الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد وقع للمسلمين في بدر أمران يكرهانهما.
أولا: كراهتهم قسمة الغنيمة بينهم بالسوية وهذه الكراهة من شبانهم فقط إذ هم الذين قاتلوا وغنموا وقتلوا العدو، وهذا ينشأ من طبع الإنسان.
ثانيا: كراهتهم قتال قريش، وعذرهم فيها أنهم خرجوا من المدينة ابتداء لقصد الغنيمة ولم يستعدوا لقتال، والكارهون فريق من المؤمنين لا كلهم.
وقد شبه الله إحدى الحالتين بالأخرى في مطلق الكراهية وأن امتثال أمر النبي في كلّ هو الخير.
روى عن عمر بن الخطاب أنه قال: لما كان يوم بدر ونظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف أو يزيدون فاستقبل النبي صلى الله عليه وسلم القبلة ثم مد يده وجعل يهتف بربه:«اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض» فما زال يهتف بربه مادّا يديه مستقبلا القبلة حتى سقط رداؤه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه وقال:
كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله الآية
…
وفي رواية فخرج رسول الله وهو يقول سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [سورة القمر آية 45] .
المعنى:
هذه الحال التي حكم الله فيها بأن الأنفال حكمها لله تعالى وتنفيذها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كره شبانهم ذلك- هذه الحال تشبه حالهم وقد أخرجك الله من المدينة لقتال النفير من قريش وقد كرهوا ذلك كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ.
أخرجك ربك من بيتك بالمدينة متلبسا بالحق والحكمة وصواب الرأى والحال أن فريقا بسيطا من المؤمنين لكارهون ذلك لعدم استعدادهم للحرب.
يجادلك المؤمنون في الأمر الحق والرأى السديد وهو تلقى النفير لأنهم آثروا تلقى العير لقلة الرجال وكثرة المال، يجادلونك بعد ما تبين لهم الحق وظهر الصواب، حينما أخبرتهم أنهم هم المنصورون، وأن الله وعدك إحدى الطائفتين، وقد نجا العير، فلم يبق إلا النفير، ولقد جادلوا بأنهم قليلوا العدد والعدد ولم يستعدوا، وقد كان خروجهم لتلقى العير.
لقد وعدهم إحدى الطائفتين على الإبهام فتعلقت آمالهم بالعير فلما نجت العير، ولم يبق إلا مقابلة أبى جهل في النفير، صعب على بعضهم اللقاء وخافوا الحرب وأخذوا يعتذرون، ولكن الحق تبين ولم يعد للجدال وجه إلا الجبن والخور والخوف من القتال حتى كأنهم لشدة ما هم فيه من الجزع والرهبة يساقون إلى الموت المحقق وهم ينظرون إليه، إذ الفرق بين القوة شاسع جدا، ولكن الله وعدهم بالنصر ووعده لا يتخلف:
كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [سورة البقرة آية 249] ، والأسباب الظاهرة كثيرا ما تختلف والأمر كله لله.
واذكروا وقت أن وعدكم الله إحدى الطائفتين من العير أو النفير وتودون أن العير لكم فإنه قليل العدد ولا شوكة معه مع كثرة المال.
ويريد الله لكم غير هذا وهو ملاقاة النفير الذي له الشوكة والحول والطول، وتكون الدائرة على المشركين، ويحق الله الحق بآياته المنزلة على رسوله في محاربة الكفار، وبما أمر الملائكة من نزولهم لنصرة المسلمين، وبما قضى لهم أولا من أسر وقتل وطرح في القليب (بئر بدر) ويريد الله أن يقطع دابر الكافرين، ويستأصل شأفتهم ويمحو أثرهم.
فبعض المسلمين أراد العاجلة وعرض الدنيا وخاف ما يرزؤه في بدنه ونفسه وماله والله يريد معالى الأمور، يريد لكم النصر وتقوية الروح وإلقاء الرعب في قلوب الأعداء وكسر شوكتهم بهزيمتهم وهم كثرة وينصركم وأنتم قلة.
ويريد الله هذا ليحق الحق ويثبت دعائم الإسلام، ويبطل الباطل ويهدم الشرك والكفر والطغيان، ولو كره المجرمون، وذلك لا يكون بأخذ العير أبدا وإنما يكون بهزيمة النفير وقتل صناديد الشرك وأسرهم وإذلالهم.
اذكروا يا أمة محمد وقت استغاثتكم ربكم قائلين: أى ربنا انصرنا على عدوك يا غياث المستغيثين أغثنا، والمراد بالذكر تذكير لهم بالنعم ليشكروا وقد استغاث النبي صلى الله عليه وسلم كذلك كما روى، وذلك أنهم لما علموا أنه لا بد من القتال وملاقاة النفير من قريش أخذوا يدعون الله ويستغيثون.
واعلم أن النصر في الحروب إنما يرجع إلى أسباب حسية ومعنوية إن تحققت جاء
النصر من الله: والله- سبحانه- هو الموفق لسلوك أسباب النصر أو أسباب الهزيمة، والنبي صلى الله عليه وسلم يعلم ذلك، وأن لله سننا مع خلقه لا تتخلف، وأن عنده آيات يؤيد بها رسله، ولكنه لما رأى ضعف المسلمين وقلة عددهم وتهيبهم من القتال، استغاث الله ليوفقه إلى سنن النصر ويؤيده، فتقوى الروح المعنوية فيتحقق النصر، وقد استغاث الصحابة كما استغاث، ولقد استجاب الله الدعاء وأمدهم بألف من أعيان الملائكة يردف بعضهم بعضا حتى يتحقق قوله في سورة آل عمران: بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ [الآيتان 124- 125] وما جعل الله ذلك المدد الإلهى إلا بشرى بأن النصر لكم، وأن الله معكم، ولتسكن قلوبكم، ويهدأ روعكم فتلقون الأعداء ثابتين مطمئنين.
واعلموا أن النصر من عند الله لا من عند غيره أبدا، إن الله عزيز لا يغالب، حكيم في كل صنع.
وهل الملائكة قاتلت بالفعل كما ورد في بعض الروايات؟ أو هي قوة معنوية وتكثير للسواد ولم يحاربوا، بل ثبتت قلوب المسلمين وقويت روحهم المعنوية بهم. والله أعلم، على أن المتفق عليه أنهم لم يقاتلوا يوم أحد لأن الله علق النصر على الصبر والتقوى ولم يحصلا.
واذكروا إذ ألقى الله عليكم النعاس حتى غشيكم كما
روى البيهقي عن على- كرم الله وجهه- قال: «ما كان فينا فارس إلا المقداد، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى تحت شجرة حتى أصبح»
ولا شك أن النعاس يزيل الخوف ومن دلائل الأمن والطمأنينة والوثوق بالنصر.
ولقد نزلوا في بدر منزلا في كثيب (تل) أعفر تسوخ فيه الأقدام وليس فيه ماء، وقد احتلم بعضهم ليلا، ولما أصبحوا ظمئوا وصلّوا مجنبين محدثين، وكان المشركون على الماء فوسوس لهم إبليس وقال: لو كنتم على حق وفيكم نبي لما صليتم بجنابة وبغير وضوء ولما كنتم عطاشا وهم على الماء!! فأنزل الله مطرا كان على المشركين وابلا شديدا وكان على المسلمين طلّا خفيفا طهرهم من الرجس والدنس والجنابة والحدث، وقضى على وسوسة الشيطان وأصبحوا يطئون الرمل بسهولة فثبتت أقدامهم وسكنت قلوبهم،