الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سبب النزول:
اختار ابن جرير أن هذه الآيات نزلت في قوم من النصارى، صفتهم كما ذكر القرآن، أما كونهم من الحبشة أو من نجران، وكون عددهم كذا أو كذا فالله ورسوله أعلم بذلك، والغرض المهم ما تشير إليه الآيات.
المناسبة:
بعد أن تعرض القرآن الكريم لليهود وأعمالهم، وللنصارى وعقائدهم، ذكر هنا أحوالهم في عداوتهم ومحبتهم للمؤمنين، وتعرض للمشركين كذا بالتبع.
المعنى:
تالله لتجدن أشد الناس عداوة للمؤمنين اليهود، وما ذلك إلا أنهم أهل عناد وجحود، وغمط للحقوق يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، خاصة أهل العلم ورجال الدين، ولذا نراهم قتلوا الأنبياء بغير حق، وقتلوا الذين يأمرون بالقسط من الناس، ووقفوا مع النبي صلى الله عليه وسلم مواقفهم المشهورة. فقد هموا بقتله، وحاولوا ذلك مرارا فسمّوه، وسحروه، وألّبوا عليه القبائل، وكانوا مصدر النفاق والشغب، هذا شأنهم دائما، فهم أهل مكر وخيانة، غلبت عليهم الأنانية وحب المادة، ولؤم الطبع وسوء الصنع، ويقاربهم في هذا أهل الشرك وعبّاد الأوثان، فهم مشتركون معهم في أخص الصفات وإن فاقهم اليهود. وأشد ما لاقى النبي صلى الله عليه وسلم من العداوة والإيذاء كان من يهود الحجاز في المدينة وما حولها، ومن مشركي العرب ولا سيما أهل مكة وما قرب منها.
والتاريخ قديما وحديثا ملئ بالشواهد على ذلك، وإن مالأ اليهود المسلمين في بعض الظروف فلأمور سياسية عارضة دفعهم إليها حب المادة وعدل المسلمين.
ولتجدن- أيها الرسول- أقرب الناس مودة وأكثرهم محبة للذين آمنوا بك وصدقوك، الذين قالوا: إنا نصارى وهم أتباع المسيح عيسى ابن مريم رسول الله، لما
غرست تعاليمه فيهم من الرقة والرأفة والبعد عن التعصب الديني نوعا ما بالنسبة إلى اليهود وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها «1» وفي تعاليمهم: «من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر» . ولقد أشار القرآن الكريم إلى سبب المودة فقال:
ذلك بأن منهم قسيسين يقومون بالتعليم وتهذيب الخلق، وتربية الفضائل وغرس المثل العليا، ومنهم رهبانا يعبدون الله رهبة منه وخوفا، وطمعا وأملا في ثوابه، فهم بعلمهم هذا يعوّدون الناس الزهد والتقشف والبعد عن الدنيا وغرورها، وبأنهم متواضعون لا يستكبرون.
وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول من القرآن ترى أعينهم تفيض من الدمع حتى يتدفق من كل جانب، فيضانا مما عرفوا من الحق الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم إذ هو مصدق لما معهم من الكتاب، ومطابق لما وصف عندهم، ولم يمنعهم عن ذلك عتوّ وعناد متأصل فيهم.
هذا حالهم، أما مقالهم فيقولون: ربنا آمنا بك وبرسلك خاصة محمدا صلى الله عليه وسلم فاكتبنا مع الشاهدين، الذين يشهدون يوم القيامة للأنبياء والرسل وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم:
وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً «2» .
أىّ مانع يمنعنا من الإيمان بالله الذي لا إله إلا هو؟ ويصدنا عن اتباع ما جاءنا من الحق على لسان ذلك الرسول المبشّر به في كتابنا إذ هو روح الحق، وإنا لنطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الذين صلحت نفوسهم، وطهرت أرواحهم بالعقائد الصحيحة والمثل العليا وهم أتباع هذا النبي الكريم.
والمعنى: لا مانع من الإيمان بعد أن ظهرت الحجة ووضح الطريق، ونحن نطمع في أن نكون في عداد الأبرار والأخيار من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. فأثابهم الله وجازاهم بما قالوا عن عقيدة راسخة ونفس مطمئنة راضية، وآتاهم جنات تجرى من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار، هؤلاء هم المسيحيون الأحرار الذين نظروا في تعاليم المسيح الحقيقية فوقفوا على سرها وتكشفت لهم جنباتها،
(1) سورة الحديد آية 27.
(2)
سورة البقرة آية 143.