المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 93 ‌ ‌الخنساء - (؟ - 670م) توطئة غير خاف، أن النساء بلغن في - مجلة لغة العرب العراقية - جـ ٩

[أنستاس الكرملي]

فهرس الكتاب

- ‌العدد 86

- ‌سنتنا التاسعة

- ‌تلو أي تل هوارة

- ‌هيكل أدب

- ‌طبع كتاب الإكليل

- ‌قصر ريدة

- ‌رسالة ذم القواد

- ‌آل الشاوي

- ‌فوائد لغويةٌ

- ‌باب المكاتبة والمذاكرة

- ‌أسئلة وأجوبة

- ‌باب المشارفة والانتقاد

- ‌تاريخ وقائع الشهر في العراق وما جاوره

- ‌العدد 87

- ‌كيفية إصلاح العربية

- ‌هيكل أدب

- ‌الزقزفة أو لسان العصافير

- ‌آل الشاوي

- ‌معنى تدمر

- ‌مقاله في أسماء أعضاء الإنسان

- ‌قمرية أم القمرية

- ‌السعاة

- ‌اللشمانية الجلدية

- ‌فَوائِد لُغَويَّةٌ

- ‌بابُ المكاتبة والمذاكرةَ

- ‌أسئلة وأجوبة

- ‌باب المشارفة والانتقاد

- ‌تاريخ وقائع الشهر في العراق وما جاوره

- ‌العدد 88

- ‌الشمسية في التاريخ

- ‌لسان العصافير

- ‌أيتها الطبيعة

- ‌من كلام الجاحظ

- ‌جامع سراج الدين وترجمة الشيخ

- ‌البسذ والمرجان

- ‌العمارة والكوت

- ‌البغيلة

- ‌آل الشاوي

- ‌الساقور

- ‌مدن العراق القديمة

- ‌فوائد لغوية

- ‌باب المكاتبة المذاكرة

- ‌أسئلة وأجوبة

- ‌باب المشارفة والانتقاد

- ‌تاريخ وقائع الشهر في العراق وما جاوره

- ‌العدد 89

- ‌في نشوار المحاضرة

- ‌تمثال ملك أدب

- ‌مدن العراق القديمة

- ‌أصل اليزيدية وتاريخهم

- ‌أليلى

- ‌نظمي وذووه

- ‌كتاب نفيس في البلاغة مجهول المؤلف

- ‌فوائد لغوية

- ‌باب المكاتبة والمذاكرة

- ‌باب المشارفة والانتقاد

- ‌تاريخ وقائع الشهر في العراق وما جاوره

- ‌العدد 90

- ‌معجم أسماء النبات

- ‌البيات

- ‌كره العرب للحياكة

- ‌جنك أو جنكة أو صنكة لا منكة

- ‌كتاب الفاضل في صفة الأدب الكامل

- ‌نظمي وذووه

- ‌الصابئة

- ‌مدن العراق القديمة

- ‌أصل اليزيدية وتاريخهم

- ‌حب الكتب

- ‌هيكل أدب

- ‌السيرة الحسنة

- ‌زواجنا

- ‌سبيل العز

- ‌الحدائق

- ‌آل الشاوي

- ‌الحياة الصالحة

- ‌فوائد لغوية

- ‌باب المكاتبة والمذاكرة

- ‌أسئلة وأجوبة

- ‌باب المشارفة والانتقاد

- ‌تاريخ وقائع الشهر في العراق وما جاوره

- ‌العدد 91

- ‌أبناء ماجد النجديون

- ‌تحية العلم العراقي

- ‌من دفائن رسائل الجاحظ

- ‌إلى كاتب المشرق الناكر الإحسان

- ‌مدن العراق القديمة

- ‌أصل اليزيدية وتاريخهم

- ‌في ضرورة معرفة طب البيت

- ‌إرشاد

- ‌الطيارون العراقيون

- ‌الهولة

- ‌صاحب رحلة أول شرقي إلى أميركة

- ‌شباب العراق

- ‌فوائد لغوية

- ‌باب المكاتبة والمذاكرة

- ‌كلمات كردية فارسية الأصل

- ‌أسئلة وأجوبة

- ‌باب المشارفة والانتقاد

- ‌تاريخ وقائع الشهر في العراق ومجاورة

- ‌العدد 92

- ‌البزغالبندية

- ‌حاجات البلاد

- ‌كتاب السموم

- ‌مدن العراق القديمة

- ‌من دفائن رسائل الجاحظ

- ‌كره العرب للحياكة

- ‌الأعمال

- ‌صاحب رحلة أول شرقي إلى أميركة

- ‌حديقة النصائح

- ‌أصل اليزيدية وتاريخهم

- ‌آداب المائدة

- ‌برج عجيب في أدب

- ‌فوائد لغوية

- ‌باب المكاتبة والمذاكر

- ‌أسئلة وأجوبة

- ‌باب المشارفة والانتقاد

- ‌تاريخ وقائع الشهر في العراق وما جاوره

- ‌العدد 93

- ‌الخنساء

- ‌تحية العلم

- ‌الراية واللواء وأمثالها

- ‌مدن العراق القديمة

- ‌مراث وأشعار قديمة مخطوطة

- ‌الزهور

- ‌الحر حر

- ‌الرضم في شمالي العراق

- ‌نظمي وذووه

- ‌التركمان

- ‌فَوائد لُغَوية

- ‌بابُ المُكَاتَبَة والمْذاكَرة

- ‌أسئلة وأجوبة

- ‌بابُ المُشَارفَةَ والانِتِقادِ

- ‌تاريخ وقائع الشهر في العراق وما جاوره

- ‌العدد 94

- ‌المشعشعيون ومهديهم

- ‌بدرة وجسان

- ‌مدن العراق القديمة

- ‌اليقظة

- ‌نصيحة

- ‌حكم

- ‌أمثلة من كتاب الجماهر للبيروني

- ‌أصل اليزيدية وتاريخهم

- ‌الراية واللواء وأمثالهما

- ‌لا ضمير بلا دين

- ‌كنوز هيكل أدب

- ‌فوائد لغوية

- ‌أسئلة وأجوبة

- ‌باب المكاتبة والمذاكرة

- ‌باب المشارفة والانتقاد

- ‌تاريخ وقائع الشهر في العراق وما جاوره

- ‌العدد 95

- ‌المشعشعيون ومهديهم

- ‌موقع هوفة

- ‌في المتحفة العراقية

- ‌تعصب الجهلاء

- ‌كنوز هيكل أدب

- ‌أصل اليزيدية وتاريخهم

- ‌عبدة الشمس

- ‌نخل نجد وتمرها

- ‌البحر الأحمر لا بحر القلزم

- ‌ذييل في المشعشعيين

- ‌الدوالي أو العريش

- ‌فوائد لغوية

- ‌باب المكاتبة والمذاكرة

- ‌أسئلة وأجوبة

- ‌باب المشارفة والانتقاد

- ‌تاريخ وقائع الشهر في العراق وما جاوره

الفصل: ‌ ‌العدد 93 ‌ ‌الخنساء - (؟ - 670م) توطئة غير خاف، أن النساء بلغن في

‌العدد 93

‌الخنساء

- (؟ - 670م)

توطئة

غير خاف، أن النساء بلغن في الشعر أوجاً عالياً، وأصبن منه حظاً وافياً، وأتين فيه بعقائل الأبيات، وجلائل المرثيات. ففي كل عصر لهن نصيب، وفي كل مكان حماهن خصيب، وكتب العرب تفيض بتراجم الشواعر النابغات، اللائى صادقتهن غر القوافي، وعنت لهن جوامع القريض، ففاضت جوارحهن عقود شعر، وسالت أنفسهن قلائد أبيات، ولا غرو، فقلوبهن بالإحساس فياضة، وهي في الأحزان قيثارة الآلام. وفي الحبور نغمات السرور. وقد نالت بينهن خطر الأسبقية، خنساء المراثي وذلفاء القصيد، التي تمخضت بها الجاهلية، واحتفى بها الإسلام، شاعرة فذة. من مواهبها الشعر بأعزه، وحباها النطق حلل الرثاء صاغرة. ففاقت الرجال في مواطن البكاء، وبزت النساء في الندب وإثارة الشجون. فهي بحق اشعر الشواعر، وشعرها في غاية الإبداع والانسجام. فكم من مرة جالسناها، نستأنس اشعارها، ونلتقط درر الكلام منها، ونأنس إليها إذا السآمة حلت بنا، والملل تطرق علينا. ففيها نعم المفرج، والصديق الأنيس.

