الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جالسان عندي، وأنا أبكى، استأذنت عليّ امرأة من الأنصار، فأذنت لها، فجلست تبكى "معي".
فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم "وقد صلّى العصر"، فسلم. ثم جلس -ولم يجلس عندي منذ قيل لي ما قيل- وقد لبث شهرًا لا يُوحى إليه في شأني بشىء -"وقد اكتنفني أبواي عن يميني وشمالي"- فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس ثم قال: أما بعد يا عائشة .. فإنه قد بلغني عنك كذا .. وكذا .. فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب، فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب "إلى الله" تاب الله عليه، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته (1)، قلص دمعى (2) حتى ما أحس منه قطرة. فقلت لأبي: أجب عنّي رسول الله فيما قال.
فقال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقلت لأمي: أجيبي عني رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم) (3). سكت الجميع فتحررت من صدر عائشة المظلومة:
دعوة مكروب
انفجرت داخل صدرها كالبركان .. دعوة نبيّ الله يعقوب عندما فقد أحبّ أبنائه إليه .. يوسف وبنيامن عليهما السلام .. دعوة أطلقها يعقوب
(1) حديثه.
(2)
توقف دمعها.
(3)
هو حديث البخاري ومسلمٌ السابق.
بعدما أصابه العمى وابيضّت عيناه من الحزن فهو كظيم .. لكن حزن عائشة أنساها اسم ذلك النبيّ المكروب .. حاولت تذكره فلم تستطع لكنها عاشت معاناته ودعاءه .. توجهت عائشة الصغيرة نحو أبيها الذي لا يدري ما يقول .. نحو أمها الحيرانة .. نحو حبيبها الذي آذاه الناس وتأخّر عنه الوحي .. فقالت كلمات كالجمر .. قالت رضي الله عنها:
(فقلت: وأنا جارية حديثة السن، لا أقرأ كثيرًا من القرآن، "تشهدت، فحمدت الله تعالى وأثنيت عليه بما هو أهله ثم قلت: أما بعد": إني والله، لقد عرفت أنكم قد سمعتم هذا حتى استقرّ في نفوسكم وصدقتم به، فإن قلت لكم إني بريئة -والله يعلم أني بريئة- لا تصدقوني بذلك، "والله عز وجل يشهد إني لصادقة، ما ذاك بنافعي عندكم لقد تكلمتم به وأشربته قلوبكم"، ولئن اعترفت لكم بأمرٍ -والله يعلم أني بريئة- لتصدقونني "إن قلت إني فعلت -والله يعلم أني لم أفعل- لتقولن قد باءت به على نفسها".
وإني والله .. ما أجد لي ولكم مثلًا إلَّا كما قال أبو يوسف: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} "والتمست اسم يعقوب فلم أقدر عليه") (1)، حاولت عائشة تذكر اسم يعقوب فلم تستطع .. فألقت بجسدها وقلبها المتعبين علي فراش كالمرض .. وألقت بكمدها وبثها إلى الله وسكتت .. دعوة فتاة مظلومة بلغ بها المرض والكرب مسافات أتعبتها .. ولكن الله أرحم هذه المسكينة التي أنحفها الضَّيْم والحزن .. ودعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب .. هبطت رحمة الله ونزل عدله سبحانه .. فسمعت عائشة في تلك الحجرة حركة غريبة وهمهمة ..
(1) حديث صحيح رواه البخاري (4757).