
4 -
الصبغ بالنيل. لأنه يجر إلى تسميته.
5 -
خسأ الذي هو بمعنى لعن أو ما يقاربه.
6 -
الخس. منعوا التلفظ به وأكله للسبب المار ذكره في النيل وذلك
لقربه من أخسأ (فعل الأمر).
7 -
التفل (البصاق). وذلك لأنه يستعمل للإهانة والسب. فالأفعال التي يشوبها التحقير والقذف محرمة أيضاً. أما إذا دعت الضرورة أن يبصق المرء فيجب عليه أن يمسح فمه للدلالة على أنه لم يقصد النكاية أو الإهانة بأحد، وإنما أراد البصاق المجرد. ومثلها يقال عن أفعال الشتم كالإشارة باليد وسائر الأعضاء.
8 -
الشيطان وإبليس. لأن المادة تدل على الذم. كذا مشتقاتهما. ولذا عبروا عنه (بطاووس ملك).
9 -
النطق بأكثر حروف الشيطان في كلمات تردد ذكرها مثل:
1: شط - 2: شخاط - 3: طشت - 4: مشط.
10 -
لا يأكلون التمر ويطرحون النوى إلى جهة الخلف لأنه يؤدب معنى الرجم.
ولم يكتف هؤلاء بهذه الأمور، ولا وقفوا عندها. إذ أدت إلى عقائد جديدة وغلوا آخر، وحصل لهم من آمال فكرتهم إلى لزوم احترام (طاووس ملك). وأن عدم لعن يزيد منبعث عن اعتباره بدرجة رفيعة بحيث صار ذلك ديناً لهم، وترك (الدين الأصلي). وصار الشيطان ويزيد يعدان في المكانة العليا المحترمة المبجلة، فسول لهم بعض المغرضين، بأن قالوا لو لم يكن هؤلاء محترمين لما كف أجدادكم عن سبهم ولعنهم.
وبلغ من غلوهم في العقيدة أن صاروا يضعون الشمع على لفظ (الشيطان) في القرآن الكريم، فصاروا لا ينطقون به تجنباً لذكر اسمه، والمعروف المنقول عن الثقات أن القوم يسمعون القرآن الكريم ويقرئونه. والفرق بيننا وبينهم - كما يقولون - (كسر الجرة) أي أننا في نظرهم نكسر الجرة ونخرق قاعدة (تحريم اللعن وذكر الشيطان) بالنطق بالألفاظ الممنوعة عندهم. وأن المثل عندنا (فلان كسر جرة) أي خالف معتقد اليزيدية وخرقه معروف، مشهور.
ومن ثم يظهر رسوخ (قضية مقاطعة اللعن) وما تولد منها من نتائج مما ذكر وما يأتي. وهكذا يقال في كثير أمثالها مما دخلته العقلية المغلوط فيها
أو الفكرة الزائفة.
6 -
عقيدة الشيطان عند اليزيدية:
المشهور أن اليزيدية عبدة إبليس. وهذه لم تكن في الحقيقة عبادة، وإنما هي من نتائج مقاطعة اللعن، فانجرت إلى احترام للشيطان، وعده طاووس الملائكة بسبب تحريم ذكره لا بخير ولا بشر. وبهذا تراهم قد شذوا عن عقائد الأمم جميعها مع بعض الأقوام فلا نجد من يعظم الشيطان (أو يحترمه) سواهم. ولذا دعت هذه العقيدة إلى تقولات عنهم عديدة. فصار يخبط في القول بعض الكتاب، ويسحب أنه أتم البحث وبت فيه بتاً حاسماً.
