الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عام الوفود سنة تسع من الهجرة
تقاطر الوفود إلى المدينة وأثرها في الحياة:
وبعد أن فتح الله مكّة، وعاد نبيّه من تبوك سالما غانما، وكان قد كتب قبل ذلك إلى الملوك والأمراء كتبا دعاهم فيها إلى الإسلام، فلقي من بعضهم الاستجابة الكريمة، ومن بعضهم ردّا رقيقا رفيقا، ووقف بعضهم أمامها خاشعا مترددا، وردّها بعضهم ردّا قبيحا، وتلقّاها بالإهانة والكبر، فلقي عقوبة عاجلة أطاحت بملكه ونفسه، وقد تسامع ذلك العرب كلّهم وتحدّثوا به.
وكان لفتح مكّة- عاصمة الجزيرة الروحيّة والاجتماعية- ودخول رؤساء قريش في الإسلام، وسقوط أكبر حصن من حصون المقاومة أمام دين الله، أثر عميق في نفوس المترددين والمتربّصين من العرب، فزال الحاجز بينهم وبين الإسلام، وطويت المسافة بينهم وبين قبوله.
قال العلّامة محمد طاهر الفتني (ت 986 هـ) في السّير من كتابه «مجمع بحار الأنوار» :
«وهذه السّنة «1» سنة الوفود، فإنّ العرب تربّصوا بالإسلام أمر قريش،
(1) يعني سنة تسع للهجرة.
خريطة عام الوفود
لأنّهم إمام الناس، وأهل بيت الله، فلمّا دانوا، وفتحت مكة، وأسلمت ثقيف، عرفوا أنه لا طاقة بهم، ووفدت الوفود من كلّ وجه يدخلون في دين الله أفواجا» «1» .
فكان لكلّ ذلك أثره الطبيعيّ في النفس، ففتح الطريق للدخول في الإسلام ولقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، وتقاطرت وفود هداية واستطلاع إلى مركز الإسلام كأنّها عقد انفرط، فتساقطت لآلئه في حجر الإسلام.
وكانت تعود إلى مراكزها تحمل روحا جديدة، وشحنة إيمانية، وحماسا في الدعوة إلى الإسلام، وكراهة شديدة للوثنيّة وآثارها، والجاهليّة وشعائرها.
كان من هذه الوفود وفد بني تميم، فيه أشراف قومهم المشهورون، جرت مساجلة بين خطيبهم وشاعرهم، وبين خطيب المسلمين وشاعرهم، ظهر فيها فضل الإسلام وتفوّق خطيبه وشاعره، أقرّ بذلك رؤساؤهم وأسلموا، وأجازهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسن جوائزهم «2» .
وقدم وفد بني عامر، وقدم ضمام بن ثعلبة وافدا عن بني سعد بن بكر، ورجع إلى قومه داعيا، فكان أوّل ما تكلّم به أن قال: بئست «اللّات» و «العزّى» .
قالوا: مه يا ضمام! اتّق البرص، اتق الجذام، اتق الجنون.
وقال: ويلكم! إنّهما والله لا يضرّان ولا ينفعان، إنّ الله قد بعث رسولا، ونزّل عليه كتابا استنقذكم به مما كنتم فيه، وإنّي أشهد أن لا إله إلّا الله وحده
(1) مجمع بحار الأنوار: ج 5، ص 272.
(2)
سيرة ابن هشام: ج 2، ص 560- 568.
لا شريك له، وأنّ محمدا عبده ورسوله، وقد جئتكم من عنده بما أمركم به ونهاكم عنه، فما أمسى من ذلك اليوم في حيّه رجل ولا امرأة إلا مسلما «1» .
وقدم وفد بني حنيفة، معهم مسيلمة الكذّاب، وأسلم، وارتدّ، وتنبّأ، وتكذّب لهم، وكان مثير فتنة الرّدة، وقتل فيها «2» .
وقدم وفد بني طيىء، وفيهم زيد الخيل- الفارس المشهور- وسمّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم «زيد الخير» وحسن إسلامه.
وقدم عديّ بن حاتم- ابن الجواد المشهور- وأسلم بعد ما رأى أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم وتواضعه، حتّى قال: والله ما هذا بأمر ملك.
وقدم وفد من بني زبيد، وفيهم فارس العرب المشهور عمرو بن معد يكرب، ووفد كندة فيهم الأشعث بن قيس، ووفد من الأزد، ورسول ملوك حمير بكتابهم يخبرون فيه بإسلامهم.
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل وأبا موسى إلى اليمن، للدعوة إلى الإسلام، وأوصاهما، وقال:«يسّرا ولا تعسّرا، وبشّرا ولا تنفّرا» «3» .
(1) سيرة ابن هشام: ج 2، ص 574 [أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب ما جاء في العلم، برقم (63) ، ومسلم في كتاب الإيمان، باب السؤال عن أركان الإسلام، برقم (12) ، والنسائي في كتاب الصيام، باب وجوب الصيام، برقم (2093) ، وأبو داود في كتاب الصلاة، باب ما جاء في المشرك يدخل المسجد، برقم (486) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه] .
(2)
[أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب وفد بني حنيفة..، برقم (4373) ، ومسلم في كتاب الرؤيا، باب رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم، برقم (2273) ، والترمذي في أبواب الرؤيا، باب ما جاء في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم في الميزان والدلو، برقم (2292) وغيرهم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما] .
(3)
أخرجه البخاري في الجامع الصحيح، في كتاب المغازي، باب: بعث معاذ وأبي موسى إلى اليمن، [برقم (4341) ، ومسلم في كتاب الجهاد، باب في الأمر بالتيسير وترك-
وبعث فروة بن عمرو الجذاميّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولا بإسلامه، وكان عاملا للروم على العرب في «معان» وما حولها من أرض الشام.
