الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تصوير المدينة عند الهجرة
اختلاف بين المجتمع المكيّ والمجتمع المدنيّ:
ولكي نأخذ صورة إجمالية صحيحة عن مدينة (يثرب) - التي اختارها الله دار هجرة للرّسول، ومنطلق الدعوة الإسلامية في العالم، ومهد أوّل مجتمع إسلاميّ يقوم بعد ظهور الإسلام- يجب أن نعرف وضعها المدنيّ، والاجتماعيّ، والاقتصاديّ، وصلة القبائل المقيمة فيها، بعضها ببعض، ومركز
اليهود
فيها، الاجتماعيّ، والاقتصاديّ، والحربيّ، والواقع الذي كانت تعيشه هذه المدينة الخصبة الغنية، التي التقت فيها ديانات، وثقافات، ومجتمعات مختلفة، بخلاف مكّة ذات الطبيعة الواحدة، والطابع الموحّد، والدين المشترك، وإلى القارىء بعض الأضواء.
اليهود:
المرجّح في ضوء التاريخ أنّ غالبية اليهود حلّوا بالجزيرة العربيّة بصفة عامة، ومدينة يثرب بصفة خاصة، في القرن الأول الميلاديّ، يقول الدكتور إسرائيل ولفنسون:
«بعد حرب اليهود والرّومان سنة 70 م التي انتهت بخراب بلاد فلسطين، وتدمير هيكل بيت المقدس، وتشتّت اليهود في أصقاع العالم، قصدت جموع كثيرة من اليهود بلاد العرب كما حدّثنا عن ذلك المؤرّخ اليهوديّ
«يوسي فوس» الذي شهد تلك الحروب، وكان قائدا لبعض وحداتها..
وتؤيّد المصادر العربية كلّ هذا» «1» .
وكانت في المدينة ثلاث قبائل كبيرة رئيسية من اليهود، بلغ عدد رجالها البالغين أكثر من ألفين، وهي:«قينقاع» و «النّضير» و «قريظة» ، ويقدّر أنّ رجال قينقاع المحاربين، بلغ عددهم سبعمئة، كما كان عدد رجال النّضير مثل هذا العدد، وكان الرجال البالغون من قريظة ما بين سبعمئة وتسعمئة «2» .
وكانت العلاقة بين هذه القبائل الثلاث مضطربة متوتّرة، وقد يكون بعضهم حربا على بعض، يقول الدكتور إسرائيل ولفنسون:
«قد كانت هناك عداوة بين بني قينقاع وبقية اليهود، سببها أنّ بني قينقاع كانوا قد اشتركوا مع بني الخزرج في يوم «بعاث» وقد أثخن بنو النّضير وبنو قريظة في بني قينقاع، ومزّقوهم كلّ ممزّق، مع أنّهم دفعوا الفدية عن كلّ ما وقع في أيديهم من اليهود، وقد استمرّت هذه العداوة بين البطون اليهودية بعد
(1) تاريخ اليهود في بلاد العرب في الجاهلية وصدر الإسلام: للدكتور إسرائيل ولفنسون (أبو ذؤيب) ، ص 9؛ مطبعة الاعتماد القاهرة 1927 م.
(2)
استفيد في هذا التقدير مما جاء في سيرة ابن هشام من الأعداد عند الحوادث والحروب، كجلاء بني النضير، وقتل الرجال من بني قريظة، وغير ذلك من القرائن. و «قينقاع» و «النضير» و «قريظة» هي القبائل اليهودية الأم، ولها توابع يلتحقون بها، وينسبون إليها كبني هدل، التابعين لبني قريظة، كان منهم بعض كبار الصحابة الذين أسلموا من أهل الكتاب، وكبني زنباع وهم فرع من فروع بني قريظة، وقد جاءت أسماء لجماعات يهودية في العقد الذي تم بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين اليهود، كيهود بني عوف، ويهود بني النجار؛ ويهود بني ساعدة، ويهود بني ثعلبة، وبني جفنة، وبني الحارث، وغيرها، وقد جاء في هذا العقد بعد ذكر هذه الجماعات «إنّ بطانة يهود كأنفسهم» ؛ وذلك الذي حمل السمهودي صاحب كتاب «وفاء الوفا في أخبار دار المصطفى» على أن يقول:«إنّ يهود كانوا نيفا وعشرين قبيلة» ؛ (وفاء الوفا: ص 116) .
يوم «بعاث» ، حتى وقعت الحرب بين الأنصار وبين بني قينقاع، فلم ينهض معهم أحد من اليهود في محاربة الأنصار.
وقد أشار القرآن إلى عداوة اليهود فيما بينهم بقوله:
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ «1» [البقرة: 84- 85] .
