الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
استشهد ثم أخذ الراية جعفر فقاتل حتى قتل أو استشهد ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة فقاتل حتى قتل أو استشهد ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله خالد بن الوليد ففتح الله عليه ثم أمهل آل جعفر ثلاثًا أن يأتيهم" (1) أي ترك زيارتهم .. لكنه حرض مشاعر المدينة على العناية والطواف بآلامهم فقال لمن حوله: "اصنعوا لآل جعفر طعامًا فقد جاءهم ما يشغلهم" (2) ثم توجه إلى بيته مثقلًا بالحزن الشديد على أحبابه وكانت عائشة تطل على ذلك المشهد الحزين لكن حزنها لم يمنعها من الغضب على تصرف أحد الصحابة الذي لم يراع حالة النبي-صلى الله عليه وسلم.
ما الذي أغضب عائشة في ذلك اليوم الحزين
وبماذا همهمت في نفسها .. تقول رضي الله عنها: "لما جاء النبي-صلى الله عليه وسلم قَتْلُ ابن حارثة وجعفر وابن رواحة جلس يعرف فيه الحزن وأنا أنظر من صائر الباب شق الباب .. فأتاه رجل فقال: إن نساء جعفر وذكر بكاءهن فأمره أن ينهاهن فذهب ثم أتاه الثانية (فقال قد نهيتهن وذكر أنهن) لم
(1) سنده صحيح رواه الطبراني 2 - 105 حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبى ثنا وهب بن جرير عن أبيه عن محمد بن عبد الله بن أبى يعقوب عن الحسن بن سعد عن عبد الله بن جعفر قال الحسن الهاشمي تابعي ثقة وكذلك ابن أبي يعقوب -التقريب 1 - 166 و2 - 181 ووهب ووالده ثقتان لكن رواية والده عن قتادة ضعيفة وهذه ليست منها انظر التقريب 1 - 127و2 - 338.
(2)
سنده ضعيف رواه الحميدي 1 - 247 ثنا سفيان قال ثنا جعفر بن خالد المخزومي قال أخبرني أبي أنه سمع عبد الله بن جعفر يقول لما جاء نعي جعفر بن أبي طالب قال النبي صلى الله عليه وسلم
…
وأبو داود وابن ماجه والحاكم والضياء والشافعيُّ في الأم والمسند والدارقطني والبيهقيُّ وابن راهويه والطبراني وغيرهم من طريق سفيان به وظاهر السند الصحة نظرًا لقول الحافظ في التقريب عن خالد بن ساره أنه صدوق والأصح غير ذلك راجع التفصيل في الموسوعة لكن له ما يشهد له.
يطعنه فقال: انْهَهُنَّ فأتاه الثالثة قال: والله غلبننا يا رسول الله .. فزعمت أنه قال: فاحثُ في أفواههن التراب فقلت: أرغم الله أنفك لم تفعل ما أمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تترك رسول الله صلى الله عليه وسلم-من العناء" (1) "ثم أتاهم فقال لا تبكوا عليه بعد اليوم ثم قال ادعوا بني أخي فجيء بنا كأنا أفرخ فقال ادعوا لي الحلاق فأمره فحلق رؤوسنا ثم قال أما محمد فشبيه عمنا أبي طالب وأما عون فشبيه خلقي وخلقي ثم أخذ بيدي فشالها فقال اللَّهم أخلف جعفرًا في أهله وبارك لعبد الله في صفقة يمينه قالها ثلاث مرات فجاءت أمنا فذكرت يتمنا ..
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم العيلة تخافين عليهم وأنا وليهم في الدنيا والآخرة" (2) .. كلمات كالبرد على قلوب كالهجير.
ولم تكن الحال بأحسن في بيت زيد بن حارثة حيث زوجته أم أيمن ويتيمه أسامة الذي ملك قلب النبي صلى الله عليه وسلم وعيونه .. والذي قال فيه وفي والده الفقيد ذات يوم وهو يتحدث عن انتقاص البعض لـ"إمارة أبيه من قبله وايم الله إن كان لخليقًا لها وأيم الله إن كان لأحب الناس إلي وأيم الله إن هذا لها لخليق يريد أسامة بن زيد وأيم الله إن كان لأحبهم إلي من بعده فأوصيكم به فإنه من صالحيكم"(3)
أما بيت عبد الله بن رواحة رضي الله عنه فقد شهد أهون من هذه المصيبة قبل الرحيل إلى مؤتة حيث "أغمي على عبد الله بن رواحة فجعلت أخته عمرة تبكى: واجبلاه .. واكذا .. واكذا .. تعدد عليه
(1) صحيح البخاري 1 - 437.
(2)
هو باقي حديث عبد الله بن جعفر السابق.
(3)
صحيح مسلم ج:4 ص:1884.
فقال حين أفاق ما قلت شيئًا إلا قيل لي أنت كذلك" (1) فكيف هي حالها اليوم وقد بلغها أن عبد الله لن يعود بعد اليوم إلى المدينة .. يقول أحد الصحابة "أغمى على عبد الله بن رواحة بهذا .. فلما مات لم تبك عليه" (2) بكاء النواح والعويل الذي حدث منها في السابق بل بكته بكاء المؤمنة بقضاء الله وقدره التي تحتسب ما بها من حزن وأسى عند الرؤوف الرحيم بها وبأخيها ..
