الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[كِتَابُ الْبَيْعِ]
ِ قَدَّمَهُ عَلَى الْأَنْكِحَةِ وَمَا بَعْدَهَا؛ لِشِدَّةِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا غِنَى لِلْإِنْسَانِ عَنْ مَأْكُولٍ وَمَشْرُوبٍ وَلِبَاسٍ، وَهُوَ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُهْتَمَّ بِهِ لِعُمُومِ الْبَلْوَى؛ إذْ لَا يَخْلُو مُكَلَّفٌ غَالِبًا مِنْ بَيْعٍ وَشِرَاءٍ، فَيَجِبُ مَعْرِفَةُ الْحُكْمِ فِي ذَلِكَ قَبْلَ التَّلَبُّسِ بِهِ.
وَقَدْ حَكَى بَعْضُهُمْ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمُكَلَّفٍ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى فِعْلٍ حَتَّى يَعْلَمَ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِ، وَبَعَثَ عُمَرُ رضي الله عنه مَنْ يُقِيمُ مِنْ الْأَسْوَاقِ مَنْ لَيْسَ بِفَقِيهٍ. وَالْبَيْعُ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] وَلِفِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم وَإِقْرَارِهِ أَصْحَابَهُ عَلَيْهِ، وَالْحِكْمَةُ تَقْتَضِيهِ؛ لِأَنَّ حَاجَةَ الْإِنْسَانِ تَتَعَلَّقُ بِمَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ، وَلَا يَبْذُلُهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ غَالِبًا، فَفِي تَجْوِيزِ الْبَيْعِ وُصُولٌ لِغَرَضِهِ، وَدَفْعِ حَاجَتِهِ. وَهُوَ مَصْدَرُ بَاعَ يَبِيعُ إذَا مَلَكَ، وَيُطْلَقُ بِمَعْنَى شَرَى، وَكَذَلِكَ شَرَى يَكُونُ لِلْمَعْنَيَيْنِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ: بَاعَ وَأَبَاعَ بِمَعْنًى، وَاشْتِقَاقُهُ مِنْ الْبَاعِ فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِ، مِنْهُمْ صَاحِبُ " الْمُغْنِي " وَ " الشَّرْحِ " لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَمُدُّ بَاعَهُ لِلْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ. وَشَرْعًا:(مُبَادَلَةُ عَيْنٍ مَالِيَّةٍ) ، أَيْ دَفْعُهَا وَأَخْذِ عِوَضِهَا، فَلَا يَكُونُ إلَّا بَيْنَ اثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ، وَهِيَ كُلُّ جِسْمٍ أُبِيحَ نَفْعُهُ وَاقْتِنَاؤُهُ مُطْلَقًا، فَخَرَجَ نَحْوُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَةِ النَّجِسَةِ وَالْحَشَرَاتِ وَالْكَلْبِ وَلَوْ لِصَيْدٍ (أَوْ) مُبَادَلَةُ (مَنْفَعَةٍ مُبَاحَةٍ) عَلَى الْإِطْلَاقِ، بِأَنْ لَا تَخْتَصَّ إبَاحَتُهَا بِحَالٍ دُونَ حَالٍ، كَمَمَرِّ دَارٍ وَبُقْعَةٍ تُحْفَرُ بِئْرًا، بِخِلَافِ نَحْوِ جِلْدِ مَيْتَةٍ مَدْبُوغٍ، فَلَا يُبَاعُ هُوَ، وَلَا نَفْعُهُ لِأَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ مُطْلَقًا،