وكانوا يعيشون في أحياء وقرى مختلفة خاصة بهم، فكانت بنو قينقاع يسكنون داخل المدينة في محلّة خاصة بهم، بعد أن طردهم إخوانهم بنو النّضير وقريظة من مساكنهم التي كانت خارج المدينة، وكانت مساكن بني النضير بالعالية بوادي «بطحان» على بعد ميلين أو ثلاثة من المدينة، وكانت عامرة بالنّخيل، والزّروع، وكانت بنو قريظة يسكنون في منطقة (مهزور) التي تقع على بعد بضعة أميال من جنوب المدينة «2» .
وكانت لهم حصون، وآطام، وقرى، يعيشون فيها متكتّلين «3» مستقلّين، لم يتمكّنوا من إنشاء حكومات يحكمها اليهود، بل كانوا مستقلّين في حماية سادات القبائل ورؤسائها، يؤدّون لهم إتاوة في كلّ عام، مقابل حمايتهم لهم، ودفاعهم عنهم، ومنع الأعراب من التعدّي عليهم، وقد لجؤوا إلى عقد المحالفات معهم، وكان لكلّ زعيم يهوديّ حليف من
(1) اليهود في بلاد العرب: ص 129.
(2)
بنو إسرائيل في القرآن والسنة: للدكتور محمد سيد الطنطاوي، ص 77.
(3)
[متكتّلين: أي متّحدين، ومتّفقين على رأى واحد] .
الأعراب ومن رؤساء العرب «1» .
وكانوا ينعتون أنفسهم بأنّهم أهل العلم بالأديان والشّرائع، وكانت لهم مدارس «2» يتدارسون فيها أمور دينهم، وأحكام شريعتهم، وأيامهم الماضية، وأخبارهم الخاصّة برسلهم وأنبيائهم، كما كانت لهم أماكن خاصة يقيمون فيها عباداتهم وشعائر دينهم، وكانت تسمّى «المدراس» وكان المكان الذي يتجمّع فيه اليهود لتبادل المشورة في سائر أحوالهم الدينية والدنيوية.
وكانت لهم تشريعاتهم ونظمهم الخاصة بهم، أخذوا بعضها عن كتبهم، وبعضها وضعه لهم كهّانهم وأحبارهم من عند أنفسهم، وكانت لهم أعيادهم الخاصة بهم، وأيام خاصة، يصومون فيها، كيوم عاشوراء «3» .
ويبدو أنّه ضعفت صلتهم بدينهم الأصيل والتعليمات التي جاءت في صحفهم، وأصبحوا على مرّ الأيام لا يتميّزون عن جيرانهم العرب، إلّا بأثارة من عقيدة التوحيد، وتمييز بين الحلال والحرام، ولمّا جاء الإسلام بعقيدة التوحيد النقيّة الحاسمة كما جاء في القرآن، زال تميّزهم في ذلك أيضا.
وقد بلغوا غاية الإسفاف والتدنّي في الأخلاق، وأصبحوا يستعينون في قضاء ماربهم بأمور خفيّة مدسوسة كالسّحر، ودسّ السّمّ في الطعام، وتسلية النفس بالتنكيت والتوريب «4» ، واستعمال الكلمات الموهمة ذات المعنيين شأن المجتمعات الحاقدة المغلوبة على أمرها، وبراعة اليهود في فنون السّحر
(1) ملخّص من «تاريخ العرب قبل الإسلام» ج 7، ص 23 للدكتور جواد علي.
(2)
تحقّق من المصادر اليهودية أنّ هذه المدارس كانت مركزا للتعليم الديني العالي وكانت كالكليات والجامعات في عصرنا (راجع دائرة المعارف اليهودية) .
(3)
بنو إسرائيل في القرآن والسنة: ص 80- 81.
(4)
التوريب: أن تورّي عن الشيء بالمعارضات والمباحات (لسان العرب والقاموس المحيط) .
والكهانة من الحقائق المسلّمة في التاريخ، وظلّ قادتهم وعلماؤهم يعترفون بذلك بشيء من التيه والافتخار، وأشار إلى ذلك القرآن بقوله: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ
…
الخ [البقرة: 102] ، وقد ظلّ هذا الواقع باقيا إلى عهد الرسالة، يقول المستشرق اليهوديّ الشهير مارجليوث) Margoliouth (المعروف بتحامله على الإسلام وصاحب رسالته في كتابه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وسيأتي في قصّة غزوة خيبر محاولة دسّ السّمّ في شاة مشويّة قدّمت للنبيّ صلى الله عليه وسلم للتخلّص منه، وسلم منه النبيّ صلى الله عليه وسلم ومات بشر بن البراء بن معرور «2» .
