الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بِهِ، (وَإِنْ لَمْ يَبْرَأْ) الضِّرْسُ، (وَامْتَنَعَ رَبُّهُ مِنْ قَلْعِهِ؛ لَمْ يُجْبَرْ) عَلَى قَلْعِهِ؛ لِأَنَّهُ إتْلَافُ جُزْءٍ مِنْ الْآدَمِيِّ مُحَرَّمٌ فِي الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا أُبِيحَ إذَا صَارَ بَقَاؤُهُ ضَرَرًا، أَوْ ذَلِكَ مُفَوَّضٌ إلَى كُلِّ إنْسَانٍ فِي نَفْسِهِ إذَا كَانَ أَهْلًا لِذَلِكَ، وَصَاحِبُ الضِّرْسِ أَعْلَمُ بِمَضَرَّتِهِ وَنَفْعِهِ وَقَدْرِ أَلَمِهِ. .
[فَصْلٌ الضَّرْبُ الثَّانِي مِنْ ضَرْبَيْ الْإِجَارَةِ أَنْ تَكُونَ عَلَى مَنْفَعَةٍ بِذِمَّةٍ]
(فَصْلٌ)(الضَّرْبُ الثَّانِي) مِنْ ضَرْبَيْ الْإِجَارَةِ: أَنْ تَكُونَ (عَلَى مَنْفَعَةٍ بِذِمَّةٍ)، وَهِيَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ تَكُونَ فِي مَحَلٍّ مُعَيَّنٍ؛ كَاسْتَأْجَرْتُكَ لِحَمْلِ هَذِهِ الْغِرَارَةِ الْبُرِّ إلَى مَحَلِّ كَذَا عَلَى بَعِيرٍ تُقِيمُهُ مِنْ مَالِكَ بِكَذَا. وَالثَّانِي أَنْ تَكُونَ فِي مَحَلٍّ مَوْصُوفٍ؛ كَاسْتَأْجَرْتُكَ لِحَمْلِ غِرَارَةِ بُرٍّ صِفَتُهُ كَذَا إلَى مَكَّةَ بِكَذَا.
(وَشَرَطَ ضَبْطَهَا) - أَيْ: الْمَنْفَعَةِ - (بِمَا) - أَيْ وَصْفٍ - (لَا يَخْتَلِفُ) بِهِ الْعَمَلُ؛ (كَخِيَاطَةِ ثَوْبٍ) يُذْكَرُ قَدْرُهُ وَجِنْسُهُ وَصِفَتُهُ لِخِيَاطَةٍ، (وَبِنَاءِ دَارٍ) يَذْكُرُ الْآلَةَ وَنَحْوَهَا؛ لِمَا تَقَدَّمَ، (وَحَمْلٍ) لِشَيْءٍ يَذْكُرُ جِنْسَهُ وَقَدْرَهُ، وَأَنَّ الْحَمْلَ (لِمَحَلٍّ مُعَيَّنٍ) ؛ لِيَحْصُلَ الْعِلْمُ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ؛ (كَحَمْلِ جَمَاعَةٍ عَلَى دَابَّةٍ أَوْ سَفِينَةٍ) ، فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ عَدَدِهِمْ، (فَمَا) - أَيْ: كُلُّ مَوْضِعٍ - (وَقَعَ) الْعَقْدُ (عَلَى مُدَّةٍ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ ظَهْرٍ يُحْمَلُ عَلَيْهِ) ؛ لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِالْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، وَالْغَرَضُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِهِ.
