الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقافلة رضي الله عنها تحت الشجرة .. والمطايا والقلوب تتفطر بين مكة وطيبة ..
وصل صلى الله عليه وسلم إلى المدينة .. لكن حياة من نذروا أنفسهم لإزالة تجاعيد الأرض وأحزان القلوب بالإيمان والتوحيد لا تعرف الهدوء ما دام هناك شبر يئن من وخز الأصنام والأوثان .. فالقضية ليست بحثا عن الغنائم أو سعيًا وراء دفع حدود الدولة الجديد إلى الأقصى الممكن .. هي النبوة والتوحيد ومن حق كل البشر الحصول عليها وليس من حق من يحملونها الاستئثار بها وحرمان الآخرين من التمتع بها .. وليس من حق أحد مهما كان منع صوت التوحيد من الوصول إلى القلوب .. بعد عودة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة قرر القيام بالتخاطب مع الدول العظمى المجاورة .. لكن قبل ذلك وصلت أخبار ووصلت شخصيات وحدثت أحداث اهتزت لها مكة والمدينة حتى الحبشة هزها ما هز مكة والمدينة .. ولم لا تهتز المدينتان وآخر داهيتين من قريش ينتزعان قلبيهما وروحيهما من مخلفات العادات والوثنية الموروثة ويتجهان بها نحو مدينة الفجر والتوحيد:
خالد بن الوليد وعمرو بن العاص يهاجران
وإسلام أمثالهما يفقد قريشًا توازنها ويصيبها في ما تبقى لها من عزم .. فأين لقريش بقائد ميداني في مثل دهاء خالد الذي يقرأ جيش خصمه كما يقرأ اسمه .. وأين لها بمثل عمرو بن العاص داهية يزحزح دهاؤه الجبال ..
كان لهذين العظيمين عناد العظماء وثقتهم بقدراتهم على حل معضلة محمَّد عاجلًا أو آجلًا .. وهذا ما يغري أمثالهما ممّن حباهم الله بعقول وقدرات ذات مواصفات قياسية .. تجد لديهم الفرح بما عندهم وحب الاستقلال والترفع عما يؤمن به ويسلكه البسطاء .. لكن الميزة في الإِسلام
هو أنه بسيط ومدهش ومعجز في الوقت نفسه وتلك حقيقة لا مفر منها .. وقدرته على تطويع الجبابرة والمفكرين تمامًا هي كنعومته ورقته في الإمساك بأيدي البسطاء والمساكين وأخذهم إلى حيث ينعمون .. لكن عنصر العناد والاعتداد بالنفس والحسد أحيانًا لدى العظماء يحرمهم من البوح بالحقيقة الصارخة داخل أعماقهم .. وقد كان إسلام خالد وعمرو هو الخلاص من معاناة العناد والاعتداد بالذات .. وفي قصة إسلامهما تفاصيل تلك التعرجات التي سلكتها الروح والعقل بعيدًا عن الصراط المستقيم حتى وجدا نفسيهما يومًا في صحاري أبي جهل حيث لا مكان لغير الضياع والعطش والموت .. يقول عمرو رضي الله عنه: "إني قد كنت على أطباق ثلاث لقد رأيتني وما أحد أشد بغضًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مني ولا أحب إلي أن أكون قد استمكنت منه فقتلته فلو مت على تلك الحال لكنت من أهل النار فلما"(1) .. لما .. لما ماذا يابن العاص .... "لما انصرفنا من الأحزاب عن الخندق جمعت رجالًا من قريش كانوا يرون مكاني ويسمعون مني فقلت لهم تعلمون والله إني لأرى أمر محمَّد يعلو الأمور علوًا كبيرًا منكرًا وأني قد رأيت رأيًا فما ترون فيه؟ قالوا: وما رأيت؟ قال: رأيت أن نلحق بالنجاشى فنكون عنده فإن ظهر محمَّد على قومنا كنا عند النجاشي فإنا أن نكون تحت يديه أحب إلينا من أن نكون تحت يدي محمَّد، وإن ظهر قومنا فنحن من قد عرف فلن يأتينا منهم إلا خير فقالوا: إن هذا الرأي. فقلت لهم: فاجمعوا له ما نهدي له وكان أحب ما يهدى إليه من أرضنا الأدم فجمعنا له أدمًا كثيرًا فخرجنا حتى قدمنا عليه فوالله إنا لنعده إذ جاء عمرو بن أمية الضمري وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعثه إليه في شأن جعفر وأصحابه قال: فدخل عليه ثم خرج من عنده
(1) حديث صحيح رواه مسلم 1 - 112.
