الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يقول أحد الصحابة: (قتل من بني عامر بن لؤي: عمرو بن عبد ود، قتله عليّ بن أبي طالب مبارزة)(1).
انتظر الوثنيون خروجه من الخندق وسيفه يقطر بأرواح المؤمنين .. لكنه لم يخرج عليهم .. لم يغادر مكانه .. فليس هناك مشرك يصمد أمام سيف عليّ رضي الله عنه .. أحسّ المشركون بأنه لا طريق تؤدي إلى رقاب المؤمنين .. لا دروب إلى المدينة .. إلَّا طريقين لا ثالث لهما .. إمّا المبارزة .. وهذا الأمر بعيد جدًا .. وإمّا الرماية بالسهام .. وهذا هو الأمر الوحيد الذي يقدرون عليه لكنه لن يجدي نفعًا إلَّا إذا تحركت قوات اليهود الخونة وخرجت من حصن بني قريظة .. وبقدر ما كان الخندق يبث الطمأنينة في قلوب المؤمنين كان حصن بني قريظة يثير الخوف والقلق في أوساط المؤمنين .. لذلك قام صلى الله عليه وسلم بتغطية كافة الاحتمالات .. لأن المعركة والخيانة قد تشتعلان ليلًا .. فماذا فعل صلى الله عليه وسلم؟
كلمة السر
كلمة يعرف بها المؤمنون بعضهم بعضًا متى ما دهموا ليلًا من قبل الوثنين .. أو اليهود .. قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه:
(إن بيَّتكم العدو، فقولوا: {حم، لا ينصرون})(2)، كان صلى الله عليه وسلم يقرأ ما
(1) هذا الجزء من الحديث حسن وهو ما صح من قصة علي مع عمرو بن عبد ود .. رواه الحاكم (3/ 32) وسنده ضعيف لأن الحكم لم يسمع هذا الحديث من مقسم لكن هذا الجزء من الحديث له شاهدان مرسلان .. عند البيهقي (3/ 435) عن عروة .. وعن محمد بن كعب القرظي فقتل علي لعمرو ثابت بهذه الأسانيد .. أما تفاصيل المبارزة وما جرى من حديث فلم أجد سوى مراسيل وهي لا تتقوى ببعضها لاحتمال توحد المصدر.
(2)
حديث صحيح رواه الترمذيُّ (1682) وأبو داود (2597) وأحمدُ (4/ 65 - 289) والحاكم (2/ 117) من طرق عديدة عن أبي إسحاق عن المهلب بن أبي صفرة عن أحد =
حوله تمامًا .. يقرأ تفكير الخيانة جيدًا .. ولذلك طلب فارسًا من أصحابه .. يتطوّع للذهاب حيث حصن بني قريظة .. كي يقدم تقريرًا عن آخر تحرّكاتهم .. وهل بدأوا تنفيذ مؤامرتهم مع قريش وغطفان .. هل بدأوا التحرك العسكري للضرب من الخلف ..
هبّ الزبير ملبيًا نداء النبي صلى الله عليه وسلم .. حمل روحه وسيفه وانطلق كالسهم نحو بني قريظة .. وفي طريقه مرّ من تحت سور حصن بني حارثة .. فشاهده ابنه الصغير عبد الله الذي كان يطل من الحصن بالتناوب مع صديقه الصغير عمر بن أبي سلمة ..
يقول عبد الله بن الزبير: (كنت أنا وعمر بن أبي سلمة في الأطم الذي فيه نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم، أطم حسان، فكان يرفعني وأرفعه، فإذا رفعني عرفت أبي حين يمر إلى بني قريظة "على فرسه"، وكان يقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق)(1).
ويقول الزبير: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من يأت بني قريظة فيأتيني بخبرهم، فانطلقت، فلما رجعت جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أبويه، فقال: فداك أبي وأمي)(2)، فقد أدّى عملًا بطوليًا .. وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن بني قريظة قد نقضوا العهد وما زالوا على خيانتهم .. تأزّم الوضع .. وبدأ المنافقون بالتململ .. فقد ضاقوا مما يجري .. وبدأت الأزمات تكشف عن حقيقتهم .. وأحرقت نار الحرب تلك القشرة التي يختبئ كفرهم تحتها ..