(وَ) إنْ وَقَعَ الْعَقْدُ (عَلَى عَمَلٍ مُعَيَّنٍ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ) - أَيْ: مَعْرِفَةُ الظَّهْرِ الَّذِي يَحْمِلُ عَلَيْهِ - لِأَنَّ الْقَصْدَ الْعَمَلُ، وَحَيْثُ ضُبِطَ حَصَلَ الْمَطْلُوبُ، (أَوْ) وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى (رُكُوبِ عَقَبَةٍ، بِأَنْ يَرْكَبَ تَارَةً وَيَمْشِيَ أُخْرَى) ؛ لَمْ يُشْتَرَطْ مَعْرِفَةُ رُكُوبٍ؛ لِحُصُولِ الْغَرَضِ بِدُونِهَا، وَيَصِحُّ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَازَ اكْتِرَاؤُهَا فِي الْجَمِيعِ؛ جَازَ فِي الْبَعْضِ، (وَ) لَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ الْعَقَبَةِ مَعْلُومَةً، (فَتُقَدَّرُ بِمَسَافَةٍ) كَفَرَاسِخَ مَعْلُومَةٍ؛ بِأَنْ يَرْكَبَ فَرْسَخًا وَيَمْشِيَ آخَرَ، (أَوْ)
تُقَدَّرُ (بِزَمَنٍ) ؛ بِأَنْ يَرْكَبَ لَيْلًا وَيَمْشِيَ نَهَارًا، أَوْ بِالْعَكْسِ، وَيُعْتَبَرُ فِي هَذَا زَمَانُ السَّيْرِ دُونَ زَمَانِ النُّزُولِ.
(وَيَتَّجِهُ أَنَّ إطْلَاقَهَا) - أَيْ: الْعَقَبَةُ - (لَا يَقْتَضِي رُكُوبَ نِصْفِ الطَّرِيقِ؛ لِعَدَمِ صِحَّتِهَا) - أَيْ: إجَارَةِ الْعَقَبَةِ - (بِعَدَمِ التَّقْدِيرِ) قَالَ فِي " الْمُغْنِي ": لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ، وَلَيْسَ لَهُ ضَابِطٌ، فَيَكُونُ مَجْهُولًا انْتَهَى. وَهُوَ مُتَّجِهٌ.
(خِلَافًا لَهُ) - أَيْ: لِصَاحِبِ " الْإِقْنَاعِ " - فَإِنَّهُ قَالَ: وَإِطْلَاقُهَا يَقْتَضِي رُكُوبَ نِصْفِ الطَّرِيقِ انْتَهَى. وَمَا مَشَى عَلَيْهِ فِي " الْإِقْنَاعِ " احْتِمَالٌ مَرْجُوحٌ، وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَرْكَبَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَيَمْشِيَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ مَا زَادَ وَنَقَصَ؛ جَازَ، وَإِنْ اخْتَلَفَا؛ لَمْ يُجْبَرْ الْمُمْتَنِعُ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ فِيهِ ضَرَرًا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْمَاشِي، لِدَوَامِ الْمَشْيِ، وَعَلَى الْمَرْكُوبِ. وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْبَادِئِ مِنْهُمَا؛ أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَا مُرَجِّحَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ فَتَعَيَّنَتْ الْقُرْعَةُ. (وَ) وَشُرِطَ (كَوْنُ أَجِيرٍ فِيهَا) - أَيْ: الْمَنْفَعَةُ فِي الذِّمَّةِ - (آدَمِيًّا جَائِزَ التَّصَرُّفِ) ؛ لِأَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ عَلَى عَمَلٍ فِي الذِّمَّةِ، فَلَمْ تَجُزْ مِنْ غَيْرِ جَائِزِ التَّصَرُّفِ، (وَيُسَمَّى) الْأَجِيرُ فِيهَا (الْمُشْتَرِكُ لِتَقْدِيرِ نَفْعِهِ بِالْعَمَلِ) ، وَلِأَنَّهُ يَتَقَبَّلُ أَعْمَالًا لِجَمَاعَةٍ، فَتَكُونُ مَنْفَعَةً مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمْ، (وَ) وَشَرَطَ (أَنْ لَا يَجْمَعَ بَيْنَ تَقْدِيرِ مُدَّةٍ وَعَمَلٍ) ؛ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا (لِيَخِيطَهُ) - أَيْ: هَذَا الثَّوْبُ - (فِي يَوْمٍ) ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَفْرُغُ مِنْهُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْيَوْمِ، فَإِنْ اسْتَعْمَلَ فِي بَقِيَّتِهِ؛ فَقَدْ زَادَ عَلَى الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ؛ فَقَدْ تَرَكَهُ فِي بَعْضِ زَمَنِهِ، فَيَكُونُ غَرَرًا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، وَلَمْ يُوجَدْ مِثْلُهُ فِي مَحَلِّ الْوِفَاقِ.
