الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والمعتقد في أجواء نقية بعيدة عن الخرافة والظلم والجاهلية .. وانطلق الكثير من الممنوعين نحو مهوى الفؤاد محمَّد صلى الله عليه وسلم ومدينته المنورة بالحب والأنصار .. وعادت لقريش حرية التنقل نحو الشام واليمن بعد أن أمنت فتك أبي جندل ورفاقه .. وانطلق أبو سفيان في رحلة صيفية نحو الشام ليتزامن وصوله مع وصول:
رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل الروم
كان النبي صلى الله عليه وسلم يريد استثمار فترة التواضع لله التي يمر بها هرقل ملك الروم بعد انتصار جيشه على جيش فارس .. حيث عاد ذلك الملك من مدينة حمص إلى بيت المقدس سيرًا على الأقدام شكرًا لله .. يقول أحد الصحابة:
"إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى قيصر يدعوه إلى الإِسلام وبعث بكتابه إليه مع دحية الكلبي وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدفعه إلى عظيم بصرى ليدفعه إلى قيصر وكان قيصر لما كشف الله عنه جنود فارس مشى من حمص إلى إيلياء شكرًا لما أبلاه الله فلما جاء قيصر كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين قرأه: التمسوا لي ها هنا أحدًا من قومه لأسألهم"(1).
وهنا يكمل أبو سفيان القصة فيقول:
"انطلقت في المدة التي كانت بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فبينا أنا بالشام إذ جيء بكتاب من النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل وكان دحية الكلبي جاء به فدفعه إلى عظيم بصرى فدفعه عظيم بصرى إلى هرقل:
فقال هرقل: هل ها هنا أحد من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟
(1) صحيح البخاري 3 - 1074.
فقالوا: نعم فدعيت في نفر من قريش فدخلنا على هرقل فأجلسنا بين يديه فقال: أيكم أقرب نسبًا من هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقلت: أنا .. فأجلسوني بين يديه وأجلسوا أصحابي خلفي ثم دعا بترجمانه
فقال: قل لهم إني سائل هذا عن هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي فإن كذبني فكذبوه.
قال أبو سفيان: وايم الله لولا أن يؤثروا علي الكذب لكذبت.
ثم قال لترجمانه سله كيف حسبه فيكم؟ قلت. هو فينا ذو حسب. قال: فهل كان من آبائه ملك؟ قلت: لا.
قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا.
قال: أيتبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم. قال: يزيدون أو ينقصون؟
قلت: لا بل يزيدون.
قال: هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له؟ قلت: لا.
قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم.
قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: تكون الحرب بيننا وبينه سجالًا يصيب منا ونصيب منه. قال: فهل يغدر؟ قلت: لا ونحن منه في هذه المدة لا ندري ما هو صانع فيها. قال: والله ما أمكنني من كلمة أدخل فيها شيئًا غير هذه (1).
(1) يقصد أبو سفيان أنه لم يستطع أن يقدح في النبي صلى الله عليه وسلم إلا في قوله: أنه لا يدري هل سيغدر في المستقبل أم لا.
قال: فهل قال هذا القول أحد قبله؟ قلت: لا.
ثم قال لترجمانه قل له إني سألتك عن حسبه فيكم فزعمت أنه فيكم ذو حسب .. وكذلك الرسل تبعث في أحساب قومهم.
وسألتك هل كان في آبائه ملك فزعمت أن لا .. فقلت: لو كان من آبائه ملك قلت رجل يطلب ملك آبائه.
وسألتك عن أتباعه أضعفاؤهم أم أشرافهم فقلت: بل ضعفاؤهم .. وهم أتباع الرسل.
وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال فزعمت أن لا .. فعرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب فيكذب على الله.
وسألتك هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له فزعمت أن لا .. وكذلك الإيمان إذا خالط بشاشة القلوب. وسألتك هل يزيدون أم ينقصون فزعمت أنهم يزيدون .. وكذلك الإيمان حتى يتم.
وسألتك هل قاتلتموه فزعمت أنكم قاتلتموه فتكون الحرب بينكم وبينه سجالًا ينال منكم وتنالون منه .. وكذلك الرسل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة.