ص: 561

المرأة نشأتها

من الخنساء هذه التي طالما أشار إليها الشعراء، وتغنى بها الأدباء، وحث على مصاحبتها العلماء؟ هلم نستفسر الكتب - يحدثنا الرواة أنها تماضر بنت عمرو ابن الحرث بن الشريد بن الرياح من بني سليم، ويخبروننا أن لقبها الخنساء - ولعلهم أرادوا بذلك مشابهتها للظباء؛ فالخنساء صفة الظبية. والخنس تأخر الأنف عن مستواه مع ارتفاع في أر نبته - استقبلت الحياة، في القرن السابع للمسيح. وشبت في بني سليم. وروت الشعر فتاة، ولم تؤت بلاغة وسحراً حلالا، إلا حين نفذ سهم القتل في أخويها، فعندها خر لها القريض، واسلمها قياده طائعاً. فرثتهما رثاء والهة مفجوعة، وبكتهما عويلا وندباً حتى المنية.

في الجاهلية زواجها - مصابها

كانت الخنساء بلا شك جميلة، حتى كثر خطابها، وأزواجها، ويقول القصاص، أن ممن راد

حولها وهم بجعلها حليلة له فارس هوازن، دريد بن الصمة وهو إذ ذاك شيخ كبير، قد لفحته الأيام، وقد انشأ فيها شعره المشهور:

حيوا تماضر واربعوا صحبي!

وقفوا فان وقوفكم حسبي!

أخنساس؟ قد هام الفؤاد بكم

وأصابه تبل من الحب. . .

وكان من رفضها إياه ما كان، ثم خطبها رواحه بن عبد العزيز السلمي. ومات، فتزوجها عبد الله بن العزى، من بني خفاف. واتت منه بعبد الله بن عبد العزى. ثم خلف عليها بعده. مرداس بن أبي عامر السلمي. فاتت منه بولد اربعة، استشهدوا كلهم في الإسلام، وقد نسب إليها صاحب الاغاني، أن العباس ابن مرداس الفارس الشاعر، من ولدها، وأبى هذا الزعم الكلبي. ولو سلمنا فرضاً بأمومتها له، لما همد جميع كتاب العرب عن ذكره، فنحن نعلم ما كان للعباس من مكانة لدى النبي محمد. وما له أيضا من مقام في الإسلام. فهو أحد فرسانه الفحول، وأبطاله العظام، ثم نعرف ما للخنساء أيضاً من حرمة ومنزلة، وذا يكفي لان تغص بطون الكتب بنسبه إليها، لدى ذكرها. فالعرب في نحو

ص: 562

هذا، تثور عن شأنها في الاقتضاب. وتنسى عادتها، فتذكره - ولعلها تتبسط في ذكره، لو كان الكاتب مكثاراً - وتنسج حوله الأقاصيص، وتحوطه بالأشعار والأخبار المنحولة. شأنها في أمثاله. . . إذاً هذا مما يرفضه العقل؛ ويأباه البحث النزيه، ولا بد أن العباس، من ولد امرأة أخرى لمرداس.

لما كان داء العرب البادية: الغزو، كان لا بد لأخوي الخنساء منه. فهيأ معاوية ذلوله، واستقل البيداء مع فرسان قلائل. وغزوا بني مرة، وثار بعضهم على بعض. وتناهبوا بالسلاح، وسقط معاوية صريع سنان هاشم بن حرملة، وأثنى عليه بالسيف أخ لهاشم. ففاظ في يوم حورة الأول (حورة على الفرات تتوسط الرقة وبالس). . . فحن موطن الشعر، وأفاق عند أخته الخنساء، فرثته رثاءاً أليما. ثم أن هبت بصخر رياح المعاش، وصارخته الحاجة، فساق غزواً على بني اسد، فارتدع بطعنه ربيعة بن ثور في جنبه، فرجع إلى داره يساند نفسه. تعاوره الداء حولا، حتى مله أهله، وزاد بلاؤه، أن احب الناس إليه سئمته، ابنة عمه وهي زوجته سلمى، تأمل حالته، وقد أتاه قومه يعودونه، وسألوها (كيف اصبح صخر اليوم؟) فقالت:(اصبح لا حياً فيرجى ولا ميتاً فينسى) أليس يحفظ هذا صخراُ وقد

طرقه؟ إي احفظه، وقد رأى من وهب لها قلبه تجفوه، وتبغي موته، لتذهبه من الذاكرة، وقيل، انه يئس من الحياة، فعلقها بعمود الفسطاط حتى ماتت. ثم نكس هو من بعدها، ومات من كان وحده سلوة ورجاء الخنساء، ففاض إذ ذاك معين الشعر، ونبعت أبحر القريض، فبكته أمر بكاء، وحبته قلائد الرثاء.