(وَيَصِحُّ) الْجَمْعُ بَيْنَ تَقْدِيرِ الْمُدَّةِ وَالْعَمَلِ (جَعَالَةً) ؛ لِأَنَّهُ يُفْتَقَرُ فِيهَا مَا لَا يُفْتَقَرُ فِي الْإِجَارَةِ.
قَالَ الشَّارِحُ: فَإِذَا أَتَمَّ الْعَمَلَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ؛ لَمْ يَلْزَمْهُ الْعَمَلُ فِي بَقِيَّتِهَا، لِأَنَّهُ وَفَّى مَا عَلَيْهِ قَبْلَ مُدَّتِهِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ آخَرُ كَقَضَاءِ الدَّيْنِ قَبْلَ أَجَلِهِ، وَإِنْ مَضَتْ الْمُدَّةُ قَبْلَ الْعَمَلِ؛ فَلِلْمُسْتَأْجِرِ فَسْخُ الْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّ الْأَجِيرَ لَمْ يَفِ لَهُ بِشَرْطِهِ، فَإِنْ رَضِيَ بِالْبَقَاءِ عَلَيْهِ لَمْ يَمْلِكْ الْأَجِيرُ الْفَسْخَ؛ لِأَنَّ الْإِخْلَالَ بِالشَّرْطِ مِنْهُ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ وَسِيلَةً إلَى الْفَسْخِ، فَإِنْ اخْتَارَ إمْضَاءَ الْعَقْدِ طَالَبَهُ بِالْعَمَلِ لَا غَيْرُ؛ كَالْمُسَلِّمِ إذَا صَبَرَ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْمُسَلَّمِ فِيهِ إلَى حِينِ وُجُودِهِ؛ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ الْمُسَلَّمِ فِيهِ، وَإِنْ فُسِخَ الْعَقْدُ قَبْلَ الْعَمَلِ؛ سَقَطَ الْأَجْرُ وَالْعَمَلُ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ عَمَلِ بَعْضِهِ؛ فَلَهُ أَجْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ انْفَسَخَ، فَسَقَطَ الْمُسَمَّى، وَرَجَعَ إلَى أَجْرِ الْمِثْلِ انْتَهَى.
(وَيَلْزَمُهُ) - أَيْ الْأَجِيرُ الْمُشْتَرَكُ - (الشُّرُوعُ) فِي عَمَلِ مَا اُسْتُؤْجِرَ لَهُ (عَقِبَ الْعَقْدِ) ؛ لِجَوَازِ مُطَالَبَتِهِ بِهِ إذَنْ، (فَإِنْ أَخَّرَ) الْعَمَلَ (بِلَا عُذْرٍ) ، فَتَلِفَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ؛ (ضَمِنَ) ؛ لِتَلَفِهِ بِسَبَبِ تَرْكِهِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ.
(وَ) وَشُرِطَ (كَوْنُ عَمَلٍ لَا يَخْتَصُّ فَاعِلُهُ بِمُسْلِمٍ) ؛ كَخِيَاطَةٍ وَنِسَاجَةٍ وَنَحْوِهِمَا، أَمَّا إنْ كَانَ فَاعِلُهُ يَخْتَصُّ بِالْمُسْلِمِ (كَأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ وَإِمَامَةٍ وَتَعْلِيمِ قُرْآنٍ وَفِقْهٍ وَحَدِيثٍ وَنِيَابَةٍ فِي حَجٍّ وَقَضَاءٍ) بَيْنَ النَّاسِ؛ فَتَحْرُمُ الْإِجَارَةُ عَلَيْهِ. وَلَا تَصِحُّ، (وَلَا يَقَعُ إلَّا قُرْبَةً لِفَاعِلِهِ) ، هَذَا الْمَذْهَبُ وَعَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ.