بَلْ فِي الْيَابِسَاتِ (بِإِحْدَاهُمَا) ، أَيْ عَيْنٍ مَالِيَّةٍ، أَوْ مَنْفَعَةٍ مُبَاحَةٍ مُطْلَقًا. وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمُبَادَلَةٍ، فَيَشْمَلُ نَحْوَ بَيْعِ كِتَابٍ بِكِتَابٍ، أَوْ بِمَمَرٍّ فِي دَارٍ، وَبَيْعِ نَحْوِ مَمَرٍّ فِي دَارٍ بِكِتَابٍ، أَوْ بِمَمَرٍّ فِي دَارٍ أُخْرَى (أَوْ) مُبَادَلَةُ عَيْنٍ مَالِيَّةٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ مُبَاحَةٍ مُطْلَقًا، (بِمَالٍ فِي الذِّمَّةِ) مِنْ نَقْدٍ أَوْ غَيْرِهِ. وَكَذَا مُبَادَلَةُ مَالٍ فِي الذِّمَّةِ بِعَيْنٍ مَالِيَّةٍ، أَوْ مَنْفَعَةٍ مُبَاحَةٍ، أَوْ بِمَالٍ فِي الذِّمَّةِ، إذَا قَبَضَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ التَّفَرُّقِ (لِلْمِلْكِ) احْتِرَازًا عَنْ إعَارَةِ ثَوْبِهِ لِيُعِيرَهُ الْآخَرُ فَرَسَهُ (عَلَى التَّأْبِيدِ) بِأَنْ لَمْ تَتَقَيَّدْ مُبَادَلَةُ الْمَنْفَعَةِ بِمُدَّةٍ، أَوْ عَمَلٍ مَعْلُومٍ، فَتَخْرُجُ الْإِجَارَةُ. (غَيْرَ رِبًا وَقَرْضٍ) إخْرَاجٌ لَهُمَا؛ فَإِنَّ الرِّبَا مُحَرَّمٌ، وَالْقَرْضُ وَإِنْ قُصِدَ فِيهِ الْمُبَادَلَةُ، لَكِنَّ الْمَقْصُودَ الْأَعْظَمَ فِيهِ الْإِرْفَاقُ.
(وَأَرْكَانُهُ) ؛ أَيْ الْبَيْعِ (إنْ لَمْ يَكُنْ ضِمْنِيًّا) ؛ كَ اعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي.
فَإِذَا أَعْتَقَهُ؛ صَحَّ الْعِتْقُ عَنْ السَّائِلِ، وَلَزِمَهُ الثَّمَنُ، مَعَ أَنَّهُ هُنَا لَمْ تُوجَدْ الْأَرْكَانُ كُلُّهَا.
(أَرْبَعَةٌ: مُتَعَاقِدَانِ) ، وَهُمَا الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِ (وَمَعْقُودٌ عَلَيْهِ) ، وَهُوَ الْمَبِيعُ (وَصِيغَةٌ) قَوْلِيَّةٌ، (أَوْ مُعَاطَاةٌ) .
وَبَدَأَ بِالصِّيغَةِ الْقَوْلِيَّةِ؛ لِلِاتِّفَاقِ عَلَيْهَا فِي الْجُمْلَةِ، فَقَالَ:(فَيَنْعَقِدُ) الْبَيْعُ إنْ أُرِيدَ حَقِيقَتُهُ؛ بِأَنْ رَغِبَ كُلٌّ مِنْهُمَا فِيمَا بَذَلَهُ مِنْ الْعِوَضِ، (لَا) إنْ وَقَعَ (هَزْلًا) بِلَا قَصْدٍ لِحَقِيقَتِهِ.
(وَيُقْبَلُ) ، قَوْلُ مَنْ ادَّعَى مِنْهُمَا أَنَّهُ وَقَعَ هَزْلًا (بِيَمِينِهِ مَعَ قَرِينَةٍ) تَدُلُّ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ قَرِينَةٌ؛ لَمْ يُقْبَلْ.
(وَلَا) إنْ وَقَعَ (تَلْجِئَةً وَأَمَانَةً وَهُوَ) ؛ أَيْ بَيْعُ التَّلْجِئَةِ وَالْأَمَانَةِ (إظْهَارُهُ) ؛ أَيْ الْبَيْعِ الَّذِي أُظْهِرَ؛ لِلِاحْتِيَاجِ إلَيْهِ؛ (لِدَفْعِ ظَالِمٍ) عَنْ الْبَائِعِ، (وَلَا يُرَادُ) الْبَيْعُ (بَاطِنًا) ؛ فَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ مِنْهُ النِّيَّةُ فَقَطْ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى.