قال: فقلت: لأصحابي هذا عمرو بن أمية الضمري لو قد دخلت على النجاشى فسألته إياه فأعطانيه فضربت عنقه فإذا فعلت ذلك رأت قريش إني قد أجزأت عنها حين قتلت رسول محمَّد .. قال: فدخلت عليه فسجدت له كما كنت أصنع فقال: مرحبًا بصديقى أهديت لي من بلادك شيئًا قال: قلت: نعم أيها الملك قد أهديت لك أدمًا كثيرًا ثم قدمت إليه فأعجبه واشتهاه ثم قلت له: أيها الملك إني قد رأيت رجلًا خرج من عندك وهو رسول رجل عدو لنا فأعطنيه لأقتله فإنه قد أصاب من أشرافنا وخيارنا .. فغضب ثم مد يده فضرب بها أنفه ضربة ظننت أنه قد كسره فلو انشقت لي الأرض لدخلت فيها فرقًا منه ثم قلت: أيها الملك والله لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتكه فقال له أتسألني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى لتقتله قلت أيها الملك أكذاك هو فقال ويحك يا عمرو أطعني واتبعه فإنه والله لعلى الحق وليظهرن على من خالفه كما ظهر موسى على فرعون وجنوده قلت فبايعني له على الإِسلام قال نعم فبسط يده وبايعته على الإِسلام ثم خرجت إلى أصحابي وقد حال رأيى عما كان عليه وكتمت أصحابي إسلامي ثم خرجت عامدًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأسلم فلقيت خالد بن الوليد وذلك قبيل الفتح وهو مقبل من مكة فقلت أين يا أبا سليمان قال والله لقد استقام المنسم وإن الرجل لنبي أذهب والله أسلم فحتى متى قلت والله ما جئت إلا لأسلم فقدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدم خالد بن الوليد فأسلم وبايع ثم دنوت فقلت: يا رسول الله" (1) "ابسط يمينك لأبايعك فبسط يمينه فقبضت يدي
(1) سنده صحيح رواه ابن إسحاق ومن طريقه رواه الإمام أحمد 4 - 198 والحارث (زوائد الهيثمى) 2 - 933 حدثنى يزيد بن أبي حبيب عن راشد مولى حبيب بن أبي أوس الثقفى عن أبي حبيب بن أبي أوس قال حدثنى عمرو بن العاص من فيه، وشيخ ابن إسحاق تابعي =
قال: ما لك يا عمرو؟ قلت: أردت أن أشترط قال: تشترط .. بماذا؟ قلت: أن يغفر لي. قال: أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله .. وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها وأن الحج يهدم ما كان قبله.
وما كان أحد أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ولا أجلّ في عيني منه .. وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالًا له .. ولو سئلت أن أصفه ما أطقت لأني لم أكن أملأ عيني منه ولو مت على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة" (1) تلك هي عبارات عمرو بن العاص وذاك هو ما يتقد في داخله .. أما اتخاذ القرار الشجاع في اعتناق الحقيقة فهو مؤلم حقًا لكن ذلك الألم لا يدوم أمام سعادة العيش في واحة الإيمان وراحته .. وأمام العيش بين تلك المشاعر الفياضة التي تتدفق من كلمات وأحضان إخوته الجدد الذين يبتهجون به وبخالد الآن .. شمس جديدة تطلع على خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وحياة جديدة تشرق عليهما وهما يشعران بسريان صلاة الفجر تسري في عروقهما نشاطًا وحيوية وأهدافًا أسمى وآفاقًا كانت الوثنية تعصب عينيهما وروحيهما عنها ..
وإذا كانت كلمات النجاشي العظيم هي الجمرة التي تغلغلت في ضمير عمرو لتوقضه فإن هذا النجاشى لا يكف عن تحريك الحب والمشاعر .. لكنه اليوم يمارس استمطار الدموع والذكريات .. ويضفي على
= ثقة فقيه، التقريب 2 - 363 أما راشد مولى حبيب بن أوس مصري فقد قال يحيى بن معين ثقة يروى عنه المصريون -الجرح والتعديل 3 - 486، أما حبيب بن أوس أو بن أبى أوس الثقفي فقد قال الحافظ في الإصابة 2 - 15: ذكره ابن يونس فيمن شهد فتح مصر فدل على أن له إدراكًا ولم يبق من ثقيف في حجة الوداع أحد إلا وقد أسلم وشهدها فيكون هذا صحابيًا وقد ذكره ابن حبان في ثقات التابعين.
(1)
صحيح مسلم 1 - 112.