قَالَ ابْنُ مُنَجَّى وَغَيْرُهُ: هَذَا أَصَحُّ، وَجَزَمَ بِهِ فِي " الْوَجِيزِ " وَغَيْرِهِ لِحَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ الْعَاصِ «إنَّ آخِرَ مَا عَهِدَ إلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ اتَّخِذْ مُؤَذِّنًا لَا يَأْخُذُ عَلَى أَذَانِهِ أَجْرًا» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: «عَلَّمْت نَاسًا مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ الْقُرْآنَ وَالْكِتَابَةَ، فَأَهْدَى إلَيَّ رَجُلٌ مِنْهُمْ قَوْسًا، قَالَ: قُلْت: قَوْسٌ، وَلَيْسَ بِمَالٍ. قَالَ: قُلْت: أَتَقَلَّدُهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَذَكَرْت ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَصَصْت عَلَيْهِ الْقِصَّةَ، قَالَ: إنْ سَرَّك أَنْ يُقَلِّدَك اللَّهُ قَوْسًا مِنْ نَارٍ فَاقْبَلْهَا» . وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ
«أَنَّهُ عَلَّمَ رَجُلًا سُورَةً مِنْ الْقُرْآنِ، فَأَهْدَى لَهُ خَمِيصَةً أَوْ ثَوْبًا، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إنَّك لَوْ لَبِسْتَهَا لَأَلْبَسَكَ اللَّهُ مَكَانَهَا ثَوْبًا مِنْ نَارٍ» . رَوَاهُ الْأَثْرَمُ فِي سُنَنِهِ ". وَعَنْ أُبَيٍّ قَالَ: «كُنْت أَخْتَلِفُ إلَى رَجُلٍ مُسِنٍّ قَدْ أَصَابَتْهُ عِلَّةٌ وَقَدْ احْتَبَسَ فِي بَيْتِهِ أُقْرِئُهُ الْقُرْآنَ، فَكَانَ عِنْدَ فَرَاغِهِ مِمَّا أُقْرِئُهُ يَقُولُ لِلْجَارِيَةِ: هَلُمِّي طَعَامَ أَخِي، فَيُؤْتَى بِطَعَامٍ لَا آكُلُ مِثْلَهُ بِالْمَدِينَةِ، فَجَالَ فِي نَفْسِي مِنْهُ شَيْءٌ، فَذَكَرْتُهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إنْ كَانَ ذَلِكَ الطَّعَامُ طَعَامَهُ وَطَعَامَ أَهْلِهِ فَكُلْ مِنْهُ. وَإِنْ كَانَ يُتْحِفُكَ بِهِ فَلَا تَأْكُلْهُ» ، وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِبْلٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ، وَلَا تَغْلُوا فِيهِ، وَلَا تَجْفُوا عَنْهُ، وَلَا تَأْكُلُوا بِهِ، وَلَا تَسْتَكْثِرُوا بِهِ» . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَقِيقٍ: هَذِهِ الرُّغْفَانُ الَّتِي يَأْخُذُهَا الْمُعَلِّمُونَ مِنْ السُّحْتِ. وَلِأَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ كَوْنُهَا قُرْبَةً إلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَلَا يَصِحُّ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهَا كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ إنْسَانًا يُصَلِّي خَلْفَهُ الْجُمُعَةَ أَوْ التَّرَاوِيحَ، وَقِيلَ: يَصِحُّ لِلْحَاجَةِ. نَقَلَ أَبُو طَالِبٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: التَّعْلِيمُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ يَتَوَكَّلَ لِهَؤُلَاءِ السَّلَاطِينِ، وَمِنْ أَنْ يَتَوَكَّلَ لِرَجُلٍ مِنْ عَامَّةِ النَّاسِ فِي ضَيْعَةٍ، وَمِنْ [أَنْ] يَسْتَدِينَ، وَيَتَّجِرَ لَعَلَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْوَفَاءِ، فَيَلْقَى اللَّهَ بِأَمَانَاتِ النَّاسِ، وَاخْتَارَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ، وَقَالَ: لَا يَصِحُّ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْقِرَاءَةِ وَإِهْدَائِهَا إلَى الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْإِذْنُ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ: إنَّ الْقَارِئَ، إذَا قَرَأَ لِأَجْلِ الْمَالِ؛ فَلَا ثَوَابَ لَهُ، فَأَيُّ شَيْءٍ يُهْدَى إلَى الْمَيِّتِ؟ : وَإِنَّمَا يَصِلُ إلَى الْمَيِّتِ الْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَالِاسْتِئْجَارُ عَلَى مُجَرَّدِ التِّلَاوَةِ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ، وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي الِاسْتِئْجَارِ عَلَى التَّعْلِيمِ، وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَأْخُذَ الْحَاجُّ عَنْ غَيْرِهِ لِيَحُجَّ، لَا أَنْ يَحُجَّ لِيَأْخُذَ، فَمَنْ أَحَبَّ إبْرَاءَ ذِمَّةِ الْمَيِّتِ، أَوْ رُؤْيَةَ الْمَشَاعِرِ، يَأْخُذُ لِيَحُجَّ، وَمِثْلُهُ كُلُّ رِزْقٍ أُخِذَ عَلَى عَمَلٍ صَالِحٍ، يُفَرَّقُ بَيْنَ مَنْ يَقْصِدُ الدِّينَ فَقَطْ وَالدُّنْيَا وَسِيلَةٌ، وَعَكْسُهُ؛ فَالْأَشْبَهُ أَنَّ عَكْسَهُ لَيْسَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَمَنْ حَجّ عَنْ غَيْرِهِ لِيَسْتَفْضِلَ
مَا يُوَفِّي دَيْنَهُ، الْأَفْضَلُ تَرْكُهُ، لَمْ يَفْعَلْهُ السَّلَفُ. انْتَهَى. (وَيَتَّجِهُ وَلَا يُعَارِضُهُ) ؛ أَيْ: لَا يُعَارِضُ قَوْلُهُ هُنَا: وَلَا يَقَعُ إلَّا قُرْبَةً لِفَاعِلِهِ (مَا مَرَّ آخِرُ) كِتَابِ (الْجَنَائِزِ) مِنْ قَوْلِهِمْ: وَكُلُّ قُرْبَةٍ فَعَلَهَا مُسْلِمٌ وَجَعَلَ ثَوَابَهَا لِحَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ؛ جَازَ، وَنَفَعَهُ ذَلِكَ بِحُصُولِ الثَّوَابِ لَهُ؛ (لِأَنَّهُ هُنَا فِعْلُهُ) الْقُرْبَةِ (فِي نَظِيرِ الْأُجْرَةِ، وَلَمْ تُسَلَّمْ) الْأُجْرَةُ (لَهُ، فَكَانَ الثَّوَابُ لَهُ) ، وَهُوَ اتِّجَاهٌ حَسَنٌ.
(وَيَحْرُمُ أَخْذُ أُجْرَةٍ عَلَيْهِ) - أَيْ مَا ذُكِرَ مِنْ الْعَمَلِ الْمُتَقَرَّبِ بِهِ - لِمَا تَقَدَّمَ، وَ (لَا) يَحْرُمُ أَخْذُ (جَعَالَةٍ عَلَى ذَلِكَ) لِأَنَّهَا أَوْسَعُ مِنْ الْإِجَارَةِ، وَلِهَذَا جَازَتْ مَعَ جَهَالَةِ الْعَمَلِ وَالْمُدَّةِ.
