الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المفردات:
خَلْقِ الخلق: التقدير والترتيب الدال على النظام والإحكام. السَّماواتِ السماء: ما علاك. وَالْأَرْضِ: ما نعيش عليها. لَآياتٍ: لأدلة على وجود الله وقدرته ووحدانيته وعلمه. الْأَلْبابِ: العقول. باطِلًا: عبثا لا نتيجة له. سُبْحانَكَ: تنزيها لله عما لا يليق به. الذَّنْبِ: هو الكبيرة، وقيل:
ما كان بينك وبين ربك. السيئة: هي الصغيرة، وقيل: ما كان بينك وبين الخلق.
المناسبة:
قال الإمام الرازي: اعلم أن المقصود من الكتاب الكريم جذب القلوب والأرواح من الاشتغال بالخلق إلى الاستغراق في معرفة الحق، فلما طال الكلام في تقرير الكلام والجواب عن شبهات المبطلين عاد إلى إثارة القلوب بذكر ما يدل على التوحيد والألوهية والكبرياء، والجلال لله- سبحانه وتعالى فذكر هذه الآية.
المعنى:
ما هذا الكون البديع الصنع؟ وما هذا العالم المحكم الترتيب، وما هذه السماء وأعاجيبها، وما بال نجومها وأفلاكها، وما هذه الشمس وضحاها، والقمر إذا تلاها، والنهار إذا جلاها، والليل إذا يغشاها، والسماء وما بناها؟! وما هذه الأرض وما طحاها، أخرج منها ماءها ومرعاها، وأنبت فيها كل نبت وأرساها، وشق فيها أنهارها وحلاها، وما هذا الليل والنهار، وهذا الفلك الدوار، ليل يزحف بجحافله، ونهار يختفى بمعالمه، ثم لا يلبث أن تعاد الكرة بنظام ومسرة، أليس يدل هذا على الخبير البصير؟ المحكم التدبير، الواحد القدير؟ إن في ذلك لآيات لأولى الأبصار!!
عن عائشة- رضى الله عنها- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هل لك يا عائشة أن تأذنى لي الليلة في عبادة ربي؟ فقلت: يا رسول الله إنى لأحب قربك وأحب هواك (ما تهوى
وتريد) وقد أذنت لك، فقام إلى قربة من ماء في البيت فتوضأ ولم يكثر صب الماء، ثم قام يصلى فقرأ من القرآن، وجعل يبكى حتى بلت الدموع حقويه، ثم جلس فحمد الله وأثنى عليه، وجعل يبكى، ثم رفع يديه فجعل يبكى حتى رأيت دموعه قد بلت الأرض، فأتاه بلال ليؤذن بصلاة الغداة فرآه يبكى فقال له: يا رسول الله: أتبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: يا بلال أفلا أكون عبدا شكورا؟! ثم قال: وما لي لا أبكى؟ وقد أنزل الله علىّ في هذه الليلة: إن في خلق السموات والأرض. ثم قال: ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها.
وأولوا العقول والأرواح الطيبة هم الذين ينظرون إلى السماء والأرض وما فيهما فيذكرون الله ويذكرون نعمه وفضله على العالم في كل حال من قيام وقعود واجتماع ذكر بالقلب حتى يطمئن أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [سورة الرعد آية 28] ثم يتبعون ذكر الله بالتفكير في بديع صنعه وأسرار خلقه وما في هذه العوالم من منافع وحكم وأسرار تدل على كمال العلم وتمام القدرة والوحدانية التامة في الذات والصفات والأفعال.
