الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفي رواية البخاريّ: فلمّا رآني قال: «أنت وحشيّ؟» .
قلت: نعم.
قال: «أنت قتلت حمزة؟»
قلت: قد كان من الأمر ما بلغك.
قال: «فهل تستطيع أن تغيّب وجهك عنّي؟» «1» .
ومن مظاهر هذا الشعور الإنسانيّ الرقيق، والعاطفة النبيلة أنّه صلى الله عليه وسلم انتهى إلى رسم قبر فجلس، وأدركته الرقّة، فبكى، وقال:«هذا قبر آمنة بنت وهب» ، وذلك حين مضت على وفاتها مدة طويلة «2» .
كرمه وحلمه:
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إمام الخلق أجمعين، ومعلّمهم في حسن الخلق وكرم النفس، والتواضع، لقد قال الله تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4]، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«أدّبني ربّي فأحسن تأديبي» «3» .
وعن جابر رضي الله عنه أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله بعثني لتمام مكارم
- حمزة رضي الله عنه [برقم (4072) ، وأحمد في المسند (3/ 501) ، وابن حبان في الصحيح برقم (7013) وغيرهم] .
(1)
[انظر تخريج الحديث السابق] .
(2)
أخرجه البيهقي عن طريق سفيان الثوري مطولا، راجع ابن كثير، ج 1، ص 236 [وأخرجه ابن أبي شيبة بمعناه في المصنّف (3/ 29) برقم (11808) من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه] .
(3)
[حديث ضعيف؛ أخرجه السيوطي في «الجامع الصغير» برقم (310) ، وعزاه لابن السمعاني في «أدب الإملاء» عن ابن مسعود رضي الله عنه، وقال المناوي في «فيض القدير» (1/ 225) : معناه صحيح لكنّه لم يأت من طريق صحيح، وذكره ابن الجوزيّ في «الواهيات» ] .
الأخلاق، وكمال محاسن الأفعال» «1» .
وسئلت عائشة- رضي الله عنها عن خلقه، فقالت:«كان خلقه القرآن» «2» .
وكان في العفو والحلم ورحابة الصدر وقوّة الاحتمال، حيث لا يبلغه ذكاء الأذكياء، وخيال الشعراء، ولو لم يرو عن طريق لا يتطرّق إليه شكّ، ولا ترتقي إليه شبهة، لما قبلته أذهان النّاس، ولكن روي بإسناد صحيح متّصل، ونقل عادل عن عادل، وتواتر، واستفاض ذلك، فكان أثبت من التاريخ الأمين، ونحن هنا نكتفي بقليل ممّا روي في هذا الباب.
فمن كرمه صلى الله عليه وسلم وعفوه عن أشد أعدائه، وإحسانه إليه أنّه «أتى عبد الله بن أبيّ «3» - رأس المنافقين- بعد ما أدخل حفرته، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرج، فوضعه على ركبتيه، ونفث فيه من ريقه، وألبسه قميصه» «4» .
وعن أنس بن مالك- رضي الله عنه قال: «كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجرانيّ، غليظ الحاشية، فأدركه أعرابيّ، فجبذه بردائه جبذة شديدة، فنظرت إلى صفحة عاتق النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقد أثّرت بها حاشية الرّداء من
(1) أخرجه البغوي في «مصابيح السنة» ، [في كتاب الفضائل والشمائل، باب فضائل سيد المرسلين صلوات الله عليه، برقم (4490) وأخرجه بإسناده في «شرح السنة» كتاب الفضائل، باب فضائل سيد الأولين والآخرين محمد صلى الله عليه وسلم، (13/ 202) ، برقم (3622) و (3623) ] .
(2)
أخرجه الإمام مسلم في صحيحه [في كتاب صلاة المسافرين، باب جامع صلاة الليل، برقم (746) ، وأحمد في المسند (6/ 91- 163- 216) ] .
(3)
وهلك سنة تسع في ذي القعدة بعد الانصراف من تبوك، (الزرقاني: ج 3، ص 112- 113) .
(4)
أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، [باب هل يخرج الميّت من القبر واللّحد لعلّة؟ برقم (1350) ملخّصا، ومسلم في صفات المنافقين، أول الكتاب، برقم (2773) ] .