في الإسلام - إسلامها - محنتها

ظهر النبي محمد. ودعا للإسلام، فتوافدت عليه قبائل العرب، ومنها سليم ومنهم الخنساء، فأسلمت. وروت الرواة أنها مع إسلامها، لم تدع تسلبها على أخويها، ولا عادات أخر نهي عنها. وظلت تندت أهلها، وتخص صخراً بأكثر لوعتها وتفجعها، وحدثونا أيضاً أن قومها حاولوا كفها، فلم تقلع، وجفاها البصر، وقرحت مآقيها، فذهب نفر منهم عمر بن الخطاب، وهو إذ ذاك خليفة

ص: 563

المسلمين، وسألوه أن يعمد بحكمته ودرايته، فينهاها، فأجاب سؤلهم واتاها فقال:(ما قرح مآقي عينيك يا خنساء؟) قالت: (بكائي على السدات من مضر) قال: (حتى متى يا خنساء؟ اتقي الله! إن الذي تصنعين، ليس من صنع الإسلام وانه لو خلد احد، لخلد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الذي تبكين هلكوا في الجاهلية، وهم أعضاء اللهب، وحشو جهنم.) قالت: (ذك أطول لعويلي عليهم.) قال: (فأنشديني مما قلت). قالت: (أما أني لا أنشدك مما قلت اليوم، ولكن أنشدك مما قلت الساعة: وقالت:

سقى جثاً، أكناف غمرة دونه

من الغيث، ديمات الربيع ووابله

. . الخ

فأشفق عليها عمر، ورأف بها، وقال:(لا ألومك يا خنساء في البكاء عليهما، خلوا سبيل عجوزكم، لا أبا لكم، فكل امرئ يبكي شجوه). لقد ذهبت محاولته عبثاً، ورق لها، وفك سبيلها، وقد سواه كثير ردعها، فلم يفلحوا، ومنهم أم المؤمنين عائشة.

انظر إليها. لما ضرب على المسلمين، البعث والجهاد لافتتاح الأقطار وامتلاك الأمصار. وكانت القادسية المشهورة (16هـ - 637م) كيف أقبلت بأولادها تحضهم وتحثهم على القتال، والاستشهاد في سبيل الإسلام، وإعلاء منارة وبأداتهم بقولها النصوح: (يا بني أنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين. والله الذي إلا إله إلا هو، أنكم لبنو رجل واحد، كما أنكم بنو امرأة واحدة؛ وما خنت أباكم، ولا فضحت خالكم، ولا هجنت حسبكم، ولا غيرت

نسبكم وقد تعلمون ما اعد الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين، واعلموا أن الدار الباقية، خير من الدار الفانية. يقول الله عز وجل:(يا أيها الذين أمنوا، اصبروا، وصابروا ورابطوا، واتقوا الله لعلكم تفلحون.) فإذا أصبحتم غدا إن شاء الله تعالى سالمين. فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين، وبالله

ص: 564

على أعدائه مستنصرين، فإذا رأيتم الحرب قد شمرت من ساقها، واضطرمت ناراً على سباقها. وحللت لظى على أوراقها، فتيمموا وطيسها، وجالدوا رئيسها عند احتدتم خميسها. تظفروا بالمغنم والكرامة في دار الخلود والمقامة). نعم القول والتحريض والتعديل، وانم من البيان لسحراً! ولا بدع أن بادر أبناؤها إلى المعمعة، ويمموا وطيسها، وجالدوا حتى سقطوا في حومتها. ونعم لقول أجابتها عند إبلاغها الخبر:(الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم مستقر رحمته).

وفي موتهم تداركتها المحنه الثانية، فقد مات أخواها في الجاهلية قتلا وكذاك بنوها في الإسلام، ولكنها كانت كما يبدو لنا، أكثر تأثراً واشد ولهاً وحزناً على أخويها منها عليهم. فقد تعزت عنهم بموتهم في نصرة الدين. وقد أجرى عليها كرم عمر بن الخطاب ارزق أولادها الأربعة.

