الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لا يحكم لأحد -حتى عثمان- بالجنَّة
كيف ذلك؟ شئ مفزع .. ومخيف .. إذا لم يحكم لعثمان فلمن يحكم .. ؟ العواطف مرة أخرى تثور وتستنكر وتحتج .. لكن الإِسلام والتوحيد لا ينطلقان من العواطف ولا الأهواء .. وإلَّا لأصبح لكل فرد دين .. لأن كل فرد عالم من العواطف والأهواء .. الإِسلام يعتني بالعاطفة يهذّبها .. ينقّيها من الشوائب ثم يطلقها أطيافًا جميلةً في الأجواء .. وحبنا لشخص لا يعني أن الحق معه أينما اتّجه .. الكل يشهد لعثمان بن مظعون بالصلاح في دنياه .. لكن النبي صلى الله عليه وسلم غضب عندما حكم له بالجنة .. لأن في ذلك تجاوزًا لمسؤوليات الإنسان .. فيه تزييف وادّعاء ..
عندما قدم عثمان بن مظعون إلى المدينة مع المهاجرين .. أقبل عليهم الأنصار بالأيدي والقلوب والبيوت .. تنازع الأنصار كلٌّ يريد أن يفوز بأخ له من المهاجرين يسكن معه في بيته .. ولم ينته ذلك النزاع الحبيب إلَّا بالقرعة .. وعندما وصل دور القرعة إلى عثمان بن مظعون .. جعلته القرعة من نصيب بيت زوج أم العلاء وهو من الأنصار رضي الله عنهم .. ولما أصابه المرض .. مرّضته أم العلاء .. وشهدت له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاح لكنها شهدت له بشيء أغضب النبي صلى الله عليه وسلم ..
يا أم العلاء ماذا قلت عن عثمان رضي الله عنه .. ؟ تقول رضي الله عنها: (إن عثمان طار لهم في السكنى حين قرعت الأنصار على سكنى المهاجرين، فاشتكى عثمان عندنا، فمرضته حتى توفي وجعلناه في أثوابه، فدخل علينا النبى صلى الله عليه وسلم، فقلت:
رحمة الله عليك أبا السائب، شهادتي عليك قد أكرمك الله.
فقال النبى صلى الله عليه وسلم: وما يدريك أن الله أكرمه؟
قلت: لا أدري، بأبي أنت وأمى يا رسول الله، فمن؟
قال: أما هو فقد جاءه والله اليقين، والله إني لأرجو له الخير، وما أدري -والله- وأنا رسول الله ما يفعل بى.
قالت: فوالله لا أزكى بعده أحدًا. قالت: فأحزننى ذلك، فنمت، فأريت لعثمان بن مظعون عينًا تجري، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، فقال: ذلك عمله) (1) الصالح ..
تقبّله الله منه وجزاه الجنّة بما عمل .. فأوحى بهذه البشرى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، لكن قبل ذلك لا أحد يدري عن مصيره .. وهل هناك فوق قول النبي صلى الله عليه وسلم: وما أدري والله وأنا رسول الله ما يفعل بي.
إذًا فلا شأن لأحد بما بعد الموت .. ولا بالنوايا .. ولا يكفى ظاهر العمل للحكم على الإنسان بأنه من أهل الجنّة أو النار ..
حتى في مدح الإنسان لأخيه وهو حى يأمر صلى الله عليه وسلم بعدم الاندفاع .. ففى أحد الأيام (أثنى رجل على رجلٍ عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ويلك، قطعت عنق صاحبك .. قطعت عنق صاحبك .. مرارًا، ثم قال صلى الله عليه وسلم: من كان منكم مادحًا أخاه لا محالة فليقل: أحسب فلانًا والله حسيبه، ولا أزكى على الله أحدًا، أحسبه كذا وكذا إن كان يعلم ذلك منه)(2).
لنعد إلى عثمان بن مظعون رضي الله عنه .. ها هم يحملونه نحو البقيع .. ومعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن صلّوا عليه .. وقد بيّن صلى الله عليه وسلم لأصحابه الطريقة الأفضل للمشي مع الجنازة .. فقال:
(1) حديث صحيح رواه البخاري (2687).
(2)
حديث صحيح رواه البخاري (2662).
(الراكب يسير خلف الجنازة، والماشى يمشي خلفها وأمامها، وعن يمينها، وعن يسارها، قريبًا منها)(1)، وكان صلى الله عليه وسلم يقول:
(إذا رأى أحدكم الجنازة، فإن لم يكن ماشيًا معهم فليقم "حين يراها")(2)، وقال جابر رضى الله عنه:(قام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لجنازة يهودي حتى توارت)(3)، (فقلنا: يا رسول الله، إنها يهودية، فقال: إن الموت فزع، فإذا رأيتم الجنازة فقوموا) (4) (فقيل: إنه يهودي، فقال: أليست نفسًا) (5).
ثم إن الأمر بالقيام لم يدم .. فقد أمر الله نبيّه بالقعود .. يقول عليّ رضي الله عنه: (رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قام، فقمنا، وقعد، فقعدنا)(6).
رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن قائمًا ولا جالسًا .. كان صلى الله عليه وسلم يشارك في دفن صاحبه بيديه .. ويفعل شيئًا يدلّ على مكانة عثمان في نفسه صلى الله عليه وسلم، فبعد أن قال:(بسم الله وعلى سنّة رسول الله)(7) يقول أحد الصحابة: (لما مات عثمان بن مظعون أخرج بجنازته فدفن، أمر النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا أن يأتيه بحجر،
(1) حديث صحيح رواه أهل السنن من طريق زياد بن جبير حدثنى أبي عن المغيرة وهو إسناد صحيح جبير ووالده ثقتان.