شدّة جبذته، ثمّ قال: يا محمّد! مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفتّ إليه، فضحك، ثمّ أمر له بعطاء» «1» .
وجاء زيد بن سعنة قبل إسلامه يتقاضاه دينا عليه، فجبذ ثوبه عن منكبه، وأخذ بمجامع ثوبه، وأغلظ له، ثمّ قال: إنّكم بني عبد المطلب مطل، فانتهره عمر، وشدّد له في القول، والنّبيّ صلى الله عليه وسلم يبتسم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«أنا وهو كنّا إلى غير هذا أحوج منك يا عمر! تأمرني بحسن القضاء، وتأمره بحسن التقاضي» ، ثمّ قال:«لقد بقي من أجله ثلاث» ، وأمر عمر أن يقضيه ماله، ويزيده عشرين صاعا لما روّعه، فكان سبب إسلامه «2» .
يقول أنس- رضي الله عنه: إنّ ثمانين رجلا من أهل مكّة هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من جبل «التنعيم» متسلّحين، يريدون غرّة النّبيّ «3» ، فأخذهم سلما «4» ، فاستحياهم «5» .
وعن جابر- رضي الله عنه قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة نجد، فأدركته القائلة، وهو في واد كثير العضاه «6» ، فنزل تحت سمرة «7» ، واستظلّ
(1) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد، باب: ما كان النّبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم [برقم (5809) ، ومسلم في كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلّفة..، برقم (1057) ] وأحمد في المسند (3/ 153) باختلاف في اللفظ.
(2)
[أخرجه البيهقي مفصّلا، وابن حبان برقم (2105) ، والحاكم (2/ 37) برقم (2237) ، وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه] .
(3)
الغرة: الغافلة.
(4)
السلم: الأسر.
(5)
أخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب قول الله: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ» [برقم (1088) ] .
(6)
[العضاه: هو كلّ شجر عظيم له شوك، الواحدة عضاهة] .
(7)
[السمرة: ضرب من شجر الطلح] .
بها، وعلّق سيفه، فتفرّق الناس في الشجر يستظلّون، وبينما نحن كذلك، إذ دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئنا، فإذا أعرابيّ قاعد بين يديه، فقال:«إنّ هذا أتاني وأنا نائم، فاخترط عليّ سيفي، فاستيقظت، وهو في يده قائم على رأسي مخترط صلتا، قال: من يمنعك منّي؟ قلت: الله! فشامه «1» ، ثم قعد، فها هو ذا جالس» ، قال: ولم يعاقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم «2» .
وقد كان حلمه يسع ما لا يسعه حلم الصحابة- وهم أصحاب حلم وأناة- وكان في كلّ ذلك معلّما رفيقا، ومصلحا رحيما.
من ذلك ما رواه أبو هريرة- رضي الله عنه قال: بال أعرابيّ في المسجد فقام الناس إليه ليقعوا فيه، فقال النّبي صلى الله عليه وسلم:«دعوه، وأريقوا على بوله سجلا من الماء، أو ذنوبا من ماء، فإنّما بعثتم ميسّرين، ولم تبعثوا معسّرين» «3» .
وعن معاوية بن الحكم قال: بينا أنا أصلّي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله! فرماني القوم بأبصارهم، فقلت:
واثكل أمّياه! ما شأنكم تنظرون إليّ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلمّا رأيتهم يصمّتونني لكنّي سكتّ، فلمّا صلّى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمّي، ما رأيت معلّما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه، فو الله ما نهرني، ولا ضربني، ولا شتمني، فقال: «إنّ هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس،
(1) أي ردّه إلى غمده، وقيل: هو بمعنى سله ونظر إليه (مجمع بحار الأنوار، ج 3) .
(2)
أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب: غزوة بني المصطلق [برقم (2910) ، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الخوف، برقم (843) ] .
(3)
أخرجه البخاري في كتاب الوضوء [باب صبّ الماء على البول في المسجد، برقم (220) ، والترمذي في أبواب الطهارة، باب ما جاء في البول يصيب الأرض، برقم (147) ، والنّسائي في كتاب الطهارة، باب ترك التوقيت في الماء، برقم (56) ] .