الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يقول جابر رضي الله عنه: (كنا أربع عشرة مائة فبايعناه، وعمر آخذ بيده تحت الشجرة، وهي سمرة، فبايعناه غير جد بن قيس الأنصاري اختبأ تحت بطن بعيره)(1) ولا أدري ما سبب اختبائه .. لكنه خسر خسارة عظيمة .. وتخلف عن رضوان يظله طوال حياته .. ربما كان الخوف والجبن سببًا لتخاذله ذلك .. وربما كان السبب أمرًا أخطر .. لكنه خسر لا شك .. لا سيما والخطر الداهم قد أطبق من كل اتجاه على المؤمنين .. فقد خرجت قريش ومن معها نحو الحديبية لإيقاف النبي صلى الله عليه وسلم أو حربه إن استدعى الأمر .. وجد بن قيس قد خسر في الحالتين .. فالصحابة لن يفروا مهما كان الثمن .. وقد تأهبوا للأعداء.
قريش تحاصر الحديبية
بعد انتهاء المؤمنين من البيعة امتلأت جوانب الحديبية بجيش الشرك .. فاستعد المؤمنون لهم .. واستعدوا للشهادة .. أما النبي صلى الله عليه وسلم فكان بينهم يتجول .. يتفقد وينظم .. ويصلح من أحوالهم .. ها هو يحذرهم.
فيقول: "لا توقدوا نارًا بليل"(2).
ويواصل صلى الله عليه وسلم تفقده لأصحابه .. فيمر على رجل يوقد النار نهارًا تحت قدر لأصحابه .. لكن منظر شعره ولحيته لا يسر .. اسمه كعب بن عجرة و (النبي صلى الله عليه وسلم مر وهو بالحديبية قبل أن يدخل مكة وهو محرم، وهو يوقد تحت قدر، والقمل يتهافت على وجهه فقال:
(1) حديث صحيح رواه مسلم - الإمارة.
(2)
سنده قوي رواه الأئمة أحمد (2613) والنسائيُّ في الكبرى (3/ 26) والحاكم (3/ 38) وابن أبي شيبة -إطفاء النار- كلهم من طريق محمد بن أبي يحيى الأسلمى عن أبيه عن أبي سعيد. ومحمَّد وأبوه صدوقان - التقريب (2/ 218)(1/ 333).
أيؤذيك هوامك هذه؟ قال: نعم) (1) انصرف النبي صلى الله عليه وسلم من عنده لا يدري ما يقول له .. فنزل جبريل عليه السلام بقرآن يتلى .. واشتد الوجع بكعب بن عجرة.، فنزلت رحمة الله على كعب ومن يأتي بعد كعب ..
يقول كعب رضي الله عنه: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم. ونحن محرمون، وقد حصرنا المشركون، وكانت لي وفرة (2)، فجعلت الهوام تساقط على وجهي. فمر بي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:
أيؤذيك هوام رأسك؟ قلت: نعم. وأنزلت هذه الآية: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} ) (3) وهذه الآية (نزلت فيَّ خاصة وهي عامة لكم. حملت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي "فوقع القمل في رأسي ولحيتي وحاجبي وشاربي".
فقال: ما كنت أرى الوجع بلغ بك ما أرى، أو ما كنت أرى الجهد بلغ بك ما أرى، تجد شاةً؟
فقلت: لا، قال: فصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع) (4).
(فدعا صلى الله عليه وسلم الحلاق فحلق رأسه)(5) فارتاح من القمل والوجع .. وشعر
(1) حديث صحيح رواه مسلم - الحج.
(2)
الشعر إذا وصل شحمة الأذن، والجمة إذا تناثر على الكتفين.
(3)
حديث صحيح رواه البخاري (4191) والنسك هو الدم وقد فسره صلى الله عليه وسلم بالشاة كما سيأتي.
(4)
حديث صحيح رواه البخاري (1816).
(5)
حديث صحيح رواه مسلم - الحج.
برحمة الله وفضله حيث جعل له بعد الضيق فرجًا وفرحًا .. كفرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بعودة عثمان الذي عاد دون أن يمس بأذى ..
عاد عثمان لكن قريشًا لم تعد .. بل انحدرت معها ثقيف من الطائف .. يقودهم عروة بن مسعود الثقفى عم المغيرة بن شعبة رضي الله عنه .. وقد شارك عروة قريشًا بكل ما يملك .. جاء بأهله وولده وبعض أهل عكاظ .. ثم قال لقريش: (إني استنفرت أهل عكاظ فلما بلحوا (1) علي، جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني) (2).
لم تأت عكاظ فقط لنصرة قريش .. ها هم حلفاء آخرون لقريش يسمون (الأَحابيش) يسيرون مع قريش لحصار النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه تحت قيادة رجل اسمه: (الحليس بن علقمة الكناني وهو يومئذ سيد الأحابيش)(3) وهو رجل عاقل وحكيم يحترم الهدي ومن يسوقه إلى بيت الله العتيق ..
وكان وجود أمثال الحليس سببًا في عدم هجوم قريش وبدئها لحرب جديدة مع النبي صلى الله عليه وسلم .. كانت قريش أكثر تعقلًا هذه المرة لوجود أمثال الحليس .. فقد (قام عروة بن مسعود فقال: أي قوم .. ألست بالولد؟ وألستِ بالوالدِ؟
قالوا: بلى. قال: فهل تتهموني؟ قالوا: لا.
قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ فلما بلحوا (4) علي جئتكم بأهلي وولدي ومن أعطاني؟ قالوا: بلى.
(1) رفضوا وأبوا.
(2)
سيأتي تخريجه.
(3)
هو جزء من حديث ابن إسحاق الطويل الصحيح.
(4)
أبوا ورفضوا.
قال: فإن هذا قد عرض لكم خطة رشد، اقبلوها، ودعوني آته "يا معشر قريش إني قد رأيت ما يلقى منكم من تبعثون إلى محمد إذا جاءكم من التعنيف وسوء اللفظ، وقد عرفتم أنكم والد وأني ولد، وقد سمعت بالذي نابكم، فجمعت من أطاعني من قومي ثم جئت حتى آسيتكم (1) بنفسي، قالوا: صدقت، ما أنت عندنا بمتهم" قالوا: ائته، فأتاه "فخرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس بين يديه" فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم "فقال: يا محمد، جمعت أوباش (2) الناس ثم جئت بهم لبيضتك لتفضها (3)، إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل، قد لبسوا، جلود النمور، يعاهدون الله أن لا تدخلها عليهم عنوة أبدًا".
فقال النبي صلى الله عليه وسلم نحوًا من قوله لبديل بن ورقاء (4).
فقال عروة عند ذلك: أي محمد، أرأيت إن استأصلت (5) أمر قومك، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الأخرى (6)، فإني والله لا أرى وجوهًا، وإني لأرى أشوابًا من الناس خليقًا أن يفروا ويدعوك. "وأبو بكر رضي الله عنه خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد، فقال له أبو بكر رضي الله عنه: امصص بظر اللات (7)، أنحن نفر عنه وندعه؟
فقال: من ذا؟
(1) واسيتكم وساويتكم.
(2)
أخلاط الناس وأقلهم منزلة.
(3)
حماك أو حما قومك لتفرقه وتمزقه.
(4)
أي كلامًا كالذي قاله لبديل.
(5)
أي قطعت وانهيت.
(6)
أى إن هزمت.
(7)
إهانة لمعبوده المدعو: اللات.