هذه هي أجواء المدينة وتلك هي همومها .. أما على أرض مؤتة فاليتم له طعم آخر .. الأيتام هناك لم يعودوا صغارًا .. وعندما يكون اليتيم رجلًا فصفات الفقيد أعظم من أن تحيط بها جدران المنزل والقلوب .. على أرض مؤتة شعر بعض المساكين بيتم مرير .. وأبو هريرة أكثر من عانى ووصف وباح فقال: "ما احتذى النعال ولا انتعل ولا ركب المطايا ولا لبس الكور بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من جعفر"(3)
قال أبو هريرة ذلك مأخوذًا بسلوك جعفر وكرمه تجاهه وتجاه غيره من المساكين وهو سلوك يرتقى إلى مستوى الإسلام .. أبو هريرة المسكين الذي نحت الجوع على وجهه لغة لا يقرأها إلا جعفر والنبي صلى الله عليه وسلم يبكي على جعفر الممدد أمامه .. يبكي على الجود الممدد على أرض مؤتة .. يبكي على يديه اللتين طالما قدمتا له وأعطته وواسته وكأنهما انفصلتا عن جسده لتقديم المزيد من العطاء .. يتحدث أبو هريرة عن تلك اللغة التي
(1) البخارى 4 - 1555.
(2)
البخاري 4 - 1555.
(3)
سنده صحيح رواه ابن سعد 4 - 41 وغيره من طريق خالد الحذاء عن عكرمة عن أبي هريرة وخالد تابعي صغير ثقة وعكرمة إمام معروف وخالد عن عكرمة على شرط البخاري.
يعرف تفاصيلها حبيباه محمد وجعفر فيقول: "لقد رأيتني وإني لأخر فيما بين منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حجرة عائشة مغشيًا علي فيجيء الجائي فيضع رجله على عنقي ويرى أني مجنون .. وما بي من جنون ما بي إلا الجوع"(1) ويقول رضي الله عنه: "آلله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع .. وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع .. ولقد قعدت يومًا على طريقهم الذي يخرجون منه فمر أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني فمر ولم يفعل .. ثم مر بي عمر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني فمر ولم يفعل .. ثم مر بي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم فتبسم حين رآني وعرف ما في نفسي وما في وجهي .. ثم قال يا أبا هر قلت لبيك يا رسول الله قال: الْحقْ ومضى فتبعته فدخل فاستأذن فأذن لي فدخل فوجد لبنًا في قدح فقال من أين هذا اللبن قالوا أهداه لك فلان أو فلانة قال: أبا هر قلت لبيك يا رسول الله قال الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي -وأهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون على أهل ولا مال ولا على أحد إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئًا وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها- فساءني ذلك فقلت وما هذا اللبن في أهل الصفة .. كنت أحق أنا أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها .. فإذا جاء أمرني فكنت أنا أعطيهم وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بد .. فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا فاستأذنوا فأذن لهم .. وأخذوا مجالسهم من البيت .. قال يا أبا هر قلت لبيك يا رسول الله .. قال: خذ فأعطهم .. فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى .. ثم يرد علي القدح فأعطيه الرجل فيشرب حتى يروي ثم يرد علي القدح فيشرب حتى يروي، ثم يرد
(1) حديث صحيح رواه البخاري 6 - 2670.
علي القدح حتى انتهيت إلى النبي-صلى الله عليه وسلم-وقد روى القوم كلهم .. فأخذ القدح فوضعه على يده فنظر لي فتبسم .. فقال أبا هر قلت لبيك يا رسول الله قال بقيت أنا وأنت .. قلت صدقت يا رسول الله قال اقعد فاشرب فقعدت فشربت .. فقال اشرب فشربت .. فما زال يقول اشرب حتى قلت لا والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكًا .. قال فأرني فأعطيته القدح فحمد الله وسمى وشرب الفضلة" (1) أبو بكر الذي تصدق بكل ماله على المساكين وعمر الذي تصدق بنصف ماله على أمثال أبي هريرة لم يقرءا ما خلف سؤال أبي هريرة من أنين .. لكن النبي صلى الله عليه وسلم قرأه .. أما جعفر فللحديث عنه عند أبي هريرة مذاق مميز .. إنه يدافع عن نفسه وعن كثرة رواياته لحديث النبي صلى الله عليه وسلم فيحمله الحديث إلى بيت جعفر حيث تتدفق الرحمة والكرم فيقول:
"إن الناس كانوا يقولون أكثر أبو هريرة وإني كنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشبع بطني حين لا آكل الخمير ولا ألبس الحبير .. ولا يخدمني فلان ولا فلانة وكنت ألصق بطني بالحصباء من الجوع .. وإن كنت لأستقرئ الرجل الآية هي معي كي ينقلب بي فيطعمني .. وكان أخير الناس للمسكين جعفر بن أبي طالب كان ينقلب بنا فيطعمنا ما كان في بيته حتى إن كان ليخرج إلينا العكة التي ليس فيها شيء فنشقها فنلعق ما فيها"(2) .. جعفر القادم من الغربة والفقر ينجز في عام واحد فقط أضعاف ما ينجزه البعض في أعمارهم الطويلة والعريضة .. الإنسان موقف وجعفر أكثر من موقف .. ها هو الشاب الصغير عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقلب جسد جعفر الطاهر بعينيه ويعدد ويحدد تلك الطعنات اللذيذة
(1) صحيح البخاري 5 - 2370.
(2)
صحيح البخاري 3 - 1359.