يد الرواة في شعرها

تغلغل الرواة وأمعن القصاص. انتحالا واختلاقاً في حياة شاعرتنا، شأنهم في سائر الأخبار الجاهلة وخضرمتها، فلا نعرف من نسيج أعمالها سوى ما حاكته أيدي الصناع المنتحلة. فهم يدعون أن ولدها أربعة. وهم: يزيد ومعاوية وعمر وسراقه. وتارة يحذفون أحدهم؛ ويدعون أن العباس بن مرداس من ولدها، فهم يتنافرون في حياتها، تنافرهم في شعرها. فنراهم يروون لها شعراً رواه بعضهم لشاعر آخر، هاك هذه القصيدة التي يروونها في صخر أخيها، ومطلعها:

لعمري! وما عمري علي بهين

لنعم الفتى أرديت آل خثعما. . .

هنا العجب العجاب، أن قتلة صخر لم يكونا كن نعلم من خثعم والشعر واضح الانتحال، بينه، ويرويه أبو عبيدة لريطة بنت عباس الأصم الارعل. في أبيها قتبل خثعم، هناك موقف آخر، تناول هذه الأبيات:

من لامني في حب كرز وذكره

فلاقى الذي ألقيت إذ حفر الرجم

فيا حبذا كرز إذا الخيل أدبرت

وثار غبار في الدهاس وفي ألاكم

فنعم الفتى تعشو إلى ضوء ناره

كريز بن صخر لليلة الريح والظلم

ص: 565

إذا البازل الكوماء ضنت برفدها

ولاذت لواذاً بالمدرين بالسلم

فقد حان من أناس ورفدهم

بكفي غلام، لا خلوف ولا برم

أنها تندب ابن أخيها كرزاً، تلك التي لم ترث بنيها بما يجب على أم والهة ثكلى - نعم! وان وجدت إلى الصبر والعزلة سبيلا لموتهم في نصرة الإسلام - فلها قلب الوالدة. وهل من والدة لا تبكي أولادها؟ فكيف حل لها أن تبكى كرزاً وتتناساهم؟ ألعلها نادبته لبنوته لصخر؟ لعمري أي الرواة نذاهب؟ ألست تشعر بوطأة القصاص بهذا الشعر، أو لست تشعر باضطراب وشك، إذ ينسبه بعضهم إلى العباس بن مرداس؟ إذاً نرفض نسبة هذه الأبيات. ولكن لماذا نرى ديوانها يكاد يكون جله أو كله في اخويها، بينما تخص زوجها وبنيها ببعض ساقط شعرها ومنبوذه. قد نجد بعض الرد المقنع عن زوجها، انه كان مقامراً متلافاً للارزاق، خسيساً فلذا لم ترثه، ولعلها حمدت الله على إفلاتها منه. أما بنوها والبنون من الوالدة في موضع الضعف والإحساس، ولاسيما في مثل شعور ورقة الخنساء - فلم لم تقم بواجبها نحوهم؟ هنا نجدنا أمام معضلة. فقد أثبت الرواة لها في أخويها. أبدع القصائد واطرب الأبيات، فهل كانت تكره أولادها؟ أولادها من هم فلذ كبدها. وقطعة من روحها حتى تجافت عن ذكرهم. هذا محال وبعيد الوقوع. إلا فما حضتهم على طلب الآخرة. ثم تشرفت بقتلهم! حقاً أن هنا لناحية تعنت، وسهو، وتخليط من الرواة في اختصاصهم رواية شعرها بأخويها، أم هناك تلاعب وغش كبير؟ الحالة تدعونا أن نشك حينما أدرنا الطرف. وفي شعر انتقيت، أحسست به اضطراباً ولو بشيء. هنا وقفة لا تقل عن سوابقها، غرابة وحظاً فاسداً. يحدثنا (أبن العربي) أن أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب أتاها يكفها عن العويل والبكاء. ولما أن سألها شعراً، قالت:(أما أني لا أنشدك مما قلت اليوم، ولكن أنشدك ما قلت الساعة). وأنشأت تقول:

سقى جدثاً أكفاف غمرة دونه

من الغيث ديمات الربيع ووابله

أعيرهم سمعي إذ ذكر الأسى

وفي القلب منه زفرة ما تزايله

وكنت أعير الدمع قبلك من بكى

فأنت على من مات بعدك شاغله. . .