ولما كانت هذه القضية من أهم ما زاوله الكتاب، ولها مكانتها من البحث نظراً لما دعت
إليه من التقولات والظنون. فأقدم نفسي إلى القراء في بسط القول عنها لإزالة ما علق أو يكاد يعلق بالأذهان مما هو غير صحيح. ولبيان حقيقة تولد هذا المعتقد أقول:
لما كانت اليزيدية من أهل السنة، وعقيدتهم في الخير والشر كعقيدة (خيره وشره من الله تعالى) فلا يرون سلطة لأحد في التدخل في شؤون الكون لا للشيطان ولا لغيره إلا أنهم لما كانوا صوفية غلب عليهم التفويض وبالغوا في التوقي من نسبه أي فعل لأي مخلوق تنزيهاً للبارئ تعالى من شائبة الشركة. ومن الضروري أن ننظر أن هذه العقيدة كانت عندهم كذلك في الأصل.
وحينئذ يعرض لنا سؤال: متى داخلتهم (عبادة الشيطان)؟
لا أقطع في تاريخ تبدل العقيدة وتحولها، وهو كما ترى غير دقيق، لأن هكذا قضايا لا تتبع في تدوينها الوقائع اليومية. وإنما يكون تبدلها تدريجياً. والتبدل المحسوس المنقول بصورة واضحة ظهر في نحو القرن الثاني عشر الهجري. والصحيح أن هذه العقيدة كانت قبل ذلك التاريخ بكثير وأما صاحب (دبستان مذاهب) - وأن كان لم يذكرها - فأن مؤرخي الموصل - ذكروها بصورة متأخرة، إلا أن الاعتقاد قد سبق التدوين بلا شك، ولم يشعر بها الخارج إلا بعد مضي وقت طويل.
والأمر الذي يستوقف الأنظار أنهم من أين داخلتهم؟
لننظر إلى المجاورين:
أننا لا نرى أمامنا من العقائد المجاورة سوى المسلمين، وبغض فرق النصارى من أرمن ونسطوريين ويعاقبة. ممن موطنهم الأصلي مجاور لهم، أو مختلط بهم، ولو راجعنا مدونات المسلمين، فلا نرى في عقائد النصارى عن الشيطان ما يماثل عقيدة اليزيدية، وإنما نشاهد النص التالي:
قال في (كتاب الفرق):
(. . . - هذا ما جمعوا عليه - أما الذين انفردوا (من فرق النصرانية) فأن فريقاً منهم قال أن الله لما رأى الشيطان قد علا شأنه، وعجل (كذا) أمره وعجزت الأنبياء عن مناوأته وجه أبناً له أزلياً قديماً منفرداً، يخلق الخلائق كلها فدخل في بطن امرأة، ثم ولد منها ونشأ وناهض الشيطان فأخذه الشيطان فقتله ثم صلبه بين يدي شرذمته من إخوانه. . . الخ) أهـ.
هذا ما قص صاحب كتاب الفرق. ولم أعثر على ذكر لهذه النحلة في غيره.
ولعل هذه العقيدة النصرانية الشاذة دخلت هؤلاء القوم وحذرتهم من الشيطان فصاروا يرهبونه ويتقون شره ويخشون ذكر اسمه. واللعن محظور في مذهبهم في الأصل فلا يذكر هو ولا غيره بسوء.
ولما لم يجد سند قطعي في هذا الصدد يعول عليه لم نقطع بالأخذ من هؤلاء. ولكننا على كل حال لا نفكر بوجود عقيدة نصرانية شاذة إلا في تلك الديار أو ما جاورها، خصوصاً أننا نرى أكثر كتاب الغربيين يقولون بالاقتباس من عوائد النصارى كما عليه الفاضل الإيطالي وصاحب كتاب النسطوريين وغيرهما.
وقد ذكرت المعلمة الإسلامية تحت لفظ (شيطان) معتقد اليهود والنصارى فيه، وعددت النصوص المعتبرة للإحالة والمراجعة. وكذا دائرة المعارف للبستاني بينت نصوصاً للمراجعة، وعينت كتباً تاريخية ذكرت قضية إبليس، ونتفاً عن
اليزيدية لم تتعد بها من سبقها. وأيضاً كل التواريخ الإسلامية التي تتكلم على الخليقة تبحث عن قصة إبليس. ومما يلفت الأنظار فيها ما ذكره صاحب (الجدول الصفي من البحر الوفي) نقلا عن وهب بن منبه وغيره عن خلقة العالم وخلقة الإنسان فليراجع فأنه يصلح أن يكون موضحاً لعقائد كثيرين بسبب انتشار هذه الأقوال، خصوصاً في إبليس.
