الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تحريم الميسر
فالميسر -وهو القمار- مرض آخر من أمراض التخلّف واللامسؤولية .. فالإنسان الذي يكدّ ويكدح من أجل تحصيل مال .. وبعد أن يجمعه يقف على شرفة جبل تطل على بحر فيرمي كل ما جمعه في سنين في ذلك البحر .. الإنسان الذي يفعل ذلك أبسط ما يقال عنه إنه: مجنون .. والمجنون لا يترك ولا يسمح له أن يؤذي نفسه ولا غيره.
الميسر يدمر الأسر والدول والأخلاق .. الخمر والميسر نوعان من أنواع الجنون .. ورسالة الإِسلام توقظ العقول .. توقدها تحضّرًا ورقيًا وتمدّنًا .. فكيف تلقى الصحابة هذا الخبر .. كيف استقبلته قلوبهم ونفوسهم .. كيف استقبله أولئك الذين كانوا لا يصبرون عنها .. تعالوا إلى بيت أم سليم وأبي طلحة حيث كان: أبو دجانة .. وأبو عبيدة .. ومعاذ بن جبل .. وسهيل بن بيضاء .. وأبي بن كعب رضي الله عنهم في ضيافة أبي طلحة رضي الله عنه .. كانوا ندامى .. يحتسون أقداحًا من الخمرة .. وكان ساقي أولئك الندامى الأخيار ابن أم سليم .. أنس بن مالك رضي الله عنه .. الذي يقول: (بينما أنا أدير الكاس على أبي طلحة، وأبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وسهيل بن بيضاء، وأبي دجانة، "وأبي بن كعب" حتى مالت رؤوسهم من خليط بسر وتمر، "فإذا مناد ينادي، قال: أخرج فانظر" فسمعنا مناديًا ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت، "فما قالوا: حتى ننظر ونسأل، فقالوا: يا أنس .. اكف ما بقى في إنائك فوالله ما عادوا فيها" "فقال لي أبو طلحة: اخرج فأهرقها، فهرقتها" "يا أنس .. قم إلى هذا الجرار فاكسرها، فقمت إلى مهراس لنا فضربته بأسفله حتى تكسرت" فما دخل علينا داخل ولا خرج منا خارج، حتى أهرقنا
الشراب، وكسرنا القلال، وتوضأ بعضنا، واغتسل بعضنا، وأصبنا من طيب أم سليم، ثم خرجنا إلى السجد، وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (1)، فانتهى الصحابة بعد سماعهم لهذه الآية في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم .. رغم إدمان بعضهم لها .. والمدمن يحبس في مصح أحيانًا كي يتخلّص من إدمانه .. لكن إيمان الصحابة وتربية النبي صلى الله عليه وسلم لهم كانت من العمق والسموّ والامتداد بحيث يتلاشى أمامها أي إدمان.
تخلّصت المدينة من أمّ الخبائث .. وأم الأمراض والمشاكل .. لكن ماذا لو استفاد البعض من الخمرة في غير الشرب .. في البيع والشراء مع غير المسلمين .. في العلاج مثلًا .. ؟
أما العلاج فلا تصلح الخمر أبدًا لأنها مرض .. النبي صلى الله عليه وسلم يقول ذلك .. والطب أيضًا يؤيّد ذلك ويرفضها .. قال صلى الله عليه وسلم: (إنها ليست بدواء، ولكنها داء)(2). أمّا عن التجارة .. فقد كان تاجر خمر من الصحابة رضي الله عنه يقال له: كيسان (كان يتجر في الخمر زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه أقبل من الشام ومعه خمر في الزقاق -يريد بها التجارة- فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:
يا رسول الله، إني جئتك بشراب طيّب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(1) حديث صحيح رواه البخاري (2464) ومسلمٌ (1980) والبيهقيُّ سنن (8/ 286) واللفظ له والزيادة عند البخاري ومسلمٌ ومالك (1544) وأحمدُ.
(2)
حديث صحيح. صحيح الجامع (1/ 478).
يا كيسان، إنها قد حرمت بعدك، قال: فأبيعها يا رسول الله؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها قد حرمت، وحرّم ثمنها، فانطلق كيسان إلى الزقاق، فأخذ بأرجلها ثم هرقها) (1)، ويقول أبو سعيد رضي الله عنه:(قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى حرّم الخمر، فمن أدركته هذه الآية وعنده منها شيء، فلا يشرب، ولا يبع)(2) .. وهذا رجل آخر (أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم راوية خمر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل علمت أن الله قد حرمها؟ قال: لا ..
فسارَّ (3) إنسانًا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل علم أن الله قد حرمها؟ قال: لا. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بم ساررته؟ فقال: أمرته ببيعها، فقال: إن الذي حرّم شربها حرّم بيعها، قال: ففتح المزادة حتى ذهب ما فيها) (4).
و (سئل صلى الله عليه وسلم عن الخمر تتخذ خلًا؟ فقال: لا)(5).
لا .. بهذه الكلمة انتهت علاقة الإِسلام بالخمر .. قطيعة وحرب لا هوادة فيها ضدها .. ليبدأ أولئك المؤمنون بالاستفادة من أوقاتهم التي كانت تسفكها الخمر ..
انتهت علاقة الإِسلام بالخمر،
و
(1) سنده صحيح رواه أحمد فقال: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ابن لهيعة عن سليمان بن عبد الرحمن، عن نافع بن كيسان أن أباه أخبره أنه كان يتجر
…
(4/ 337) وهذا السند صحيح، نافع صحابي، وسليمان البصري تابعى ثقة (التقريب- 1/ 328) وأما ابن لهيعة فحديثه هنا صحيح؛ لأن الراوي عنه هو قتيبة بن سعيد .. وقتيبة بن سعيد بن جميل ثقة ثبت من رجال الشيخين (التقريب-2/ 123).
(2)
حديث صحيح رواه مسلم (باب تحريم بيع الخمر).
(3)
أي كلم رجلًا سرًا بينه وبينه دون أن يسمع النبي صلى الله عليه وسلم.
(4)
حديث صحيح رواه مسلم (باب تحريم الخمر).
(5)
حديث صحيح رواه مسلم (باب تحريم تخليل الخمر).