الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقرأ جعفر صدرا من سورة مريم، فبكى النجاشيّ، حتى اخضلّت «1» لحيته، وبكى أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم «2» .
إنّ كلام جعفر بن أبي طالب أمام ملك الحبشة، وتصويره للإسلام، كلام حكيم قد جاء في أوانه ومكانه، وقد دلّ على بلاغة صاحبه العقلية، قبل أن يدلّ على بلاغته العربيّة البيانيّة، ولا يعلّل ذلك إلّا بإلهام من الله وتأييد هذا الدين الذي أراد الله أن يتمّ نوره، وأن يظهره على كلّ دين، ويدلّ كذلك على سلامة الفطرة، ورجاحة العقل، اللتين فاق فيهما بنو هاشم قريشا، وفاقت فيهما قريش العرب كلّهم، فقد فضّل جعفر أن يكون جوابه حكاية حال لما كان عليه أهل الجاهلية في الجزيرة العربية، ولما آل إليه أمرهم بعد ما أرسل الله رسوله فيهم، ودعا إلى الله وإلى الدين الحنيفي السمح، ومكارم الأخلاق، وآمنوا به واتّبعوه، وحكاية الحال- خصوصا إذا لم يجانب فيه صاحبها الصواب- أبعد شيء عن المناقشة والمناظرة، وأقدر شيء على غرس المعاني المقصودة، وتحقيق الأهداف المنشودة، والتهيّؤ للتأمّل والإنصاف وحسن الاستماع «3» .
خيبة وفد قريش:
ثمّ قال النجاشيّ: إنّ هذا والذي جاء به عيسى، يخرج من مشكاة واحدة، ثمّ أقبل على رسولي قريش، فقال: انطلقا فلا والله لا أسلمهم إليكم، ولا يكادون.
(1) اخضلت: ابتلت.
(2)
[أخرجه أحمد في المسند (1/ 202) و (5/ 290- 292) والبزار (1740) وانظر في مجمع الزوائد (6/ 24- 27) ] .
(3)
نقلا من «روائع من أدب الدعوة في القرآن والسيرة» للمؤلف، [انظر المحاضرة الثامنة بعنوان «تمثيل جعفر بن أبي طالب للإسلام
…
» ] ص 107- 108 [وانظر «محاضرات إسلامية في الفكر والدّعوة» للعلامة المؤلّف، إعداد المحقّق، ج: 1، ص: 493، طبع دار ابن كثير] .
وأطلق عمرو بن العاص آخر سهم من سهام جعبته، وهو سهم مسموم، فغدا على النجاشيّ من الغد، وقال له: أيها الملك! إنّهم ليقولون في عيسى ابن مريم قولا عظيما، فأقبل الملك على المسلمين، فقال: ماذا تقولون في عيسى ابن مريم؟.
قال جعفر بن أبي طالب: نقول فيه ما جاء به نبيّنا صلى الله عليه وسلم هو عبد الله، ورسوله، وروحه، وكلمته، ألقاها إلى مريم العذراء البتول، فضرب النجاشيّ بيده إلى الأرض فأخذ منها عودا، ثمّ قال: والله ما زاد عيسى ابن مريم على ما قلت مقدار هذا العود.
وردّ المسلمين ردّا كريما، وأمّنهم، وأمر بردّ هدايا رسولي قريش، وخرجا من عنده مقبوحين «1» ، فأقام المسلمون بخير دار مع خير جار.
وقد هاجم النجاشيّ عدوّ له، فانتصر المهاجرون المسلمون للنجاشيّ اعترافا بحسن موقفه من المهاجرين المضطهدين ومكافأته على حسن صنيعه «2» ، وكان ذلك مطابقا لتعاليم الإسلام الخلقيّة ولائقا بأخلاق المسلمين.
وكانت هذه الهجرة إلى الحبشة سنة خمس بعد النبوّة، وقد بقي جعفر بن أبي طالب مع عدد من أصحابه إلى سنة 7 من الهجرة، فقد قدم جعفر بن أبي طالب على رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر فكان بقاؤه في الحبشة خمس عشرة سنة، وهي مدّة طويلة، لا بدّ أنّ جعفرا قد انتفع بها في الدعوة إلى الإسلام، والتعريف به في بلد امتاز عن كثير من البلاد النصرانية بالتسامح وإيواء
(1) سيرة ابن هشام: ج 1؛ ص 334- 338 باختصار.
(2)
راجع «مسند الإمام أحمد بن حنبل» (1/ 203)[و (5/ 290- 292) ] .