ومن (الجدول الصفي) هذا نسخة مصورة في مكتبة الأوقاف العامة.
7 -
عقيدة المتصوفة في الشيطان:
وعلى كل حال يجب أن لا نقف عند هذا الحد بل نتجاوز هذه الناحية من التحقيق وأن كان لها تأثير، فنراجع مصدر آخر أقوى يصلح للأخذ فتكون عقيدة اليزيدية شكلاً موسعاً لها ولما تقدم ذلك:
إن بعض غلاة الصوفية ممن انتشرت طريقتهم في هذه الأنحاء مثل الحلاج ومحيي الدين بن عربي، والقنوي، وابن سبعين. قد أحدثت طرائقهم دوياً وأثرت في متصوفة كثيرين بسبب ما رأوه من المناصرة. وأني أنقل للقراء:
1 -
عقيدة الحلاج في الشيطان. قال في الطواسين:
(ما صحت الدعاوى لأحد، إلا لإبليس وأحمد (ص)، غير أن إبليس سقط عن العين، وأحمد
(ص) كشف له عن عين للعين. . .) الخ ما جاء في هذا الفصل والفصول الأخرى فيبرر له الامتناع والسجود. ويجعله في منزلة لم ينلها أحد. وبين أن أساتذته إبليس وفرعون. وفيه ذكر اشتقاق إبليس وعزا زيل. وفيه أيضاً:
(قال الحسين بن منصور لما قيل لإبليس: أسجد لآدم! خاطب الحق. أرفع شرف السجود عني إلاك حتى أسجد له. إن كنت أمرتني فقد نهيتني! قال فأني معذبك عذاب الأبد فقال: أولست تراني في عذابك لي قال: بلى. فقال: فرؤيتك لي تحملني على رؤية العذاب، أفعل بي ما شئت. فقال: أجعلك رجيماً. قال إبليس: أليس لك بحامد. أفعل بي ما شئت. وأورد:
جحودي لك تقديس
…
وعقلي فيك تهويس
فمن آدم إلاك
…
ومن في البين إبليس
ومبدأ ذلك هو ركون اليزيديين، بل رؤسائهم إلى غلاة المتصوفة. فقالوا عن إبليس (طاووس الملائكة) كما قال المتصوفة، وأنه وجب عليه أن يمضي بمقتضى ما قدر عليه. وأساساً قد داخلهم الغلو بشهادة مؤرخين كثيرين.
2 -
قول أحمد الغزالي:
قد توجع له أحمد الغزالي (أخو حجة الإسلام محمد الغزالي) حينما سئل عن إبليس في قصة إبائه عن السجود قال:
- لم يدرك المسكين أن أظافر القضاء إذا حكمت أدمت، وقسي القدر إذا رمت أصمت. وأنشد:
وكنا وليلى في صعود من الهوى
…
فلما توالينا ثبت وزلت
قال صاحب الكواكب الدرية: وقد رمي الغزالي المذكور بأشياء من ابن طاهر وابن الجوزي، على عادة المحدثين، والفقهاء مع الصوفية (راجع الكواكب الدرية ج2) و (اليزيدية لأحمد تيمور ص 46 نقلا عن شرح نهج البلاغة لأبن أبي الحديد).
3 -
نقول أخرى:
قال السيد محمود شهاب الدين الآلوسي في تفسيره عند ذكر آية (وإذ قلنا للملائكة أسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس).
(إن القوم - يعني الصوفية - يفيدون أن جميع المخلوقات علويها وسفليها سعيدها وشقيها،
مخلوق من الحقيقة المحمدية (يريدون أن يغشوا العوام بهذه الكلمة). إلا أن الملائكة العلويين خلقوا منه (ص) من حيث الجمال، وإبليس من حيث الجلال.