(أَوْ) ؛ أَيْ: وَلَا يَحْرُمُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ (عَلَى رُقْيَةٍ) ، نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَاخْتَارَ جَوَازَهُ، وَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ؛ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: «انْطَلَقَ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفْرَةٍ سَافَرُوهَا حَتَّى نَزَلُوا عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، فَاسْتَضَافُوهُمْ، فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمْ، فَلُدِغَ سَيِّدُ ذَلِكَ الْحَيِّ، فَسَعَوْا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ:
لَوْ أَتَيْتُمْ هَذَا الرَّهْطَ الَّذِينَ نَزَلُوا، لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُمْ بَعْضُ شَيْءٍ فَأَتَوْهُمْ، فَقَالُوا: يَا أَيُّهَا الرَّهْطُ إنَّ سَيِّدَنَا لُدِغَ، وَسَعَيْنَا لَهُ؛ بِكُلِّ شَيْءٍ لَا يَنْفَعُهُ، فَهَلْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْكُمْ مِنْ شَيْءٍ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ. إنِّي وَاَللَّهِ لَأَرْقِي، وَلَكِنْ اسْتَضَفْنَاكُمْ فَلَمْ تُضَيِّفُونَا، فَمَا أَنَا بِرَاقٍ لَكُمْ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلًا، فَصَالَحُوهُمْ عَلَى قَطِيعٍ مِنْ الْغَنَمِ، فَانْطَلَقَ يَتْفُلُ عَلَيْهِ، وَيَقْرَأُ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَكَأَنَّمَا نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ، فَانْطَلَقَ يَمْشِي وَمَا بِهِ قَلَبَةٌ، فَأَوْفَوْهُمْ جُعْلَهُمْ الَّذِي صَالَحُوهُمْ عَلَيْهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: اقْتَسِمُوا، فَقَالَ الَّذِي رَقَى: لَا تَفْعَلُوا حَتَّى نَأْتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَنَذْكُرَ لَهُ الَّذِي كَانَ، فَنَنْظُرَ الَّذِي يَأْمُرُنَا بِهِ، فَقَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرُوا لَهُ ذَلِكَ؛ فَقَالَ: وَمَا يُدْرِيكُمْ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟ ثُمَّ قَالَ: أَصَبْتُمْ اقْتَسِمُوا، وَاضْرِبُوا إلَيَّ مَعَكُمْ سَهْمًا، وَضَحِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا النَّسَائِيّ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا اُخْتُلِفَ فِيهِ أَنَّ الرُّقْيَةَ نَوْعُ مُدَاوَاةٍ، وَالْمَأْخُوذُ عَلَيْهَا جُعْلٌ، وَالْمُدَاوَاةُ يُبَاحُ أَخْذُ الْأَجْرِ عَلَيْهَا، وَالْجَعَالَةُ أَوْسَعُ مِنْ الْإِجَارَةِ، وَلِهَذَا تَجُوزُ مَعَ جَهَالَةِ الْعَمَلِ وَالْمُدَّةِ، وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام:«أَحَقُّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ» . يَعْنِي الْجُعْلَ أَيْضًا فِي الرُّقْيَةِ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ ذَلِكَ فِي سِيَاقِ خَبَرِ الرُّقْيَةِ، وَقَالَ ابْنُ هَانِئٍ، سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ رَجُلٍ لَيْسَ لَهُ صِنَاعَةٌ سِوَى بَيْعِ التَّعَاوِيذِ، فَتَرَى لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا، أَوْ يَسْأَلَ النَّاسَ؟ قَالَ: بَيْعُ التَّعَاوِيذِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ، وَقَالَ: التَّعْلِيمُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ بَيْعِ التَّعَاوِيذِ انْتَهَى.
وَأَمَّا جَعْلُ تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ صَدَاقًا فَعَنْ أَحْمَدَ فِيهِ اخْتِلَافٌ، وَلَيْسَ فِي الْخَبَرِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ التَّعْلِيمَ صَدَاقٌ، إنَّمَا قَالَ «زَوَّجْتُكَهَا عَلَى مَا مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ» ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ زَوَّجَهُ بِغَيْرِ صَدَاقٍ إكْرَامًا لَهُ؛ كَمَا «زَوَّجَ أَبَا طَلْحَةَ أُمَّ سُلَيْمٍ عَلَى إسْلَامِهِ» ، وَنُقِلَ عَنْهُ جَوَازُهُ بِلَا صَدَاقٍ، وَإِنَّمَا وَجَبَ نِحْلَةً وَوَصْلَةً، وَلِهَذَا جَازَ خُلُوُّ الْعَقْدِ عَنْ تَسْمِيَتِهِ، وَصَحَّ فَسَادُهُ بِخِلَافِ الْأَجْرِ فِي غَيْرِهِ؛.
(كَمَا يَجُوزُ الْأَخْذُ فِي الْكُلِّ) - أَيْ كُلِّ عَمَلٍ
لَا يَخْتَصُّ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُهُ مِنْ أَهْلِ الْقُرْبَةِ - (بِلَا شَرْطٍ) . قَالَ فِي الشَّرْحِ: فَإِنْ أُعْطِيَ الْمُعَلِّمُ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ؛ جَازَ فِي ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فَإِنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَةِ يَعْقُوبَ بْنِ سَافِرِيٍّ: لَا يَطْلُبُ وَلَا يُشَارِطُ، فَإِنْ أُعْطِيَ شَيْئًا أَخَذَهُ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ سَعْدٍ: أَكْرَهُ أَجْرَ الْمُعَلِّمِ إذَا شَرَطَ، وَقَالَ: إذَا كَانَ الْمُعَلِّمُ لَا يُشَارِطُ، وَلَا يَطْلُبُ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا، إنْ أَتَاهُ شَيْءٌ قَبِلَهُ، كَأَنَّهُ يَرَاهُ أَهْوَنَ، وَكَرِهَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ الْقَوْسِ وَالْخَمِيصَةِ الَّتِي أُعْطِيهِمَا أُبَيٍّ وَعُبَادَةٌ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ قُرْبَةٌ؛ فَلَمْ يَجُزْ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ بِشَرْطٍ وَلَا غَيْرِهِ؛ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، وَوَجْهُ الْأَوَّلِ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«مَا أَتَاك مِنْ هَذَا الْمَالِ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ وَلَا إشْرَافِ نَفْسٍ؛ فَخُذْهُ وَتَمَوَّلْهُ، فَإِنَّهُ رِزْقٌ سَاقَهُ اللَّهُ إلَيْك» . وَقَدْ «أَرْخَصَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأُبَيٍّ فِي أَكْلِ الطَّعَامِ الَّذِي كَانَ يُعَلِّمُهُ إذَا كَانَ طَعَامَهُ وَطَعَامَ أَهْلِهِ» ، وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ بِغَيْرِ شَرْطٍ كَانَ هِبَةً مُجَرَّدَةً؛ فَجَازَ كَمَا لَوْ لَمْ يُعَلِّمْهُ شَيْئًا، فَأَمَّا حَدِيثُ الْقَوْسِ وَالْخَمِيصَةِ؛ فَقَضِيَّتَانِ فِي عَيْنٍ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلِمَ أَنَّهُمَا فَعَلَا ذَلِكَ خَالِصًا، فَكَرِهَ أَخْذَ الْعِوَضِ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيُحْتَمَلُ غَيْرُ ذَلِكَ. انْتَهَى.
(وَ) يَجُوزُ (أَخْذُ رِزْقٍ) مِنْ بَيْتِ الْمَالِ (عَلَى مُتَعَدٍّ نَفْعُهُ؛ كَقَضَاءٍ) وَفُتْيَا، وَأَذَانٍ (وَإِمَامَةٍ) ، وَتَعْلِيمِ قُرْآنٍ، (وَتَدْرِيسِ) عِلْمٍ نَافِعٍ مِنْ حَدِيثٍ وَفِقْهٍ وَنَحْوِهِمَا، وَنِيَابَةٍ فِي حَجٍّ، وَتَحَمُّلِ شَهَادَةٍ وَأَدَائِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ؛ كَمَا يَجُوزُ أَخْذُ (الْوَقْفِ عَلَى مَنْ يَقُومُ بِهَذِهِ الْمَصَالِحِ) الْمُتَعَدِّي نَفْعُهَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعِوَضٍ، بَلْ الْقَصْدُ بِهِ الْإِعَانَةُ عَلَى الطَّاعَةِ.
(قَالَ الشَّيْخُ) تَقِيُّ الدِّينِ: (مَا يُؤْخَذُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ؛ فَلَيْسَ عِوَضًا وَأُجْرَةً، بَلْ رِزْقٌ لِلْإِعَانَةِ عَلَى الطَّاعَةِ) ، وَلَا يُخْرِجُهُ ذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ قُرْبَةً، وَلَا يَقْدَحُ فِي الْإِخْلَاصِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَدَحَ مَا اُسْتُحِقَّتْ الْغَنَائِمُ وَسَلَبُ الْقَاتِلِ، بِخِلَافِ الْأَجْرِ؛ فَيُمْتَنَعُ أَخْذُهُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِمَا تَقَدَّمَ، (فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ) - أَيْ: مِمَّنْ يَقُومُ بِالْمَصَالِحِ - (لِلَّهِ أُثِيبَ) عَلَى عَمَلِهِ الَّذِي