(وَقَالَ الشَّيْخُ) تَقِيُّ الدِّينِ: (بَيْعُ الْأَمَانَةِ الْمَضْمُونَةِ) عَلَى الْقَابِضِ هُوَ (اتِّفَاقُهُمَا) ؛ أَيْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ (عَلَى أَنَّ الْبَائِعَ إذَا جَاءَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ أَعَادَ عَلَيْهِ) ؛ أَيْ عَلَى الْبَائِعِ (مِلْكَهُ) الْمَأْخُوذَ مِنْهُ
(يَنْتَفِعُ بِهِ) ؛ أَيْ: بِالْبَيْعِ (مُشْتَرٍ بِإِجَارَةٍ وَسَكَنٍ وَنَحْوِهِ) ؛ كَرُكُوبِ مَا يُرْكَبُ، وَحَلْبِ مَا يُحْلَبُ، (وَهُوَ عَقْدُ) الْبَيْعِ عَلَى هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ (بَاطِلٌ بِكُلِّ حَالٍ، وَمَقْصُودُهُمَا) ؛ أَيْ: الْمُتَبَايِعَيْنِ (إنَّمَا هُوَ الرِّبَا بِإِعْطَاءِ دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ لِأَجَلٍ، وَمَنْفَعَةُ الدَّارِ رِبْحٌ) ؛ فَهُوَ فِي الْمَعْنَى قَرْضٌ بِعِوَضٍ، وَالْوَاجِبُ رَدُّ الْمَبِيعِ إلَى الْبَائِعِ، وَرَدُّ الْبَائِعِ إلَى الْمُشْتَرِي مَا قَبَضَهُ مِنْهُ ثَمَنًا عَنْ الْمَبِيعِ.
لَكِنْ يُحْسَبُ لِلْبَائِعِ مِنْهُ مَا قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي مِنْ الْمَالِ الَّذِي سَمَّيَا أُجْرَةً.
وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي هُوَ الَّذِي سَكَنَ؛ حُسِبَ عَلَيْهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ؛ فَتَحْصُلُ الْمُقَاصَّةُ بِقَدْرِهِ، وَيُرَدُّ الْفَضْلُ (بِإِيجَابٍ) - مُتَعَلِّقٌ بِ يَنْعَقِدُ - كَقَوْلِ بَائِعٍ (بِعْتُكَ) كَذَا، (أَوْ مَلَّكْتُك) كَذَا، (أَوْ وَلَّيْتُكَ) كَذَا، أَيْ: بِعْتُكَهُ بِرَأْسِ مَالِهِ، وَهُمَا يَعْلَمَانِهِ.
(أَوْ أَشْرَكْتُكَ) فِيهِ فِي بَيْعِ الشَّرِكَةِ وَتَأْتِي صُورَةُ التَّوْلِيَةِ وَالشَّرِكَةِ فِي السَّادِسِ مِنْ بَابِ الْخِيَارِ (أَوْ وَهَبْتُكَ) هَذَا بِكَذَا، (أَوْ أَعْطَيْتُكَهُ) بِكَذَا.
وَيَقُولُ؛ كَقَوْلِ مُشْتَرٍ: (ابْتَعْتُ) ذَلِكَ، (أَوْ قَبِلْت أَوْ تَمَلَّكْتُ، أَوْ اشْتَرَيْتُ أَوْ أَخَذْتَ، وَنَحْوَهُ) كَ اسْتَبْدَلْتُ.
(وَشَرْطٌ) لِانْعِقَادِ بَيْعٍ (كَوْنُ قَبُولٍ عَلَى وَفْقِ إيجَابٍ قَدْرًا) ؛ فَلَوْ خَالَفَ؛ كَأَنْ يَقُولَ: بِعْتُكَهُ بِعَشَرَةٍ، فَقَالَ: اشْتَرَيْتُهُ بِثَمَانِيَةٍ؛ لَمْ يَنْعَقِدْ وَكَوْنُهُ عَلَى وَفْقِهِ (نَقْدًا وَصِفَةً وَحُلُولًا وَأَجَلًا. فَلَوْ قَالَ: بِعْتُكَ بِأَلْفِ) دِرْهَمٍ، فَقَالَ: اشْتَرَيْتُ بِمِائَةِ دِينَارٍ، أَوْ قَالَ: بِعْتُكَ بِأَلْفٍ (صَحِيحَةٍ مَثَلًا، فَقَالَ: اشْتَرَيْتُ بِأَلْفٍ مُكَسَّرَةٍ) ؛ كَ اشْتَرَيْتُ بِأَلْفٍ نِصْفُهَا صَحِيحٌ وَنِصْفُهَا مُكَسَّرٌ، أَوْ قَالَ: بِعْتُكَ بِأَلْفٍ حَالَّةٍ، فَقَالَ: اشْتَرَيْتُ بِأَلْفٍ مُؤَجَّلَةٍ، أَوْ قَالَ الْبَائِعُ: بِأَلْفٍ مُؤَجَّلَةٍ إلَى رَجَبٍ، فَقَالَ الْمُشْتَرِي: إلَى شَعْبَانَ، (لَمْ يَصِحَّ) الْبَيْعُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ؛ لِأَنَّهُ رَدٌّ لِلْإِيجَابِ، لَا قَبُولَ لَهُ.