ويؤول هذا بالآخرة إلى أن إبليس مظهر جلال الله تعالى. ولهذا كان ما كان ولم يجزع، ولم يندم، ولم يطلب المغفرة لعلمه أن الله يفعل ما يريده، وان ما يريده هو ما تقتضيه الحقائق. فلا سبيل لتغييرها وتبديلها. وأستشعر ذلك من ندائه بإبليس ولم يكن اسمه من قبل، بل كان اسمه عزازيل، أو الحارث، وكنيته أبا مرة. ووراء ذلك ما لا يمكن كشفه. والله تعالى يقول الحق وهو يهدي السبيل.) أهـ.
ثم أورد الآلوسي ما أورد أحمد الغزالي وقال:
(وكم أرقت هذه القصة جفوناً، وأراقت من العيون عيوناً. فأن إبليس كان مدة في دلال طاعته، يختال في رداء مرافقته، ثم صار إلى ما ترى، وجرى به القلم ما جرى.)
وعلق على آية (فأزلهما الشيطان) أنه قيل أرسل بعض أتباعه إليهما، وقيل بينما هما يتفرجان في الجنة إذ راعهما طاووس تحلى لهما على سور الجنة، فدنت حواء منه وتبعها آدم فوسوس لهما من وراء الجدار، وقيل توسل بحية تسورت الجنة. إلى آخر ما جاء في قضية الازلال والاضلال.
وهذا الإجمال من الآلوسي، بصورة عامة يوضح درجة حب المتصوفة له وتعصبهم نحوه. ومن ثم ندري كيف تعبر الأمة الجاهلة عن جهلها. وتبين عن درجة تعلقها به، ومغالاتها فيه إلى درجة إنها تضع على لفظه من القرآن الكريم الشمع. ويقال - على ما هو الشائع عند اليزيديين - أنه كانت له سبعة تماثيل من معدن نفيس لا مثيل له فيما يرونه من المعادن. ولكنها رفعت أو غابت من البين. والموجود الآن من التماثيل قد أتخذه القوالون للارتزاق. وهذه تمثل الحمام أو الدجاج.
8 -
زبدة البحث:
إن منشأ هذه العقيدة في الأصل أن الخير والشر من الله تعالى، فلا يسند إلى غيره تصرف، وان اللعن مذموم، فحصل من آمالهم إلى أنه ما ترك لعن إبليس إلا لمكانته وحرمته، واستفادوا من سلوك الصوفية في التعصب له، وهو منهم فداخلهم غلاتهم وشوشوا معتقدهم. وقد ساعد على ذلك المنقولات القصصية الخرافية من أنه:
1: كان أعبد الملائكة - 2: وكان يحمل العرش وحده ستة آلاف سنة - 3: وكان طاووس الملائكة - 4: وما ترك في السماء رقعة؛ ولا في الأرض بقعة إلا وله فيها سجدة وركعة؟
وهذه وأمثالها لم يثبت بالنقل الصادق ورودها، وليس في القرآن شيء
من ذلك، ولا جاء خبر صحيح عن النبي (ص) بإسناد صحيح، ولا ضعيف. فلا يحتاج بها في أصول الدين. فأن كان قد قالها الوعاظ أو المصنفون في الرقائق أو بعض من ينقل في التفسير من الإسرائيليات مما لا اصل له، فلا يعتبر ذلك ولا يحتج به. فإذا أضيف إلى ذلك ما تستر به غلاة المتصوفة وزنادقة الإسلام كان ما تمكنوا به إفساد عقيدتهم بالتسويلات المذكورة، وبالجهل. وقد صرح ابن تيمية أن هذه العقيدة منقولة عن الأكراد بسبب الجهل ويقصد بالأكراد هنا اليزيدية. (راجع: ج 2 من منهاج السنة) وإلا فالآيات المعارضة كثيرة منها:
1: كان من الجن ففسق - 2: إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين - 3: اخرج منها فإنك رجيم - 4: وان عليك لعنتي إلى يوم الدين.
