الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أصابها ما أصابها بعد صد قريش ورفضها وشروطها الظالمة .. انتهت تلك المعجزات بالصحابة إلى شواطئ الأمن واليقين وانتهو جميعًا إلى مكان بين مكة والمدينة .. قريب من بني لحيان .. وفي ذلك الموقع الحرج .. أثار صلى الله عليه وسلم حب الفداء والشهادة في أصحابه من جديد .. وكان لسلمة بن الأكوع تميز آخر في هذا الموقع .. وبالتحديد:
على جبل بين الحديبية والمدينة
يقول سلمة رضي الله عنه: (ثم خرجنا راجعين إلى المدينة، فنزلنا منزلًا، بيننا وبين بني لحيان جبل وهم مشركون، فاستغفر رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن رقى هذا الجبل الليلة -كأنه طليعة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه- قال سلمة: فرقيت تلك الليلة مرتين أو ثلاثًا، ثم قدمنا المدينة)(1) ولم يحدث قتال بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين بني لحيان .. لكن المدينة تعرضت لهجوم مباغت من عصابة من فزارة وغطفان بقيادة رجل يقال له: عبد الرحمن بن عيينة الفزاري .. وقد نهب في ذلك الهجوم كل إبل النبي صلى الله عليه وسلم واستاقها غنيمة معه .. فهاجت من أجل ذلك معركة - غزوة كان بطلها فارس الإسلام: سلمة بن الأكوع .. حدثت تلك الغزوة في مكان يقال له ذو قرد وبه سميت:
غزوة ذي قرد
يقول بطل هذه الغزوة: (كانت لقاح (2) رسول الله صلى الله عليه وسلم ترعى بـ: ذي قرد، فلقيني غلام لعبد الرحمن بن عوف فقال: أُخذت لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت: من أخذها؟
(1) حديث صحيح رواه مسلم (1807).
(2)
ذات الدر من الإبل.
قال: غطفان "وفزارة".
فصرخت ثلاث صرخات: يا صباحاه ..
فأسمعت ما بين لابتي المدينة، ثم اندفعت على وجهي حتى أدركتهم بذي قرد، وقد أخذوا يسقون من الماء، فجعلت أرميهم بنبلي، وكنت راميًا، وأقول:
أنا ابن الأكوع
…
واليوم يوم الرضع) (1)
وذلك بعد أن (قدمنا المدينة، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهره (2) مع رباح -غلام رسول الله- صلى الله عليه وسلم وأنا معه، وخرجت معه بفرس طلحة أنديه مع الظهر (3)، فلما أصبحنا إذا عبد الرحمن الفزاري قد أغار على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستاقه أجمع، وقتل راعيه.
فقلت: يا رباح .. خذ هذا الفرس فأبلغه طلحة بن عبيد الله، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المشركين قد أغاروا على سرحه.
ثم قمت على أكمة (4)، فاستقبلت المدينة، فناديت ثلاثًا:
يا صباحاه ..
ثم خرجت في آثار القوم أرميهم بالنبل، وأرتجز، أقول:
أنا ابن الأكوع
…
واليوم يوم الرضع
(1) حديث صحيح رواه مسلم (1806) والزوائد للبخارى (3041).
(2)
الدابة التى تركب أو تحمل المتاع والأثقال.
(3)
أي يورده الماء ثم المرعى والعكس.
(4)
أى تل كما جاء في بعض الألفاظ.
فألحق رجلًا منهم، فأصك سهمًا في رحله، حتى خلص نصل السهم إلى كتفه (1)، قلت:
خذها وأنا ابن الأكوع
…
واليوم يوم الرضع
فوالله مازلت أرميهم وأعقر (2) بهم، فإذا رجع إلي فارس أتيت شجرة فجلست في أصلها، ثم رميته، فعقرت به، حتى إذا تضايق الجبل فدخلوا في تضايقه علوت الجبل، فجعلت أرديهم (3) بالحجارة، فمازلت كذلك أتبعهم حتى ما خلق الله من بعير من ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا خلفته وراء ظهري، وخلوا بيني وبينه (4)، ثم اتبعتهم أرميهم، حتى ألقوا أكثر من ثلاثين بردة، وثلاثين رمحًا، يستخفون، ولا يطرحون شيئًا إلا جعلت عليه آرامًا (5) من الحجارة، يعرفها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، حتى أتوا متضايقًا من ثنية فإذا هم قد أتاهم فلان "عيينة" ابن بدر الفزاري، فجلسوا يتضحون -يعني يتغدون- وجلست على رأس قرن.