وأسلم بنو الحارث بن كعب ب «نجران» على يد خالد بن الوليد، وأقام فيهم خالد يعلّمهم الإسلام، وأقبل خالد ومعه وفد بني الحارث وعادوا إلى بلادهم، فبعث إليهم عمرو بن حزم ليفقّههم في الدين، ويعلّمهم السنة ومعالم الإسلام، ويأخذ منهم صدقاتهم.
وقدم وفد همدان «1» .
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة، فكسر «اللّات!» ، ثمّ علا أعلى سورها وعلا الرجال معه، فما زالوا يهدمونها حجرا حجرا، حتّى سوّوها بالأرض، وأقبل الوفد حتّى دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه، وحمده «2» .
وقدم وفد عبد القيس، ورحّب بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرهم ونهاهم عن الأوعية التي يسرع فيها الإسكار، سدا للذرائع، ولأنّهم كانوا يكثرون منها «3» .
وقدم وفد الأشعريين وأهل اليمن، وكانوا يرتجزون:[من مجزوء الرجز]
- التنفير، برقم (1733) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه] .
(1)
سيرة ابن هشام: ج 2، ص 575- 596.
(2)
سيرة ابن كثير: ج 4، ص 62- 63.
(3)
زاد المعاد: ج 2، ص 28، الحديث في الصحيحين عن ابن عباس [أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب أداء الخمس من الإيمان، برقم (53) ، ومسلم في كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان الذي يدخل به الجنة..، برقم (13) ] .
غدا نلقى الأحبّه
…
محمدا وحزبه «1»
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتاكم أهل اليمن، هم أرقّ أفئدة وألين قلوبا، الإيمان يمان، والحكمة يمانيّة» «2» .
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى أهل اليمن، يدعوهم إلى الإسلام في نفر من المسلمين، فأقاموا ستة أشهر، يدعوهم خالد إلى الإسلام، فلم يجيبوه، ثمّ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ بن أبي طالب فقرأ عليهم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت همدان جميعا، فكتب عليّ- رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره بإسلامهم، فلمّا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب خرّ ساجدا ثمّ رفع رأسه، وقال:
«السّلام على همدان، السلام على همدان» «3» .
وقدم وفد مزينة في أربعمئة رجل.
وقدم وفد نصارى نجران وهم ستون راكبا، منهم أربعة وعشرون رجلا من أشرافهم، فيهم أبو حارثة- أسقفهم وحبرهم- وكانت ملوك الروم قد شرّفوه، وموّلوه، وأخدموه، وبنوا له الكنائس، ونزلت فيهم آيات كثيرة من القرآن «4» .
(1) زاد المعاد: ص 32 [وأخرجه أحمد في المسند (3/ 105) ، والبيهقي في «الدلائل» (5/ 351) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه] .
(2)
أخرجه البخاري [في كتاب المغازي] باب قدوم الأشعريين وأهل اليمن، [برقم (4388) ، ومسلم في كتاب الإيمان، باب تفاضل أهل الإيمان فيه..، برقم (52) ، وأحمد في المسند (2/ 235) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه] .
(3)
زاد المعاد: ج 2، ص 33 [أخرجه البيهقي في السنن (2/ 369) برقم (3747) ، والروياني في المسند (1/ 219) برقم (305) من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه] .
(4)
اقرأ للتفصيل «زاد المعاد» ج 2، ص 35- 36.
وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل نجران كتابا، يدعوهم فيه إلى الإسلام، فلمّا قرؤوه بعثوا وفدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألهم وسألوه، ونزلت في جواب أسئلتهم آيات كثيرة من سورة آل عمران، وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يباهلهم «1» ، وأبى شرحبيل ذلك وخاف، فلمّا كان من الغد أتوه، فكتب لهم كتابا، وضرب عليهم الخراج «2» ، وبعث معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجرّاح، وقال:«هذا أمين هذه الأمة» «3» .
وقدم وفد تجيب، وسرّ بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكرم منزلهم، وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أشياء، فكتب لهم بها، وجعلوا يسألونه عن القرآن والسّنن فازداد بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رغبة، وأمر بلالا أن يحسن ضيافتهم، وأقاموا أياما، ولم يطيلوا اللّبث فقيل لهم: وما يعجلكم؟ قالوا: نرجع إلى من وراءنا، فنخبرهم برؤيتنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلامنا إيّاه، وما ردّ علينا، وانطلقوا راجعين، ثمّ وافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم ب «منى» سنة عشر «4» .
وكان من ضمن الوفود وفد بني فزارة، ووفد بني أسد، ووفد بهراء، ووفد عذرة، وأسلموا، وبشّرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بفتح الشّام ونهاهم عن سؤال الكاهنة، وعن الذبائح التي كانوا يذبحونها، وأخبرهم أن ليس عليهم إلّا الأضحية.
(1)[باهل يباهل مباهلة، من باب المفاعلة: وهو أن يجتمع القوم إذا اختلفوا في شيء فيقولوا: لعنة الله على الظالم منّا] .
(2)
زاد المعاد: ص 37.
(3)
سيرة ابن كثير، ج 4، ص 100، وأخرجه البخاري مختصرا [في كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب مناقب أبي عبيدة بن الجراح..، برقم (3745) ، ومسلم في فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي عبيدة
…
، برقم (2420) ، وغيرهما من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه] .
(4)
زاد المعاد: ج 2، ص 43.