وسألتك هل يغدر فزعمت أنه لا يغدر .. وكذلك الرسل لا تغدر.
وسألتك هل قال أحد هذا القول قبله فزعمت أن لا فقلت لو كان قال هذا القول أحد قبله قلت رجل ائتم (1) بقول قيل قبله.
(1) يعني قلّد قول أناس قبله.
ثم قال: بم يأمركم؟ قلت: يأمرنا بالصلاة والزكاة والصلة والعفاف.
قال إن يك ما تقول فيه حقًا فإنه نبي وقد كنت أعلم أنه خارج ولم أك أظنه منكم ولو أني أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه .. وليبلغن ملكه ما تحت قدمي. ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه فإذا فيه بسم الله الرحمن الرحيم من محمَّد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم .. وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ} إلى قوله {اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)} فلما فرغ من قراءة الكتاب ارتفعت الأصوات عنده وكثر اللغط وأمر بنا فأخرجنا.
فقلت لأصحابي حين خرجنا: لقد أمر أمر بن أبي كبشة إنه ليخافه ملك بني الأصفر فما زلت موقنًا بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سيظهر" (1).
"والله ما زلت ذليلًا مستيقنًا بأن أمره سيظهر"(2) لكنها الزعامة والسلطة التي تخول صاحبها تشويه الحقيقة وتبرير رفضها لم ينتفع هرقل من تلك الرسالة لكنه يشعر بوخزها المؤلم في ضميره ولم يكن أبو سفيان أحسن حالًا منه .. أما النبي صلى الله عليه وسلم فلم يكن يعقد آمالًا على عناد كهذا .. كان يتطلع إلى مساحات خصبة يقف هذان العنيدان حراسًا للقحط وتغييب الأخضر عنهما .. لكن لا يأس مع الدعوة ومن يحمل الحق لا بد أن ينتشر وينتصر ولو متأخرًا. .فالتأخير مجرد تمحيص للضمائر والأتباع .. والتأخير في حقيقة الأمر هو اتجاه نحو الجذور وسفر في الأعماق كي
(1) حديث صحيح رواه البخاري 4 - 1658 و3 - 1076.
(2)
حديث صحيح رواه البخاري 4 - 1658 و 3 - 1076.
تتعالى شجرته في السماء بعد أن تتمكن في الضمائر والعقول والوجدان .. أما تلك النباتات التي تظهر فجأة وبسرعة ودون رصيد جذري فما هي إلا ريح واحدة وتختفي .. لم يكن في رسائل النبي التهديد بقوة عسكرية أو زحف أحمر لا يرحم .. كانت الرسائل موجهة نحو الضمير والعقل .. كانت رسائل تهز من الداخل وتغزو من العمق فليس هناك من يستطيع اليوم تهديد هرقل أو كسرى .. لكنها رسالة الإسلام التي لا تعرف حدودًا.
وقد أدرك هرقل أنه إن لم يستقبل الحق اليوم فسوف يستقيل له غدًا .. وأدرك أبو سفيان من قول هرقل ما كان يرفض إدراكه منذ سنين .. والقريب دائمًا لا يقنع بإبداع القريب منه إلا بعد أن يرى اعترافات الأبعد والأقوى تنهال على قريبه المبدع .. والنبي-صلى الله عليه وسلم لم يكن ليضيع أوقاته في إقناع المعاند والحاسد فالإسلام والزمن كفيلان بهما .. وبعد أن وصلت إلى مسامع النبي صلى الله عليه وسلم تلك الردود قال لأصحابه وحيًا صادقًا وبشرى لن تتخلف .. قال "صلى الله عليه وسلم: إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده .. وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله"(1).
أما النجاشي فلا أدري ما هو رده على الرسالة الموجهة له .. لكن يبدو أن الرسالة الموجهه إلى هرقل أحدثت تداعيات مزعجة ومقلقة للنبي صلى الله عليه وسلم ولدولته مما جعله يعد جيشًا لملاقاة طموحات الروم بإيقاف النبوة والإسلام وتداعيات الرسالة .. النبي صلى الله عليه وسلم يعد الآن جيشًا للتوجه للشام .. لكنه قبل ذلك يقوم بـ
(1) صحيح البخاري 3 - 1135.