قال "عيينة" الفزاري: ما هذا الذي أرى؟ قالوا: لقينا من هذا البرح (6)، والله ما فارقنا منذ غلس، يرمينا حتى انتزع كل شيء من أيدينا.
قال: فليقم إليه نفر منكم، أربعة.
فصعد إلي منهم أربعة في الجبل، فلما أمكنوني من الكلام، قلت: أتعرفونني؟ قالوا: لا، ومن أنت؟ قلت: أنا سلمة بن الأكوع، والذي كرم
(1) أي وصلت حديدة السهم إلى كتفه.
(2)
ربما يقصد أنه يجرحهم أو يصيبهم.
(3)
أرميهم.
(4)
تركوها لسلمة.
(5)
أعلام من الحجارة.
(6)
التعب والإجهاد الشديد.
وجه صلى الله عليه وسلم، لا أطلب رجلًا منكم إلا أدركته، ولا يطلبني رجل منكم فيدركني، قال أحدهم: أنا أظن.
فرجعوا، فما برحت مكاني حتى رأيت فوارس رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخللون الشجر، فإذا أولهم: الأخرم الأسدي، على إثره أبو قتادة الأنصاري، وعلى إثره المقداد بن الأسود الكندي.
فأخذت بعنان الأخرم.
فولوا مدبرين.
قلت: يا أخرم .. إحذرهم لا يقتطعوك حتى يلحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
قال: يا سلمة .. إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر، وتعلم أن الجنة حق، والنار حق، فلا تحل بيني وبين الشهادة.
فخليته، فالتقى هو وعبد الرحمن. فعقر بعبد الرحمن فرسه، وطعنه عبد الرحمن فقتله وتحول على فرسه، ولحق أبو قتادة فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبد الرحمن "فاختلفا طعنتين فعقر بأبي قتادة" فطعنه، فقتله "أبو قتادة وتحول أبو قتادة إلى فرس الأخرم ثم إني خرجت أعدو في أثر القوم" فوالذي كرم وجه محمد صلى الله عليه وسلم لتبعتهم أعدو على رجلي، حتى ما أرى ورائى من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ولا غبارهم شيئًا، حتى يعدلوا قبل غروب الشمس إلى شعب فيه ماء، يقال له ذو قرد، ليشربوا منه وهم عطاش. فنظروا إليَّ أعدو وراءهم، فخليتهم عنه -يعني أجليتهم عنه- فما ذاقوا منه قطرة، "فعطفوا عنه وأسندوا في الثنية (1)، ثنية ذي شر وغربت
(1) الطريق في الجبل.
الشمس ويخرجون فيشتدون (1) في ثنية، فأعدو فألحق رجلًا منهم، فأصكه بسهم في نغض (2) كتفه. قلت:
خذها وأنا ابن الأكوع .... واليوم يوم الرضع
قال: يا ثكلته أمه .. أي أكوعة بكرة (3).
قلت: نعم .. يا عدو نفسه .. أكوعك بكرة "وكان الذي رميته بكرة (4)، فاتبعته بسهم آخر، فعلى به سهمان" وأرادوا فرسين على ثنية، فجئت بها أسوقها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولحقني عامر بسطيحة (5) فيها مذقة من لبن، وسطيحة فيها ماء، فتوضأت وشربت، ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على الماء الذي حلأتهم (6) عنه، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم "في خمسمائة" قد أخذ تلك الإبل، وكل شيء استنقذته من المشركين، وكل رمح وبردة، وإذا بلال نحو ناقة من الإبل الذي استنقذت من القوم، وإذا هو يشوي لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كبدها وسنامها. قلت: يا رسول الله .. خلني فأنتخب من القوم مائة رجل، فأتبع القوم، فلا يبقى منهم مخبر إلا قتلته.
فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه في ضوء النهار، فقال:
يا سلمة .. أتراك كنت فاعلًا؟ قلت: نعم والذي أكرمك.
فقال: إنهم الآن ليقرون في أرض غطفان. فجاء رجل من غطفان
(1) يركضون.
(2)
أعلى غضروف الكتف.
(3)
أي هو الذي جاءنا في الصباح الباكر مازال يلاحقنا.
(4)
مبكرًا.
(5)
قربة جلد.
(6)
منعهم عنه.