ص: 566

وتحدثنا الرواة أيضاً أنها أنشدته أيضاً قصيدتها التي مطلعها:

هريقي من دموعك واستفيقي

وصبراً إن أطقت ولم تطيقي

. . . الخ

يحدثونا أن جميع ذلك أنشأته لحظة حديثها، وبدون ترو ومهلة، ولعلهم أرادوا مداراة الانتحال بصبها في هذا القالب. ولم يدروا أن هذا ادعى إلى الشك واحمل على الرفض. ناهيك بان ليس من بيت في كلتيهما روي في صورة واحدة، فلابد من اختلاف وتناقض مقاطع وكلمات، بل في المعاني أيضاً، مما يثبت أن الرواة كانوا يعمدون إلى قصائد المتقدمين، فلا يفتأون يغيرون فيها ويكيفونها ويثقفون ما اعوج ويجددون ما بلي من ألفاظها على حسب ذوقهم حتى تستقيم على وزن عصرهم، ويحلو نغمها فيدونونها، وقد يعمد أيضاً آخرون إلى مدوناتهم فيقومونها بمطلبهم، فإذا ما وصلتنا مخطوطاتهم جميعاً وتلقفتها فاحصين ما وجدناها إلا سوى طائفة أخلاط لا تستقيم على وزن، وهي مبعدة لنا منفرة من الركون والإيمان بما لدينا من أمثالها الأشتات الخرافية.

هل لشعرها من قيمة؟ ما هي؟

إذا جئنا نبحث عما لأشعار الخنساء من قيمة تاريخية عثرنا عليها بما أوردناه وهي ابعد من أن تؤدي أي فائدة لهاته الوجهة، سوى أن ترجح فينا الشك وتقوي فينا عامل الرفض لكل الأشعار المنسوبة للمتقدمين، وتدغم فينا دافع قذفها إلى الحضيض، لكننا أن وددنا معرفة قيمتها لغوياً وأدبياً، وتغاضينا عن انتحالها، وهل من إفادة للمتأدبين؟ - وجدناها في مكان عظيم، وكنزاً لا يفنى ففيها من سمو الخيال وعلو المعنى ورقة الافتتان، وحسن السبك ما هو في أعلى منزلة واجل مكانة. وقد شاء قصاصها بذكر ما كان للخنساء من إكرام واعتبار في الجاهلية وعزة في الإسلام. وكيف كانت الشعراء الفحول تتسابق إليها وتشد لها بالتفوق. وكفى أن تعلم أن النبي كان يكرمها ويستشهدها. واتفق أن وافاه عدي بن حاتم وفخر عليه بقوله:(يا رسول الله. إن فينا اشعر الناس وأسخى الناس، وأفرس الناس) فقال: (سمهم) قال: (أما اشعر الناس فامرؤ القيس بن حجر وأما أسخى الناس، فحاتم بن سعد (يعني أباه). وأما أفرس الناس، فعمرو بن

ص: 567

معد يكرب) فقال: (ليس كما قلت يا عدي،

أما اشعر الناس، فالخنساء بنت عمرو. وأما أسخى الناس فمحمد (يعني نفسه). وأما أفرس الناس، فعلي بن أبي طالب). فهنا نالت مديحاً وافراً وخصها بقوله:(اشعر الناس) ولا بد أن شعرها كان سامياً جداً حتى ينال ذلك الإطراء. والرواة أذن قد تعدوا عليه وارتكبوا جريرة بعبثهم بالتراث ولعله كان اجل وأسمى بكثير مما هو عليه الآن وفعلتهم به كعمل من يتناول أشعار المعري. أو الخيام، أو ابن الفارض، ويسهل ألفاظها ومبناها، ويملأها بذكر الطيارات والسيارات والدبابات، وأمثال هذه الآلات. ويتناسى قديمها مدعياً أن الأشعار بهذا التغيير والتكييف اقرب وأوفى بمقتضيات، ولغة هذا العصر. فأي مهزأة بل أي جرم هذا؟.

كثير من القصاص والكتاب يقدمون الخنساء على سائر الشعراء. فالمبرد وليلى الأخيلية يقدمنها على كثير من فحول الشعر. والحصري يصفها بأشعر نساء العرب طرأ وغيرها كثير. وليس من شك أن ما يحويه شعرها. لهو اجل ما تضمنه العربية من إثارة الكوامن النفسية، وتنبيه الشجون. وان في الاقتباس منه فائدة لا تنكر. . . نذكر أننا كنا نحادث المرحوم (الأب لويس شيخو) واتفق أن ذكرنا له عرضاً شغفنا بالخنساء أشعارها، واستطلعنا رأيه، فأجابنا رحمه الله بما مؤداه:(إن كثيراً من الأدباء يبخسونها حقها بدعوى أنها امرأة، أو لجهلهم أشعارها المتينة. بينما هي حقاً تتفوق على كثير مما لدينا من أشعار المتقدمين والمتأخرين من رجال ونساء، ولاسيما في معرض الحزن والتفجع، فهي جديرة وجوباً أن تلحظ عطفاً من جميع المتأدبين ومن شبابهم خاصة).

مما هو حري بالذكر أن في شعرها الجليل الكثير من التفنن والسهولة، ما يجعله داني القطوف، شهي السماع. وان المتأدبين ليجدون ذلك فيه، مع ما ناله من تمزيق وإهانة من الرواة، معيناً عظيماً في تملكهم ناصية العربية. ونماماً يفضح أسرارها ويقرب غموضها إليهم. ومن محاسنه قولها:

يؤرقني التذكر حين أمسي

فيردعني مع الأحزان نكسي

على صخر وأي فتى كصخر؟

ليوم كريهة، وطعان خلس

فلم اسمع به رزاً لجن

ولم اسمع به رزءأً لانس

ص: 568

اشد على صروف الدهر آداً

أفضل في الخطوب بغير لبس

واكرم عند ضر الناس جهداً

لجا أو لجار أو لعرس

وضيف طارق أو مستجير

يروع قلبه من كل جرس

فأكرمه وآمنه فأمسى

خلياً باله من كل بؤس

ألا يا صخرُ لا أنساك حتى

أفارق مهجتي ويشق رمسي

يذكرني طلوع الشمس صخراً

واذكره لكل غروب شمس

فلولا كثرة الباكين حولي

على إخوانهم لقتلت نفسي

ولكن لا أزال أرى عجولا

ونائحة تنوح ليوم نحس

هما كلتاهما تبكي أخاها

عشية رزئه أو غب أمس

وما يبكين مثل أخي ولكن

اسلي النفس عنه بالتأسي

فقد ودعت يوم فراق صخر

أبى حسان لذاتي وانسي

فيا لهفتي عليه ولهف أمي!

أيصبح في الضريح وفيه يمسي؟

ومما يستحسن من شعرها أيضاً. قولها:

ألا يا صخر أن أبكيت عيني

فقد أضحكتني دهراً طويلا

بكيتك في نساء معولات

وكنت أحق من أبدى العويلا

دفعت بك الجليل وأنت حي

فمن ذا يدفع الخطب الجليلا

إذا قبح البكاء على قتيل

رأيت بكاءك الحسن الجميلا

فأنت ترى من هذا رقة وبياناً، وتجد أن فاخر شعرها قالته في صخر. وقيل أن سبب ذلك ما أتاه لها من ضروب الإحسان، يوم كان زوجها متلافاً للأموال. فكان صخر لا ينفك من إعانتها ما وجد لذلك من سبيل، وبكته هذه البكاء الذي لم يرو التاريخ مثيله في شقيق، وانظر إليها تنتقل من غرض إلى غرض، ومن معنى إلى معنى. فبينما تجدها تتأسى عنه إذ تملكها الجزع فتندبه. خذها في المطلع تذكره:

يؤرقني التذكر حين أمسي

فيردعني مع الأحزان نكسي

ثم يغريها الحزن فتثور باكية حين تقول:

ألا يا صخر لا أنساك حتى

أفارق مهجتي ويشق رمسي!

ص: 569

يذكرني طلوع الشمس صخراً

واذكره لكل غروب شمس

ثم لا تراها إلا وقد عادت سكينتها تلتمس العزاء من وراء سجف الموازنة بين مصيبتها ومصيبة سواها من النوائح. فتقول:

وما يبكين مثل أخي، ولكن

اسلي النفس عنه بالتأسي

فإذا هي تعود فتذكره تحت التراب موسداً، لا يأنسه صباح ولا مساء فتضطرب وتثور معولة. باكية مسائلة:

فيا لهفي عليه! ولهف أمي!