(وَصَحَّ تَقَدُّمُ قَبُولٍ) عَلَى إيجَابٍ (بِلَفْظِ أَمْرٍ) ، وَيَأْتِي مِثَالُهُ أَوْ بِلَفْظِ مَاضٍ فَقَطْ مُجَرَّدٍ عَنْ نَحْوِ اسْتِفْهَامٍ، كَتَرَجٍّ وَتَمَنٍّ؛ كَقَوْلِ مُشْتَرٍ لِبَائِعٍ:(بِعْنِي)
كَذَا بِكَذَا، فَقَالَ الْبَائِعُ: بِعْتُكَ؛ صَحَّ، وَهَذَا مِثَالُ الْأَمْرِ.
(أَوْ) قَالَ مُشْتَرٍ: (اشْتَرَيْتُ) مِنْك هَذَا بِكَذَا، (فَيَقُولُ) الْبَائِعُ:(بِعْتُكَ وَنَحْوَهُ) مِمَّا تَقَدَّمَ؛ صَحَّ الْبَيْعُ، وَهَذَا مِثَالُ الْمَاضِي.
(أَوْ) قَالَ الْمُشْتَرِي: بِعْنِي هَذَا بِكَذَا، أَوْ اشْتَرَيْتُهُ مِنْك بِكَذَا، فَقَالَ الْبَائِعُ:(بَارَكَ اللَّهُ لَك فِيهِ، أَوْ) هُوَ (مُبَارَكٌ عَلَيْك) أَوْ قَالَ: (إنَّ اللَّهَ قَدْ بَاعَكَ) ؛ صَحَّ الْبَيْعُ؛ لِدَلَالَةِ ذَلِكَ عَلَى الْمَقْصُودِ، وَلَا يَصِحُّ الْبَيْعُ إنْ قَالَ الْبَائِعُ:(بِعْتُهُ) بِكَذَا، (فَقَالَ) الْمُشْتَرِي:(أَنَا آخُذُهُ) بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَعْدٌ بِأَخْذِهِ.
فَلَوْ قَالَ: أَخَذْتُ مِنْكَ، صَحَّ؛ لِوُجُودِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ. (وَلَا) يَصِحُّ الْبَيْعُ إنْ قَالَ الْمُشْتَرِي:(أَبِعْتنِي) بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، (أَوْ لَيْتَك) بِعْتَنِي، بِالتَّمَنِّي، أَوْ لَعَلَّكَ تَبِيعُنِي، بِالتَّرَجِّي، (أَوْ تَبِيعُنِي) ، بِالْمُضَارِعِ.
وَهَذِهِ مُحْتَرَزَاتُ قَوْلِهِ: بِلَفْظِ الْأَمْرِ، أَوْ مَاضٍ فَقَطْ، مُجَرَّدٍ عَنْ نَحْوِ اسْتِفْهَامٍ وَتَمَنٍّ، (أَوْ قَالَ بَائِعٌ لِمُشْتَرٍ: اشْتَرِهِ بِكَذَا، أَوْ ابْتَعْهُ بِكَذَا، فَقَالَ) مُشْتَرٍ:(اشْتَرَيْتُهُ، أَوْ ابْتَعْتُهُ) ؛ لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ، (مَا لَمْ يَقُلْ بَائِعٌ بَعْدَهُ) ؛ أَيْ: بَعْدَ قَوْلِ الْمُشْتَرِي ذَلِكَ: بِعْتُكَ وَنَحْوَهُ كَمَلَّكْتُكَ، قَالَهُ فِي الرِّعَايَةِ ".
(وَصَحَّ تَرَاخِي أَحَدِهِمَا) ؛ أَيْ: الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ عَنْ الْآخَرِ.