إلى آخر ما جاء منها.
9 -
عقيدة المعتزلة والقدرية (الفرقة الشيطانية):
ولا يعلق بالأذهان أن هؤلاء اليزيدية قد اقتبسوا عقيدتهم من المعتزلة والقدرية: لما يشاهد من النصوص الموهمة، لأن هؤلاء صوفية لا ينكرون في شيء فعل لغير الله تعالى، فهم أقرب إلى الجبر والتفويض بخلاف أولئك.
قال في (التمهيد):
(قالت المعتزلة والقدرية: إن الخير من الله والشر من العباد. وقال بعضهم أن الله خلق إبليس وإبليس خلق البشر. وقال بعضهم أن الله تعالى خلق العباد والعبد خلق الشر. وقال بعضهم: إن الله ما خلق إبليس، لأنا لو قلنا بأن الله تعالى خلق إبليس يؤدي إلى إثبات الشر من الله تعالى. لأن إبليس خلق الكفر والشر، والله خلق إبليس فصار كأنه خلق الشر وأراده. وهذا لا يجوز.
وهؤلاء القوم من القدرية تسمى (الشيطانية). وهذا هو المذهب عند المجوس بعينه. وهذا كفر. ولهذا المعنى قال النبي (ص): القدرية مجوس أمتي. لأن إبليس لو لم يكن مخلوقاً لكان قديماً، فيكون في إثبات الشركة مع الله، وهذا كفر. . .) أهـ.
وهذا النص وأمثاله كثير يؤيد أن لا علاقة لهؤلاء اليزيدية به. وأصل العقيدة هو الموضح للتقلبات والتطورات.
(ملحوظة). وهناك عقائد للباطنية تخالف كل العقائد المارة في الشيطان، ولكن ليس لها صلة بهذا الموضوع. ولذا اضربنا عن ذكرها، إذ ليس الغرض بيان كل العقائد فيه.
10 -
المجرة عند اليزيدية:
قال عبد الرحمن العمري الموصلي في مجموعته التاريخية المكتوبة بخطه عام 1246هـ وعندي النسخة الأصلية وأظنها الوحيدة،
(- بعد أن ذكر عدياً - قال: وقد ابتلاه الله بعبدة الشيطان الدنادية والشيخان والموسسان، يزعمون أنه الإله وهو (رض) بريء منهم.
ومن اعتقادهم الفاسد: إنهم يزعمون أن الله سبحانه وتعالى دعا الشيخ عدي (كذا وصوابه عدياً) إلى الضيافة، ورقاه إلى السماء، ومعه مريديه على الخيل فأطعمهم وسقاهم ولم يكن عنده شعير ولا تبن. فأرسل الشيخ عدي أحد مريديه إلى الأرض وحمل له شعير وتبن (كذا) من زرع الشيخ عدي وعرجوا به إلى السماء وجروه. فصار محل الجر ابيض. وهو نهر المجرة المعروف بين العامة بمسحل الكبش. وكثير من هذا الكفر المحض.
ويبدلون لفظ الشيطان من القرآن، ولا يذكرون بكلامهم شط، ولا نعل وأمثال ذلك.) أهـ بحروفه. وفيه نصوص تصلح لتأييد الكلام عليه.
وعقيدة المجرة مما لا يعول عليه وهي أساطيرية، ومنشأها الجهل والنقل عن القصص، فلا يؤمل أن يرى القارئ في هؤلاء البدو عقيدة نقية عن الزيغ. ولغتهم غير لغة الدين الذي يتمسكون به. وعندنا تسمى المجرة (بمسحال الكبش. وهذه منقولة عن قصص مشهورة ومتداولة. ويقال لها أيضاً: درب التبانة). ومن ثم ترى المقاربة.
المحامي عباس العزاوي