الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الذي أصاب جويرية وقومها ذلك الشوق والحنين إلى تلك المرابع .. رغم أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يكرمون أسراهم .. (ويطعمون الطعام على حبّه مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا) .. رغم أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يؤثرون الأسرى بالطعام الجيد على أنفسهم إلَّا أن قطرات الذلّ تفسد أشهى الأطباق .. وهو ذلّ جلبه الشرك لبني المصطلق .. فلولا استعدادهم وإعدادهم للهجوم على المدينة وأهلها لما أصابهم ما أصابهم .. كان بنو المصطلق يحلمون بسبايا المدينة يقتادونها نحو مرابعهم .. يحلمون بدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ودعوته .. لكن الله ردّ كيدهم في نحورهم .. وها هي بيوتهم وأحلامهم قد خلت منهم .. وها هو جيش محمَّد صلى الله عليه وسلم يعود إلى المدينة بهم .. وفي الطريق يتوقف النبي صلى الله عليه وسلم ويتوقف جيشه للاستراحة قرب المدينة .. فتنبث الجموع هنا وهناك .. ومع حلول الليل تتلاشى تلك الحركة .. وبعد أداء صلاة العشاء يأوي كل إلى فراشه .. ويقوم من يقوم منهم في سياحة مع الله وصلاة .. وكان أحد أفراد الجيش واسمه: صفوان بن معطل متأخرًا عن الجيش -ربما بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ليكون عينًا خلفية للجيش ونذيرًا لهم إذا ما لحق بهم أحد أو هاجمهم من الخلف .. وبعد منتصف الليل أمر صلى الله عليه وسلم جيشه بالحركة نحو المدينة ..
النبي صلى الله عليه وسلم يسبق عائشة
لكن دون سباق .. دون ركض .. دون ابتسامات وضحكات .. سبق النبي صلى الله عليه وسلم عائشة في قصة تفيض بالأحزان والدموع والبراءة .. تحرك الجيش ولم تتحرك عائشة .. وأشرقت الشمس والأحزان على ذلك الموقع فلم تجد فيه سوى فتاة صغيرة منكسرة .. أضاعت عقدها وهودجها .. ورحل عنها حبيبها ووالدها وصويحباتها .. أشرقت الشمس والأحزان على عائشة ..
ووصل صفوان بن معطل ليجد ذلك الحزن في طريقه .. ليحمله إلى بحر أسود من الأحزان والهموم .. بحرٌ تقول عنه عائشة رضي الله عنها:
(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج سفرًا أقرع بين نسائه، فأيتهنّ خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه .. فأقرع بيننا في غزوة غزاها "غزوة بني المصطلق"، فخرج فيها سهمى، فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك بعدما أنزل الحجاب، فأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه، مسيرنا "وكنت إذا رحل بعيري، جلست في هودجي، ثم يأتي القوم الذين يرحلون هودجي في بعيري، ويحملوني، فيأخذون بأسفل الهودج، فيرفعونه، فيضعونه على ظهر البعير، فيشدّونه بحباله، ثم يأخذون برأس البعير، فينطلقون به"، حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوه، وقفل، ودنونا من المدينة، "نزل منزلًا، فبات فيه بعض الليل، ثم" آذن (1) ليلة بالرحيل، فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت من شأني، أقبلت إلى الرحل، فلمست صدري، فإذا عقدي من جزع ظفار (2) قد انقطع "انسلّ من عنقي ولا أدري" فرجعت، "عودي على بدئي إلى المكان الذي ذهبت إليه" فالتمست عقدي، فحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرهط (3) القوم الذين كانوا يرحلون لي، فحملوا هودجي، فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب، وهم يحسبون أني فيه، وكانت النساء إذا ذاك خفافًا، لم يهبلهن (4) ولم يغشهن اللحم "لم يهيجهن (5)
(1) أعلنوا الاستعداد للرحيل.
(2)
خرز من مدينة ظفار.
(3)
هم الرجال أقل من عشرة.
(4)
يمتلئن بالشحم واللحم.
(5)
التهييج هو الورم من الشحم أو المرض.
اللحم فيثقلن"، إنما يأكلن العلقة (1) من الطعام، فلم يستنكر القوم ثقل الهودج حين رحلوه ورفعوه، وكنت جارية حديثة السنن (2) الجمل وساروا، "ولم يشكوا أني فيه، ثم أخذوا برأس البعير فانطلقوا به"، ووجدت عقدي بعد ما استمرّ الجيش، "ورجعت إلى العسكر"، فجئت منازلهم وليس بها داعٍ ولا مجيب، فتيمّمت (3) منزلي الذي كنت فيه "فتلففت بجلبابي، ثم اضطجعت في مكاني الذي ذهبت إليه" وظننت أن القوم سيفقدوني، فيرجعون إليّ، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت، "فوالله إني لمضطجعة، إذ مرَّ بي صفوان بن المعطل السلمي" وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني قد عرّس من وراء الجيش "قد كان تخلّف عن العسكر لبعض حاجته، فلم يبت مع الناس في العسكر" فأدلج (4)، فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني، فعرفني حين رآني، وقد كان يراني قبل أن يضرب الحجاب عليّ، "فلما رآني، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون! أظعينة رسول الله! وأنا متلفّفة في ثيابي".
فاستيقظت باسترجاعه (5) حين عرفني، فخمرت وجهي بجلبابي، ووالله ما يكلمني كلمة، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه (6)، حتى أناخ راحلته، فوطئ على يدها فركبتها "واستأخر عني، فركبت وجاء فأخذ برأس البعير"، فانطلق يقود بي الراحلة "سريعًا يطلب الناس، فوالله ما
(1) الطعام اليسير.
(2)
وكان عمرها رضي الله عنها أنذاك بين الثالثة عشر والرابعة عشر.
(3)
قصدته وذهبت إليه.
(4)
سار أخر الليل.
(5)
قوله: إنا لله وإنا إليه راجعون.
(6)
قوله: إنا لله وإنا إليه راجعون.