والمراد التفكر في خلق الله لا في ذات، الله، فقد ورد «تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق» ومع التفكر اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا، وما حال هؤلاء الذين يجمعون بين التذكر والتفكير؟ يقولون باللسان وقلبهم بين الخوف والرجاء: ربنا ما خلقت هذا الكون باطلا وما خلقت هذا الخلق عبثا أو كمّا مهملا! بل لا بد لهذا الخلق من نهاية يأخذ المطيع والعاصي جزاءه إن خيرا فخير وإن شرا فشر، وإذا كان كذلك فقنا يا ربنا واصرف عنا عذاب النار بعنايتك وتوفيقك لنا. واجعلنا مع الأبرار بهدايتك ورحمتك يا أرحم الراحمين، ثم إنهم بعد أن يصلوا بالفكر والذكر إلى حقيقة هذا العالم ومآله وقد دعوا ربهم أن يقيهم عذاب جهنم في الحياة الثانية يقولون متضرعين: ربنا إنك من تدخله النار فقد أهنته وأخزيته لأن من يعصيك فأنت قاهره ومذلّه، وكيف لا وقد سخرت هذا العالم وأخضعته لكمال قدرتك وعظيم إرادتك، فمن عاداك فلا ملجأ منك إلا إليك، وليس له شفيع أو نصير، وما للظالمين من أنصار!! وقد وصف من يدخل النار بأنه يستحق هذا لظلمه وتجاوزه الحد المعقول، هذا ما نتجه الفكر والنظر الصحيح في الكون وما فيه.
وأما السمع فحينما سمعوا نداء الرسل الكرام قالوا: ربنا إننا سمعنا رسولا ينادى
للإيمان: أن آمنوا بربكم وصدقوا برسالتي، فلم يتلكئوا ولم يبطئوا بل أسرعوا فآمنوا بالمنادي ورسالته وكتابه المنزل عليه، ومن آثار الإيمان القلبي المبنى على اليقين الكامل أن قالوا: ربنا فاغفر لنا ذنوبنا التي ارتكبناها من مخالفة أمرك وهكذا حينما يمتلئ القلب من الإيمان الصحيح يشعر صاحبه بالخوف من ذنوبه وهفواته، فيطلب من الله المغفرة والستر (حسنات الأبرار سيئات المقربين) وقيل: المراد بالذنوب: الكبائر، والسيئات: الصغائر، وقال بعضهم: الذنوب: التقصير في عبادة الله، والسيئات:
التقصير في حقوق العباد ومعاملة الناس بعضهم لبعض، ربنا وأمتنا مع الأبرار الأطهار من عبادك المخلصين، ربنا وأعطنا ما وعدتنا (وأنت الصادق الوعد) من حسن الجزاء والنصر في الدنيا والنعيم السابغ في الآخرة جزاء على تصديق رسلك واتباعهم، ولا تفضحنا ولا تهتك سترنا يوم القيامة يوم تكشف السرائر وتهتك الحجب والستائر.
إنك يا رب لا تخلف الميعاد وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ «1» .
فاستجاب لهم ربهم بأن أعطى كل عامل جزاء عمله كاملا غير منقوص سواء كان ذكرا أو أنثى. لا فرق عنده، بل العدل يقتضى المساواة التامة في الجزاء، وقد أشير إلى أن هذا الجزاء إنما هو باعتبار العمل لا باعتبار شيء آخر:
«يا فاطمة لا أغنى عنك من الله شيئا» «2» حديث شريف.
وإنه لا فرق بين الذكر والأنثى بعضكم من بعض، فالرجل مولود من الأنثى والأنثى مولودة من الرجل، إذ كلهم لآدم وآدم من تراب.
وقد أتبع هذا الحكم ببيان سببه، فلا غرابة في هذا فالذين هاجروا من ديارهم وتركوا أموالهم وأولادهم وديارهم إرضاء لله ورسوله، أو أخرجوا منها عنوة وأوذوا في سبيلي وابتغاء مرضاتي وقاتلوا وقتلوا. لأكفرن عن هؤلاء جميعا سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أثابهم الله ثوابا من عنده وذلك هو الفوز العظيم. والله عنده حسن الثواب، وحيث ربط القرآن الكريم هذا الجزاء العظيم بالهجرة والقتال والإيذاء في سبيل الله يمكننا أن نؤكد ما قلناه أولا من أن السبب في الجزاء هو العمل وأنه لا فرق بين ذكر وأنثى، وإنما الفرق بين عمل وعمل، وإخلاص وعدمه.
(1) سورة التوبة آية 72. [.....]
(2)
أخرجه البخاري في كتاب التفسير حديث رقم 4771.