(2)
حديث صحيح رواه مسلم (958) والزيادة له.
(3)
حديث صحيح رواه مسلم (960).
(4)
حديث صحيح رواه مسلم (960).
(5)
حديث صحيح رواه البخاري (1312).
(6)
حديث صحيح رواه مسلم - (نسخ القيام للجنازة).
(7)
سنده صحيح رواه أبو داود (3213)
…
حدثنا محمَّد بن كثير ومسلمٌ بن إبراهيم، حدثنا همام، عن قتادة عن أبي الصديق عن ابن عمر .. وأبو الصديق تابعي ثقة اسمه: بكر بن عمرو (التقريب-1/ 106) وهمام بن يحيى ثقة من رجال الشيخين التقريب (2/ 321) وقد توبع قتادة -لعنعنته- تابعه نافع عند الترمذيُّ وابن ماجه.
فلم يستطع حمله، فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسر عن ذراعيه (1)، كأني أنس إلى بياض ذراعي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حسر عنها، تم حملها، فوضعها عند رأسه وقال:
أتعلم بها قبر أخي، وأدفن إليه من مات من أهلي) (2).
كل هذا الحب لعثمان بن مظعون .. كل ذلك البكاء وتلك الدموع .. ومع ذلك فلم يزد صلى الله عليه وسلم على وضع حجر كبير ليعرف به قبر أخيه عثمان عندما يزور مقبرة البقيع .. أما من تسوّل له نفسه أن يزين قبر حبيبه أو حبيبته بالرخام أو الجص أو البناء أو القباب .. فقد قال صلى الله عليه وسلم لعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: "لا تدع تمثالًا إلَّا طمسته، ولا قبرًا مشرفًا إلَّا سويته"(3).
ولأن (رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها)(4) فقد (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصّص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه)(5) لأن فتح باب البدعة لا يعني أبدًا مرونة في العقيدة .. هو تمييع للعقيدة .. تمزيق لها .. يعني التواءً نحو الشرك .. والإِسلام هروب .. كله هروب من الشرك وانحرافاته .. لقد شدّد صلى الله عليه وسلم في قضية القبور حتى لقد (نهى أن يكتب على القبر شيء)(6) إن
(1) في الحديث بعد هذه الكلمة (قال كثير: قال المطلب: قال الذي يخبرني ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(2)
سنده حسن رواه أبو داود من طريق: كثير بن زيد المدني، عن المطلب .. عن أحد الصحابة .. (3206) والمطلب صحابي انظر: التقريب - (2/ 254) وكثير بن زيد ثقة وجرحه لا ينهض أمام توثيقه- التهذيب (8/ 414).
(3)
حديث صحيح رواه مسلم (الأمر بتسوية القبور).
(4)
حديث صحيح رواه مسلم (968).
(5)
حديث صحيح رواه مسلم (970).
(6)
حديث صحيح انظر أحكام الجنائز للإمام الألباني (204).
الكتابة في نظر من لا يدرك عواقب الأمور شئ بسيط .. لكنه في الحقيقة يفضى إلى كتابة المدائح .. والأشعار .. والآيات .. والمبالغات وأشياء تجعل من القبور تحفًا أو معارض .. أو مزارات لذاتها .. ولما ذكرت أم سلمة رضي الله عنها للنبى صلى الله عليه وسلم ما رأته في الحبشة من نقوش جميلة وصور عجيبة داخل كنيسة هناك يسمونها "مارية" قال صلى الله عليه وسلم: "أولئك إذا مات منهم الرجل الصالح، بنوا على قبره مسجدًا، ثم صوّروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله"(1)، وقال صلى الله عليه وسلم:"لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"(2) لعنهم الله رغم أن بعضهم كان يريد تكريم نبيّه بإقامة ذلك المسجد أو المعبد أو الكنيسة .. لعنهم الله لأنهم استمدّوا العقيدة من العواطف .. من التخاريف .. من غلوّهم وتطرّفهم في أنبيائهم .. والعقيدة وحي متى ما خالطها غير الوحي فسدت .. وحب النبي وتكريمه لا يكون بالغلوّ والتطرّف .. بل بتنفيذ ما جاء به ذلك النبي .. بحفظه ونقله بأمانة دون زيادة أو نقصان .. لأن الزيادة دين بشري .. والنقصان تشويه للوحي .. والزيادة والنقصان أورام خبيثة محتقنة بالكفر والشرك والبدع .. وما جاء صلى الله عليه وسلم إلَّا لاستئصال تلك الأورام واجتثاث الشرك وجذوره .. والإِسلام جاء ليبتدع الإنسان ويبدع في شؤون الدنيا زراعةً وصناعة وتجارةً مستمدًا ذلك الإبداع وموجهًا بالوحى النقى .. فإذا ابتدع الإنسان في الدين والدنيا تمزق بين اتجاهن .. فإما أن يكون متطرفًا دينيًا أو يكون رقمًا في آله لا ضمير لها ولا قيم .. واليهود ممزقون لذلك .. فما هي حالهم الآن بعد موت سعد بن معاذ ..
(1) حديث صحيح رواه البخاري (1341).
(2)
حديث صحيح رواه البخاري (1330).