(وَالْبَيِّعَانِ بِالْمَجْلِسِ لَمْ يَتَشَاغَلَا بِمَا يَقْطَعُهُ) ؛ أَيْ: الْبَيْعَ عُرْفًا؛ لِأَنَّ حَالَةَ الْمَجْلِسِ كَحَالَةِ الْعَقْدِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُكْتَفَى بِالْقَبْضِ فِيهِ لِمَا يُعْتَبَرُ قَبْضُهُ، (وَإِلَّا) بِأَنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ الْإِتْيَانِ بِمَا بَقِيَ مِنْهُمَا، أَوْ تَشَاغَلَا بِمَا يَقْطَعُهُ عُرْفًا، (فَلَا) يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إعْرَاضٌ عَنْ الْعَقْدِ؛ أَشْبَهَ مَا لَوْ صَرَّحَا بِالرَّدِّ.
(وَيَتَّجِهُ) إنَّمَا يَضُرُّ التَّشَاغُلُ بِمَا يَقْطَعُهُ عُرْفًا، إذَا صَدَرَ الْعَقْدُ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا.
(لَا) إنْ صَدَرَ مِنْ (مُتَوَلِّي طَرَفَيْهِ) ؛ أَيْ: الْعَقْدِ، (لِإِجْزَاءِ أَحَدِهِمَا) ؛ أَيْ: الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ عَنْ الْآخَرِ؛ كَصُدُورِ الْعَقْدِ مِنْ مُتَوَلِّي طَرَفَيْهِ فِي (نِكَاحٍ) ؛ فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ: زَوَّجْتُ فُلَانَةَ مِنْ فُلَانٍ، وَلَا
يَلْزَمُ قَوْلُهُ: وَقَبِلْتُ ذَلِكَ لَهُ، أَوْ يَقُولَ: تَزَوَّجْتُهَا لِفُلَانٍ، وَلَا يَلْزَمُ (قَوْلُهُ) : وَقَبِلْتُ ذَلِكَ لَهُ، وَإِذَا كَانَ هُوَ الزَّوْجَ فَيَكْفِي قَوْلُهُ: تَزَوَّجْتُهَا، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُولَ: وَقَبِلْتُ ذَلِكَ لِنَفْسِي. وَالْبَيْعُ كَذَلِكَ.
(وَ) يَتَّجِهُ (أَنَّ مَا بَطَلَ) بِهِ الْعَقْدُ (مِمَّا مَرَّ) مِنْ الصُّوَرِ؛ (يَصِحُّ) ؛ أَيْ: يَنْقَلِبُ صَحِيحًا (إذَا قَبَضَ) الثَّمَنَ؛ (لِوُجُودِ الْمُعَاطَاةِ إذَنْ) ؛ أَيْ: وَقْتَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ غَالِبَ النَّاسِ يَشْتَرِي مِنْ الْبَقَّالِ وَالْبَزَّازِ وَالْقَصَّابِ شَيْئًا فَشَيْئًا، بِنَفْسِهِ تَارَةً، وَبِوَكِيلِهِ تَارَةً أُخْرَى، مِنْ غَيْرِ مُسَاوَمَةٍ، وَلَا قَطْعِ ثَمَنٍ، ثُمَّ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةٍ، يُحَاسِبُهُ عَلَى ذَلِكَ، وَيَدْفَعُ لَهُ الثَّمَنَ.
فَلَوْ اُعْتُبِرَ الْقَبْضُ فِي الْمُعَاطَاةِ كُلَّ مَرَّةٍ عَلَى حِدَتِهَا؛ لَضَاقَ الْأَمْرُ، وَلَزِمَ إبْطَالُ غَالِبِ الْعُقُودِ، وَاشْتِغَالُ الذِّمَمِ بِفَسَادِ الْمُعَامَلَةِ.
وَهَذَا الِاتِّجَاهُ لَا يَسَعُ النَّاسُ الْعَمَلَ بِغَيْرِهِ، فَلِلَّهِ دَرُّ مُسْتَنْبِطِهِ عَلَى نَظَرِهِ الدَّقِيقِ، وَاسْتِخْرَاجِهِ الْأَنِيقِ.
