الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المفردات:
لِلْخائِنِينَ: الذين يخونون أنفسهم بارتكاب المعاصي. وَلا تُجادِلْ
المجادلة: أشد أنواع المخاصمة. خَوَّاناً أَثِيماً
: مبالغا في الخيانة وركوب الآثام.
يَسْتَخْفُونَ
: يستترون من الناس حياء وخوفا. يُبَيِّتُونَ
: يدبرون، والأكثر أن يكون هذا ليلا. وَكِيلًا
: حفيظا يوكل إليه الأمر في الحفظ والحماية.
خَطِيئَةً
: ذنبا بلا قصد، والإثم: الذنب المقصود. يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً
: يقذفه به ويسنده إليه. بُهْتاناً
: كذبا يبهت الغير ويجعله يتحير عند سماعه.
سبب النزول:
روى أن طعمة بن أبيرق أحد بنى ظفر من الأنصار سرق درعا- من جار له- في جراب دقيق فجعل الدقيق ينتثر من خرق فيه، وخبأها عند زيد بن السمين من اليهود، فالتمسوا الدرع عند طعمة فلم يجدوها وحلف بالله ما أخذها، فساروا في أثر الدقيق حتى انتهوا إلى منزل اليهودي فأخذوها، فقال: دفعها إلىّ طعمة، وشهد له ناس من اليهود بذلك ولكن طعمة أنكر ذلك، فقالت بنو ظفر: انطلقوا بنا إلى رسول الله، فسألوه أن يجادل عن صاحبهم، وقالوا: إن لم تفعل هلك وافتضح وبرىء اليهودي فهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يفعل وأن يعاقب اليهودي، فنزلت.
وروى أن طعمة هرب إلى مكة وارتد، وقد سقط عليه حائط في سرقة فمات.
المعنى:
أراد الله- سبحانه وتعالى أن يأمر رسوله بإقامة العدل والحكم بما أنزل الله، والرسول صلى الله عليه وسلم في المكان الذي نعرفه، فما بال الناس والحكام غيره؟! إنا أنزلنا إليك يا محمد القرآن هاديا إلى صراط الله العزيز الحكيم، وهو الحق من عنده، والحق في خيره وطلبه وحكمه، أنزله لتحكم بين الناس بما علمك الله وأرشدك إليه، فاحكم بين الناس به، ولا تكن لمن خان نفسه وغيّر ضميره مخاصما ومدافعا تدافع عنه وترد من طالبه بالحق.
فعلى الحكام أن يبحثوا في القضية، ويدققوا النظر في شكلها وموضوعها، ولا تغرنهم بلاغة الخصم ولحنه في القول، ولا تأخذهم العاطفة الدينية أو الجنسية فيميلوا لبنى جنسهم أو دينهم، ولعل السر فيما دار في خلد النبي صلى الله عليه وسلم أن طعمة المسلم يغلب عليه الصدق، وذاك اليهودي يغلب عليه الكذب والخداع.
والثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحكم في هذه القضية قبل نزول القرآن ولم يعمل بغير ما يعتقد لكنه أحسن الظن في المسلم، فبين له علام الغيوب حقيقة الأمر.
واستغفر- يا محمد- الله مما يعرض لك من شئون البشر وميلك إلى من هو ألحن بحجة أو إلى من هو مسلم لإسلامه فهذا وإن لم يكن ذنبا إلا أنه في صورة الذنب. إن الله كان غفورا لذنوب عباده، ستارا رحيما بهم.
ولا تجادل- يا محمد- عن الذين يخونون أنفسهم بتعديهم على حقوق الغير، إن الله لا يحب بل يبغض من كان كثير الخيانة دائبا على ارتكاب الإثم، واجتراح السيئة!! والخيانة مطلقا تقتضي عدم المحبة من الله لصاحبها، ولكن الوصف المبالغ فيه في الآية لبيان ما كان عليه من طعمة وأقاربه، هؤلاء وأمثالهم الذين يأخذون المال خفية يستخفون من الناس، ويستترون منهم حياء وخوفا، ويا للعجب العجاب!! يستخفون من الله عالم الغيب والشهادة الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور، وبالضرورة يعلمهم ويشاهدهم وقت أن يدبروا ليلا ما لا يرضى الله ورسوله، تبرئة لأنفسهم ولصاحبهم ولرمي غيرهم بالجريمة وهم يعلمون أنه برىء، وما ذاك إلا لضعف دينهم ولصدأ قلوبهم، وكان الله بما يعملون محيطا وحافظا لهم، فكيف ينجون من عقابه؟
أيها الأقارب لطعمة: ها أنتم أولاء جادلتم عن صاحبكم ومن وقف معه تبرئة له، زورا وبهتانا، جادلتم في الدنيا، فمن يجادل عنهم يوم القيامة؟ يوم تكشف السرائر، يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله؟ بل من يكون عليهم وكيلا ومدافعا عنهم؟ لا أحد إلا أعمالهم تنطق عليهم، فلينظر كل إلى عمله.
ومن يعمل سوءا يتعدى جرمه إلى غيره أو يظلم نفسه بفعل معصية خاصة، ثم هو يرجع إلى الله ويتوب نادما على فعله فإنه يجد الله غفورا رحيما يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، لأنه كتب على نفسه الرحمة، فلا تيأسوا من رحمته، ومن يفعل
إثما ويرتكب جرما ظنّا منه أنه كسب لنفسه شيئا فإنما مكسبه وبال وضرر عليه لا يتعداه إلى غيره، فليبق على نفسه من كسب السوء، وليعلم أن الله عليم به، وحكيم في وضعه العقاب الصارم للمذنب.
ومن يكسب ذنبا خطأ بلا قصد أو ذنبا آثما فيه وقاصدا له ثم يجنى جناية أخرى بأن يرمى به شخصا بريئا لا ذنب له مهما كان دينه وجنسه ولونه، فقد احتمل بشدة وألم بهتانا حيث كذب على الله في ادعائه البراءة واتهامه البريء الذي يبهت ويتحير عند سماعه هذا الاتهام، وقد احتمل إثما في ارتكاب الذنب.
فانظر يا أخى كيف ينشد الإسلام العدالة حيثما كانت ويطبقها على المسلم وغيره!! ولولا فضل الله عليك يا محمد أنت وأمتك ورحمته بك وأنه عصمك من الوقوع في الخطأ العملي والقولى، ويمنع عنك أذى الأشرار الذين يحاولون إضلالك وتلبيس الحق بالباطل وإخفائه عليك، لهمت طائفة منهم أن يضلوك، فإن الإنسان مهما كان إذا أحيط بجماعة كهؤلاء يحتاج إلى بحث وفكر حتى يميز حقهم من باطلهم، ويكشف حيلهم ويرد كيدهم، ومن ثم تفضل الله بزحزحة الأشرار عن النبي صلى الله عليه وسلم وصرف كيدهم عنه حتى يسير على طريق الله وهدى القرآن والنور الذي أنزل عليه كاشفا له الحقائق ليكون حكمه سليما عادلا.
والواقع أنهم بهذا لا يضلون إلا أنفسهم، إذ الوزر عليهم فقط، وما يضرونك أبدا وقد عصمك الله من كل مكروه وأنزل عليك القرآن، والحكمة- وهي فقه مقاصد الدين وأسراره- وعلمك ما لم تكن تعلم قبل ذلك، ولا غرابة ففضل الله عليك عظيم إذ أرسلك للناس كافة وجعلك خاتم الأنبياء، وشهيدا عليهم يوم القيامة، وعصمك من الناس، وجعل أمتك وسطا، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها.