الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فيها .. ثم لقي العدو فهزمهم ولم يدعهم يطلبون العدو .. فلما رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبروه بالخبر وشكوا إليه .. فقال: كانوا قليلًا فكرهت أن يوقدوا فيستبين للعدو قلتهم .. وكرهت أن يتبعوا العدو وخفت أن يكون لهم مادة فيعطفوا على الناس. فحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره" (1) وتبين للجميع بعد نظر النبي-صلى الله عليه وسلم في اختياره لقادة جيشه ودهاء عمرو العسكري مع مساحة الحرية الشاسعة في طرح المشاكل والشكاوى دون قمع أو مصادرة للرأي الآخر .. بعد ذلك طرح النبي صلى الله عليه وسلم-سؤالًا حول اجتهاده عندما صلى بأصحابه ولم يغتسل واكتفائه بالتيمم فقط ويقول عمرو: "احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح .. فذكروا ذلك للنبي-صلى الله عليه وسلم فقال: يا عمرو .. صليت بأصحابك وأنت جنب؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت إني سمعت الله يقول: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئًا" (2)
انتصارات لعمرو بن العاص في الحرب والسلم .. خرج عمرو منها بأشياء كثيرة لكن نفسه كانت تحدثه بنصر أكثر اتساعًا وأعمق غورًا ..
عمرو بن العاص في يبحث عن مكانه في قلب النبي صلى الله عليه وسلم
فقد قام بأعمال قياسية في فترة قصيرة وهو أمر لم يكن يحلم به بل هو من المستحيلات لو ظل عمرو قابعًا متخثرًا بشركه .. ولاه صلى الله عليه وسلم على صاحبيه أبي بكر وعمر وهو أمر لم يكن عمرو يتوقعه .. ثم إنه انتصر في المعركة وأبدع في قراراته وأصاب في اجتهاده .. فماذا بقي سوى أن ينتصر على من
(1) حديث صحيح مر معنا قبل قليل.
(2)
حديث صحيح مر معنا قبل قليل.
حوله في احتلال الجزء الأكبر من قلب النبي صلى الله عليه وسلم .. توجه عمرو بن العاص نحو النبي صلى الله عليه وسلم بقلب يحلم بالكثير الكثير وسأله .. يقول رضي الله عنه: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عمرو بن العاص على جيش ذات السلاسل .. قال: فأتيته فقلت أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة .. قلت: من الرجال؟ قال: أبوها .. قلت: ثم من؟ قال: عمر .. فعد رجالًا فسكت مخافة أن يجعلني في آخرهم"(1) .. عندها أدرك عمرو فضل السابقين عليه وأدرك أيضًا تثمين النبي صلى الله عليه وسلم-لقدراته وأن عليه حسب عدالة هذا النبي وإنصافه أن يبذل الكثير للَّحاق بمن سبقوه بإنجازاتهم العظيمة .. وذلك لأن عمْرًا ليس رجلًا عاديًا يقنع باعتناق الإسلام فقط دون أن يكون له دور في حياته الجديدة .. عمرو بن العاص ليس كهذا الرجل الذي جاء "إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجد ثائر الرأس يسمع دوي صوته ولا يفقه ما يقول حتى دنا فإذا هو يسأل عن الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خمس صلوات في اليوم والليلة، فقال: هل عليّ غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع .. وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة .. قال: هل عليّ غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع، فأدبر الرجل وهو يقول والله لا أزيد على هذا ولا أنقص .. قال رسول الله -صلي الله عليه وسلم-: أفلح إن صدق"(2) أما عمرو فيبحث عن دور يخدم به هذا الإسلام ليعوض ذلك الفرق الذي قطعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وبقية المهاجرين والأنصار .. وهو ممّن ينطبق عليه مفهوم الخيرية التي قدمها صلى الله عليه وسلم لبعض الصحابة عندما قالوا "للنبي صلى الله عليه وسلم: من أكرم الناس؟ قال: أكرمهم أتقاهم .. قالوا: يا نبي الله: ليس عن هذا نسألك .. قال: فأكرم الناس يوسف نبي الله بن نبي الله بن نبي الله بن خليل الله .. قالوا: ليس عن هذا نسألك .. قال: فعن معادن العرب تسألونني .. قالوا: نعم .. قال فخياركم في الجاهلية
(1) حديث صحيح رواه البخاري 4 - 1584.
(2)
حديث صحيح رواه البخاري 1 - 25.
خياركم في الإسلام إذا فقهوا" (1) وعمرو وخالد وأمثالهما أصحاب قرار وأدوار بارزة في الجاهلية .. فليس من المتوقع أن يخبو وهجهم بعد إسلامهم .. لأن الإسلام مأخوذ بتفجير الطاقات واستثمارها ولكن نحو الأجمل والأسمى .. وهل هناك تفجير واستثمار كهذا الذي حصل عليه عمرو وخالد .. هل هناك من قطع بلمح البصر تلك المسافة التي قطعاها أو اعتلى قمة كالتي يقفان عليها .. والمستقبل بالإسلام يعد لطاقات عمرو بن العاص الكثير والكثير مما لا يحلم به لو كان منبطحًا تحت أقدام هبل وبقية الأخشاب والأحجار المقذوفة فوق ظهر الكعبة .. ها هو بعد أن ترك تلك الأصنام التي حجمته في دائرة مساحتها لا تتجاوز مساحة دائرة الطواف بصنم .. ها هو يتبختر على مشارف أعظم دولتين في العالم فارس والروم بكل ثقة .. هذا بالضبط ما كان الإسلام يعده لأبي جهل وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط لو أسلموا .. وهذا ما تنبأ أبو سفيان بحدوثه وهو واقف على بلاط هرقل الروم ينصت إلى زعيم الروم وهو يتأهب للرحيل عن بلاطه وأرضه وسلطانه وملكه لمحمد البسيط الذي "يخصف نعله ويخيط ثوبه ويرقع دلوه" (2) لمحمد الذي يقول عن نفسه "آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد فإنما أنا عبد" (3) لمحمد الذي يأمن عنده الخائف .. أُتي له "برجل ترعد فرائصه، فقال له هون عليك فإنما أنا بن امرأة من قريش كانت تأكل القديد في هذه البطحاء" (4)
(1) صحيح البخاري 3 - 1235.
(2)
حديث صحيح مر معنا وهذا لفظ ابن حبان 12 - 490.
(3)
صحيح الجامع للإمام الفقيد الألباني رحمه الله.
(4)
حديث صحيح رواه الحاكم 2 - 506 والطبرانيُّ 2 - 64 إسماعيل بن أبي خالد عن قيس ابن أبي حازم عن جرير بن عبد وابن ماجه 2 - 1101.
ليس محمَّد صلى الله عليه وسلم فقط بل أي مسلم .. عندما يتقدم للعالم بمشروعه الحضاري .. عندما يضع نفسه خلف مشروعه لا أمامه .. عندها فقط تجد كل شيء يحبه ويخافه .. تجده يبدع يتوهج .. يعيد صياغة العالم بأحرف نقية وجديدة ..
أما إذا رأيت خللًا في مشروع إسلامي ففتش عمن وضع نفسه أمام ذلك المشروع لا خلفه .. عندها تتهاوى أمام عينيك القيم والمبادئ والثوابت وينتهي بك المشهد إلى أكوام يستحيل معها الإبداع والإقناع .. لم يكن الصحابة يقدمون للعالم أنفسهم وأهواءهم كانوا يقدمون كتاب الله وسنة رسوله .. كانوا يضعون أخطاءهم ضمن أرصدتهم لا ضمن أرصدة الإِسلام .. وهو ما قفز بهم في فترة قياسية إلى حدود فارس والروم .. أما قريش ذلك الخصم الذي كان يحتقرهم ويطلق عليهم ألقابًا لا تليق إلا بالمجانين وقطاع الطرق .. قريش اليوم دون طرق دون معنويات .. فالمعنويات والانتصارات والمساحات لمحمد وأتباع محمَّد صلى الله عليه وسلم .. ولم يبق لقريش سوى شرف الحج وقد تحول إلى موسم يسخر من قريش وأصنامها وعنادها .. قريش اليوم مكبلة بعهد مع خصمها محمَّد .. ومحاطة بمناطق يملكها خصمها محمَّد .. ومخنوقة بإنجازات يصنعها خصمها محمَّد .. فما الذي بقي لقريش سوى مكة الحزينة والأصنام التي بدأت بالتآكل .. وهو في الحقيقة ليس خصمًا لها بل هي التي تصر على خصومته وها هو المجد الذي وعدها به يرف على أرض فارس والروم ولكنه للمؤمنين به أما قريش فقد أعماها رمد التحديق بهبل وبقية الأخشاب والأحجار الجاثمة على أنفاسها وعقولها كما أعمى سيد اليمامة الذي لم يكتف بالوثنية والشرك بل أقدم على شيء خطير يؤكد به كرهه لهذا النبي ودينه: