الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ: ولا تلتفتون لأحد فجازاكم. أَمَنَةً: الأمنة والأمن سواء. الْغَمِّ: ألم وضيق في الصدر من الأمر الذي لا يدرى الخلاص منه.
لَبَرَزَ: لخرج. مَضاجِعِهِمْ: مصارعهم التي يصرعون فيها.
اسْتَزَلَّهُمُ: أوقعهم في الزلل والخطأ.
سبب النزول:
روى الواحدي عن محمد بن كعب قال: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقد أصيبوا بما أصيبوا يوم أحد قال الناس: من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله تعالى النصر؟
فأنزل الله: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ (الآية) . وتلاها ذكر الحوادث وأسبابها.
المعنى:
وتالله لقد وفّى لكم ربكم وعده، ونصر عبده، وأعز جنده وهزم المشركين وقت أن أخذتم تقتلونهم قتلا وتفتكون بهم فتكا، كل ذلك بتيسير الله ومعونته، وإذنه وإرادته.
نعم صدقكم الله وعده، حتى ضعفتم في الرأى وجبنتم في الحرب، وفشلتم وتنازعتم واختلفتم فقال قائل: فيم وقوفنا وقد انهزم المشركون؟ وقال بعضهم: لا نخالف أمر الرسول أبدا، وما ثبت مكانه إلا عبد الله بن جبير في نفر قليل من أصحابه، وكان ما كان من أمر انهزامكم مما ذكر في (غزوة أحد) .
منكم من يريد الدنيا وهم الذين تركوا أماكنهم طلبا للغنيمة، ومنكم من يريد الآخرة وهم الذين ثبتوا في مكانهم ولم يخالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثم كفّكم عنهم حتى تحولت الحرب ودالت الدولة. فعل هذا بكم ليمتحن إيمانكم ويتبين أمركم، فيظهر الصادقون من المنافقين، ولقد عفا الله عنكم بذلك الابتلاء الذي محا أثر الذنب من نفوسكم وتاب عليكم لما ندمتم على ما فرط منكم، إنه هو التواب الرحيم وهو ذو الفضل العظيم على المؤمنين وكم نقمة في طيها نعم.
صرفكم الله عنهم فجازاكم غما وغما حين ابتلاكم بالهزيمة بسبب غم منهزمين لا تلتفتون وراءكم، والحال
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوكم قائلا: «إلىّ عباد الله، إلىّ عباد الله، أنا رسول الله، من يكرّ فله الجنة»
يدعوكم في الجماعة المتأخرة الذين ثبتوا مكانهم ولم تنخلع قلوبهم وظلوا يدافعون عن النبي صلى الله عليه وسلم.
صرفكم عنهم وقت أن كنتم تصعدون في الجبل وتبعدون في السير ألحقتموه للنبي صلى الله عليه وسلم بعصيانكم أمره، ومخالفة رأيه، ويصح أن يفهم (أصابكم غما بعد غم) هزيمة المشركين وإشاعة قتل النبي صلى الله عليه وسلم وقتل الأحبة وفوات النصر والغنيمة.
وما فعل بكم كله إلا ليمرنكم على الشدائد فإنها هي التي تخلق الرجال والأمم ولئلا تحزنوا على شيء فات، ولا ما أصابكم من عدوكم، والله خبير بأعمالكم فمجازيكم عليها.
روى الزبير- رضى الله عنه- أنه قال: لقد رأيتنى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتد علينا الخوف فأرسل الله علينا النوم والله إنى لأسمع قول معتب بن قشير والنعاس يغشاني: لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا.
ثم أنزل الله الأمن على القلوب والطمأنينة على النفوس بالنعاس حتى كان يسقط السيف من أحدهم فيأخذه، والنعاس في هذه الحالة نعمة من نعم الله وحدّ فاصل بين حالتي الأمن والخوف، فإنه لا ينام الخائف أبدا.
هذا النعاس غشى طائفة من الناس هم المؤمنون الصادقون الملتفون حول رسول الله.
وهناك طائفة أخرى قد أهمتهم أنفسهم، وملأ الخوف قلوبهم ما بهم إلا همّ أنفسهم لا همّ الدين ولا همّ الرسول والمسلمين، وذلك لأنهم لا يثقون بنصر الله ولا يؤمنون بالرسول، فقلوبهم هواء، وهؤلاء هم المنافقون كمعتب بن قشير ومن لف لفه من أتباع ابن أبىّ، يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية الأولى.
يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هل لنا من الأمر والنصر نصيب؟ يسألون كالمؤمنين في الظاهر والواقع أنهم ينكرون أن لهم شيئا من النصر والغلب.
قل لهم يا محمد: إن الأمر والنصر كله لله، ولا يكون من غيره كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي «1» . إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ
. «2»
هم يضمرون في أنفسهم العداوة والحقد لكم ويظهرون غير ذلك ولا غرابة فهم المنافقون والمخادعون.
يقولون: لو كان لنا من النصر والفوز نصيب ما قتلنا ها هنا، فهزيمتنا دليل واضح على أن النصر لن يأتى لنا وأن محمدا ليس نبيا إذ لو كان نبيا ما هزم، فهم يربطون بين النبوة والنصر. وما علموا أن النصر من عند الله وتوفيقه وأن الهزيمة من أعمالهم ومخالفتهم، ومع ذلك فالعاقبة للمتقين.
وهؤلاء ختم الله على قلوبهم، فغفلوا عن أن الأعمار بيد الله وأن النصر من عنده وأن الذين كتب عليهم القتل، لا بد من حصوله ولو كانوا في بروج مشيدة.
قل لهم: لو كنتم في بيوتكم وقد كتب عليكم القتل، لخرج الذين كتب عليهم القتل إلى حيث يصرعون ويقتلون، فالحذر لا ينجى من القدر، والتدبير لا يقاوم التقدير والأمر كله بيد الله والعاقبة للمتقين.
وقد فعل الله ما فعل، ليمتحن ما في صدوركم من الإخلاص والتقوى، وليمحص ما في قلوبكم من وساوس الشيطان حتى تصل إلى الغاية القصوى في اليقين، والله عليم بصاحبات الصدور التي لا تنفك عنها من الأسرار والضمائر فهو لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وهو الغنى عن الابتلاء والاختبار ولكن يفعل هذا لينكشف حال الناس بعضهم لبعض فلا ينخدع إنسان بظاهر أخيه.
إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان من المشركين والمسلمين وتركوا أماكنهم أو تولوا منهزمين، إنما أوقعهم الشيطان في هذا الخطأ بسبب بعض أفعالهم السابقة فإن الذنب الذي يفعله الإنسان يترك نكتة سوداء في القلب يرتكز عليها الشيطان فينفذ منها إلى الإنسان ويوحى إليه بالسوء.
ولقد عفا الله عنهم لما تابوا وأنابوا وكانت عقوباتهم في الدنيا جوابر لهم، إن الله غفور للذنوب حليم لا يعاجل بالعقوبة.
(1) سورة المجادلة آية 21.
(2)
سورة الصافات آية 173.