(وَإِنْ كَاتَبَ) الْبَائِعُ (أَوْ رَاسَلَ غَائِبًا) عَنْ الْمَجْلِسِ قَائِلًا: (إنِّي بِعْتُكَ) كَذَا بِكَذَا، (أَوْ) إنِّي (بِعْتُ فُلَانًا كَذَا) ، وَنَسَبَهُ بِمَا يُمَيِّزُهُ بِكَذَا، (فَقَبِلَ الْمُشْتَرِي) الْبَيْعَ (حِينَ بَلَغَهُ الْخَبَرُ) ، صَحَّ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ التَّرَاخِيَ مَعَ غِيبَةِ الْمُشْتَرِي لَا يَدُلُّ عَلَى إعْرَاضِهِ عَنْ الْإِيجَابِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ حَاضِرًا، فَفَرَّقَ الْمُصَنِّفُ فِي تَرَاخِي الْقَبُولِ عَنْ الْإِيجَابِ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ الْمُشْتَرِي حَاضِرًا، وَمَا إذَا كَانَ غَائِبًا
وَهَذَا يُوَافِقُ رِوَايَةَ أَبِي طَالِبٍ فِي النِّكَاحِ
قَالَ فِي رَجُلٍ يَمْشِي إلَيْهِ قَوْمٌ: فَقَالُوا: زَوِّجْ فُلَانًا فَقَالَ: قَدْ زَوَّجْتُهُ عَلَى أَلْفٍ، فَرَجَعُوا إلَى الزَّوْجِ، فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: قَدْ قَبِلْتُ (هَلْ يَكُونُ هَذَا نِكَاحًا؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إذَا كَانَ) الْعَاقِدُ الْآخَرُ حَاضِرًا اُعْتُبِرَ قَبُولُهُ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا جَازَ تَرَاخِي الْقَبُولِ عَنْ الْمَجْلِسِ، كَمَا قُلْنَا فِي وِلَايَةِ الْقَضَاءِ.
(وَيَنْعَقِدُ) الْبَيْعُ (فِي غَيْرِ كِتَابَةٍ) وَفِي غَيْرِ ضِمْنِيٍّ وَهُوَ قَوْلُهُ: (اعْتِقْ عَبْدَكَ عَلَى كَذَا) كَأَلْفٍ مَثَلًا.
(وَيَتَّجِهُ وَ) يَنْعَقِدُ أَيْضًا فِي غَيْرِ (تَوَلِّي طَرَفَيْهِ) ؛ أَيْ: الْعَقْدِ وَهُوَ مُتَّجِهٌ.
(بِمُعَاطَاةٍ) نَصًّا فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ؛ لِدَلَالَةِ الْحَالِ.
جَزَمَ بِهِ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ؛ لِعُمُومِ الْأَدِلَّةِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا عَنْ أَحَدِ الصَّحَابَةِ اسْتِعْمَالُ إيجَابٍ وَقَبُولٍ فِي بَيْعِهِمْ، وَلَوْ اُسْتُعْمِلَ لَنُقِلَ نَقْلًا شَائِعًا وَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَخْفَ حُكْمُهُ، وَلَمْ يَزَلْ الْمُسْلِمُونَ فِي أَسْوَاقِهِمْ وَبِيَاعَاتِهِمْ عَلَى الْبَيْعِ بِالْمُعَاطَاةِ؛ كَقَوْلِ الْمُشْتَرِي:(أَعْطِنِي بِهَذَا) الدِّرْهَمِ (خُبْزًا، فَيُعْطِيهِ) الْبَائِعُ (مَا يُرْضِيهِ) ، وَهُوَ سَاكِتٌ، أَوْ يَقُولُ الْبَائِعُ: خُذْ هَذَا بِدِرْهَمٍ، فَيَأْخُذُهُ، وَهُوَ سَاكِتٌ.
(أَوْ يُسَاوِمُهُ سِلْعَةً بِثَمَنٍ، فَيَقُولُ) بَائِعُهَا: (خُذْهَا) ، فَيَأْخُذُهَا، وَهُوَ سَاكِتٌ، (وَنَحْوَهُ) ؛ كَ أَعْطَيْتُكهَا، (أَوْ هِيَ لَكَ، أَوْ) يَقُولُ (خُذْ هَذِهِ) السِّلْعَةَ (بِدِرْهَمٍ فَيَأْخُذُهَا) مُشْتَرٍ وَهُوَ سَاكِتٌ (أَوْ) يَقُولُ مُشْتَرٍ: (كَيْفَ تَبِيعُ الْخُبْزَ؟ فَيَقُولُ) الْبَائِعُ: (كَذَا بِدِرْهَمٍ، فَيَقُولُ الْمُشْتَرِي: خُذْهُ) ؛ أَيْ: الدِّرْهَمَ، (أَوْ اتَّزِنْهُ) ، فَيَأْخُذُهُ، (أَوْ وَضَعَ) مُشْتَرٍ (ثَمَنَهُ) الْمَعْلُومَ لِمِثْلِهِ (عَادَةً، وَأَخَذَهُ) ؛ أَيْ: الْمَوْضُوعَ ثَمَنُهُ (عَقِبَهُ) ؛ أَيْ: عَقِبَ وَضْعِ ثَمَنِهِ مِنْ غَيْرِ لَفْظٍ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا.