= الصحابة .. والمهلب من ثقات الأمراء وقد سمع منه أبو إسحاق وقال عنه: ما رأيت أميرًا أفضل منه - التقريب (2/ 280).
(1)
حديث صحيح رواه البخاري (3720) ومسلمٌ (الفضائل) وأحمدُ (1/ 164) واللفظ له والزوائد للبخاري.
(2)
حديث صحيح رواه البخاري (3720).
فضحتهم الحرب .. وفضحهم الله بآيات كالسيوف على رقابهم .. بدأوا يقدمون التماساتهم وأعذارهم بعدم القدرة على الصمود نظرًا للخطر الذي قد يحدث لأهلهم وبيوتهم .. بعد أن رأوا السهام كالمطر على جيش المؤمنين .. انسحب المنافقون الواحد تلو الآخر .. هربًا من المعركة .. كان منظرهم يجلب الإحباط والغضب لدى المؤمنين لولا ثقتهم بنصر الله ووعده .. اشتدّ الأمر على المؤمنين .. وضاقت بهم السُّبل في أيام تعصف بالجوع والبرد والموت ..
أعداء في الخارج أعلى المدينة .. ويهود أسفلها .. ومنافقون في داخلها ينسحبون كالجرذان .. ويطالبون المؤمنين بالاستسلام والتسليم للوثنيين ..
يقول سبحانه عن تلك الأيام العصيبة: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا- (1) - وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا- (2) - (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا- (3) - (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا
(1) مازالوا يسمون المدينة يثرب .. ويطالبون المؤمنين بالرجوع إلى منازلهم لأنهم مهزومون لا محالة ..
(2)
عذرهم في الانسحاب من المعركة أنهم يخافون على بيوتهم من السرقة والأعداء.
(3)
أي لو دخل الأعداء المدينة ثم طلبوا من المنافقين إعلان الكفر لأعلنوه حالًا.
أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ - (1) - وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ- (2) -} - (3) -.
أولئك هم المنافقون .. وتلك هي سفالتهم وانحطاطهم .. مات فيهم كل شيء .. حتى بقايا صفات الخير التي كان العرب في الجاهلية يتفاخرون بها .. حتى تلك .. ماتت داخل نفوسهم المتعفّنة .. خنقها عفن النفاق وأجهز عليها .. وها هو العفن يتطاير في أجواء المدينة .. يحاول التسلّل إلى عزائم المؤمنين ليخنقها .. ليبعثر في جنباتها الإحباط .. إنهم الآن بين نسائهم يأكلون ويشربون ويبخلون بطعامهم على أولئك الصامدين أمام الخندق .. وليتهم اكتفوا بذلك .. إنهم يطالبون أولئك الفرسان بالانسحاب والاستسلام .. لأن المعركة في نظرهم محسومة .. وأبو سفيان سيحتل المدينة غدًا إن لم يقم بذلك اليوم .. أولئك المنافقون .. نسوا كل شيء .. نسوا أن المدينة مدينتهم .. نسوا عهدهم مع الله ورسوله .. نسوا بيعتهم لله ورسوله .. نسوا وعدهم بالصمود معه صلى الله عليه وسلم وأن لا يفرّوا من المعركة مهما كانت النتائج .. هذا ما بدا للجميع من هؤلاء الأنذال ..
أمّا ما خفي فإن الله كشفه بهذه الآيات .. التي غرفت ما بداخلهم .. ونشرته للجميع .. لقد شرَّحتهم الآيات وبيَّنت للناس أيّ سرطان يتمدّد في
(1) الذين يعيقون غيرهم من الجهاد والدفاع عن المدينة .. ويطالبونهم بالبقاء معهم.
(2)
يشحون على المؤمنين ويبخلون بالمساعدة والجهاد بأموالهم وأنفسهم وحتى بالدعم المعنوي بألسنتهم لا خير فيهم.
(3)
سورة الأحزاب: الآيات 10 - 19.