أيصبح في الضريح وفيه يمسي؟

من الله رحمة وشفقة للملهوف المحزون! فهو أبداً يذكر مصيبة ووطأة حزنه، ويضطرب. لا يقر له ولا يهدأ على حال! انظر إليها كيف تذكره إذ كان يضحكها ويسليها ويجلو همها. ثم اعكف وتمثل ما تفيض به الأبيات التالية من عبرات ولهفات وحسرات:

ألا يا صخر إن أبكيت عيني

فقد أضحكتني دهراً طويلاً

بكيتك في نساء معولات

وكنت أحق من أجرى العويلا

ثم تتمثل حماه للحي، وذوده عن الحياض. وقد عمدت الآن نصيراً ومناصراً فتجد أن بكاءه وندبه حلال واجب، ولو كره المقبحون:

دفعت بك الجليل وأنت حي

فمن ذا يدفع الخطب الجليلا

إذا قبح البكاء على قتيل

رأيت بكاءك الحسن الجميلا!

هكذا تعبث بها الهموم وتتقاذفها العواطف، وهي تجر الأحزان، ففي كل بيت جميل معنى، وعظيم مغزى. وفي كل بيت خيال رائع، وجمال ذائع:

أبت عيني وعاودها قذاها

بعوار فما تقضي كراها

على صخر وأي فتى كصخر؟

إذا ما تاب لم ترأم طلاها

حلفت برب صهب معملات

إلى البيت الحرام منتهاها

لئن جزعت بنو عمرو عليه

لقد رزئت بنو عمرو فتاها

فتى الفتيان ما بلغوا مداه

ولا يكدي إذا بلغت كداها

ص: 570

له كف يشد بها وكف

تجود فما يجف ثرى نداها

فمن للضيف أن هبت شمال

مزعزعة تناوحها صباها

والجأ بردها الاشوال حدباً

إلى الحجرات بادية كلاها

أحاميكم ورافدكم تركتم؟

لدى غبراء منهدم رجاها؟

فلم أملك غداة نعي صخر

سوابق عبرة جلبت صراها

ترى الشم الغطارف من سليم

يبل ندى مدامعها لحاها

على رجل كريم الخيم أضحى

ببطن حفيرة صخب صداها

ليبك الخير صخراً من معد

ذوو أحلامها وذوو نهاها

ويبك عليك قومك لليتامى

وللهجاء أنك ما عناها

ليبكوا تشتجر العوالي

بكأس الموت ساعة مصطلاها

فقد فقدتك طلقة فاستراحت

فليت الخيل فارسها براها

وكنت إذا أردت بها سبيلا

فعلت ولم يتممها هواها

فأنت ترى مما أوردناه. تشعب الأغراض وتناقل الأخبار دون تنافر المعاني وكم وكم في طيات ديوانها وشوارد أبياتها من معنى دقيق وخيال رائع، وجمال فاتن، وأذن فأنت لا شك توافق أنها نعم الخليل واصدق رفيق. وأوفى صديق وأنت تحكم أن في مصاحبتها غنى في الألفاظ وسمواً في التعبير وتأصلا في الاطلاع ونستطيع أيضاً أن نقول في غير حرج ولا خوف لائم. إنها تفوق أشعار معاصريها الجاهليين - إذ إن منبع الشعر عند الخنساء فاضت ثائرته في انصرام الجاهلية قبل انبثاق الإسلام. لذا يعد شعرها جاهلياً - في تربية الأفكار وتغذيتها. أفيحسب القارئ العزيز أننا نجد في الجاهلية افضل من هذه ذوقاً، ومعنى وجلاء:

كنا كأنجم ليل وسطها قمر

يجلو الدجى فهوى من بيننا القمر

يا صخر ما كنت في قوم أسربهم

إلا وانك بين القوم مشتهر

فاذهب حميداً على ما كان من حدث

فقد سلكت سبيلا فيه معتبر!

لعلي أراك بعين بصيرتي، تلحظي لحظاً شديداً، وتمر على شفتيك بسمة تهكم، وتقول لي بشدة وحدة: (هلا علمت أن هذه الأبيات تروى لصفية الباهلية وان بيتها الأول يروي لمريم بنت طارق ووو. . . وألا ترى فيها كذا وكذا من

ص: 571