(وَ) قَالَ
(فِي " الْمُبْدِعِ " ظَاهِرُهُ) الصِّحَّةُ، (وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْمَالِكُ حَاضِرًا) ؛ لِلْعُرْفِ.
(وَيَتَّجِهُ) صِحَّةُ (هَذَا)، أَيْ: وَضْعِ الثَّمَنِ وَأَخْذُ الْمُثَمَّنِ فِي غَيْبَةِ الْمَالِكِ (فِي) مَبِيعٍ (يَسِيرٍ) عُرْفًا، كَحُزَمِ الْبَقْلِ وَنَحْوِهَا، مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ ثَمَنُهُ، بِخِلَافِ مَبِيعٍ لَهُ شَأْنٌ، فَلَا بُدَّ مِنْ حُضُورِ مَالِكِهِ، أَوْ وَكِيلِهِ فِيهِ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ.
(وَيُعْتَبَرُ فِي) صِحَّةِ بَيْعٍ (مُعَاطَاةُ مُعَاقَبَةُ الْقَبْضِ) لِلطَّلَبِ، فِي نَحْوِ خُذْ هَذَا بِدِرْهَمٍ، (أَوْ) مُعَاقَبَةُ (الْإِقْبَاضِ) لِلطَّلَبِ، فِي نَحْوِ أَعْطِنِي بِهَذَا خُبْزًا؛ لِأَنَّهُ إذَا اُعْتُبِرَ عَدَمُ التَّأْخِيرِ فِي الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ اللَّفْظِيِّ، بِأَنْ لَا يَتَأَخَّرَ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا مِنْ الْمَجْلِسِ، أَوْ يَتَشَاغَلَا بِمَا يَقْطَعُهُ عُرْفًا؛ فَفِي الْمُعَاطَاةِ أَوْلَى نَبَّهَ عَلَيْهِ ابْنُ قُنْدُسٍ.
وَالْعَطْفُ بِالْفَاءِ، فِي نَحْوِ فَيُعْطِيهِ وَمَا بَعْدَهُ، يَدُلُّ عَلَيْهِ وَظَاهِرُهُ أَنَّ التَّأْخِيرَ فِي الْمُعَاطَاةِ مُبْطِلٌ، وَلَوْ كَانَا بِالْمَجْلِسِ لَمْ يَتَشَاغَلَا بِمَا يَقْطَعُهُ؛ لِضَعْفِهَا عَنْ الصِّيغَةِ الْقَوْلِيَّةِ.
(وَكَذَا هِبَةٌ وَهَدِيَّةٌ وَصَدَقَةٌ) ؛ فَتَنْعَقِدُ بِالْمُعَاطَاةِ؛ لِاسْتِوَاءِ الْجَمِيعِ فِي الْمَعْنَى، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ، اسْتِعْمَالُ إيجَابٍ وَقَبُولٍ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.
(وَيَتَّجِهُ هَذَا) ؛ أَيْ: اعْتِبَارُ الْقَبْضِ، أَوْ الْإِقْبَاضِ:(لِصِحَّةِ الْبَيْعِ إذَنْ) ؛ أَيْ: وَقْتَ التَّنَاوُلِ، (وَإِلَّا؛ فَيَصِحُّ) الْبَيْعُ (بِقَبْضٍ مُتَأَخِّرٍ) عَنْ التَّنَاوُلِ.
- وَإِنْ تَرَاخَى الْقَبْضُ - لِعُمُومِ الْبَلْوَى بِذَلِكَ، وَهَذَا الِاتِّجَاهُ تَقَدَّمَ آنِفًا مَعَنَا.