وأمّا استخدام الكلمات المعروفة بطريقة خاصة وإرادة معانيها المستهجنة فقد جاء في القرآن: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ [البقرة: 104] . أخرج أبو نعيم في (الدّلائل) عن ابن عباس رضي الله عنه أنّ اليهود كانوا يقولون: «راعنا» سرّا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سبّ قبيح بلسانهم، كانوا يقولون ذلك ويضحكون فيما بينهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية، ونهى المؤمنين سدّا للباب وقطعا للألسنة، وإبعادا عن المشابهة، ومعنى هذه الكلمة عند اليهود اسمع-
D.S.Margoliouths Muhammad and The Rise of Islam ،p. 981. (1)
(2)
رواه البخاري [في كتاب المغازي] ، باب الشاة التي سمّت للنبيّ صلى الله عليه وسلم بخيبر [برقم (4249) ، ومسلم في كتاب السلام، باب السّمّ، برقم (2190) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وأخرجه البخاري في كتاب الطب، باب ما يذكر في سمّ النبي صلى الله عليه وسلم، برقم (5777) ، وأحمد: (2/ 451) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه] .
لا سمعت- وقيل: أرادوا نسبته صلى الله عليه وسلم وحاشاه- إلى «الرّعن» مشتقّا من الرعونة وهي الجهل والحمق، والألف حينئذ لمدّ الصوت «1» .
وروى البخاريّ بسنده عن عروة عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كان اليهود يسلّمون على النبيّ صلى الله عليه وسلم، يقولون:«السّام عليك» «2» ويعنون به الموت، وفي الحديث «لكل داء دواء، إلا السّام» «3» أي: الموت، وفي ذلك نزلت الآية: وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ «4» [المجادلة: 8] .
وابتلوا كذلك بانحطاط خلقيّ جنسيّ، وتورّط فيما لا يليق بمجتمع فاضل متماسك يقوم على شريعة وتعليمات سماويّة، تجلّى ذلك في قصة امرأة من العرب وقعت في سوق بني قينقاع، وقد جلست إلى صائغ بها، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده، إلى ظهرها، فلمّا قامت انكشفت سوءتها فضحكوا منها، فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، وشدّت اليهود على المسلم فقتلوه «5» ، ويبدو أنّ هذه الحادثة لم تكن فريدة من نوعها، ويتعذّر وقوعها في أسواق العرب غالبا.
وكانت معظم معاملاتهم مع غيرهم تقوم على الرهان، وتعاطي الرّبا، وكانت لهم من طبيعة منطقة المدينة الزراعيّة فرصة إلى ذلك، لأنّ الزّرّاع
(1) روح المعاني: للعلامة شهاب الدين محمود الآلوسي البغدادي: ج 1، ص 348- 349.
(2)
رواه البخاري، في كتاب الدعوات [باب الرّفق في الأمر كلّه، برقم (6024) ، ومسلم في كتاب السلام، باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام
…
، برقم (2165) من حديث عائشة رضي الله عنها] .
(3)
مجمع بحار الأنوار: ج 3، ص 155.
(4)
راجع «روح المعاني» ، و «تفسير ابن كثير» .
(5)
سيرة ابن هشام: ج 1؛ ص 48.
عادة يحتاجون إلى اقتراض الأموال لحين الحصاد «1» .
وكانت الرّهون لا تقتصر على الرهائن الماليّة، بل تخطّتها إلى رهن النساء والولدان، وقد جاء في قصّة قتل كعب بن الأشرف النّضري التي رواها الإمام البخاريّ- رحمه الله في صحيحه، أنّه قال له محمد بن مسلمة: قد أردنا أن تسلفنا وسقا «2» أو وسقين، فقال: نعم، ارهنوني، قالوا: أيّ شيء تريد؟! قال: ارهنوني نساءكم، قالوا: كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب؟! قال: فارهنوني أبناءكم، قالوا: كيف نرهنك أبناءنا فيسبّ أحدهم فيقال: رهن بوسق أو وسقين؟! هذا عار علينا، ولكنّا نرهنك اللأمة «3» .
ومن طبيعة هذه الرّهون خصوصا إذا كانت في الأبناء والنساء: نشوء الحقد والكراهة بين الراهنين والمرتهنين، لا سيّما وأنّ العرب اشتهروا بالغيرة الشديدة على نسائهم وشدّة الأنفة.
وقد ترتّب على سيطرة اليهود على الجوانب الاقتصاديّة في المدينة وضواحيها أن قوي نفوذهم الماليّ، وصاروا يتحكّمون في الأسواق تحكّما فاحشا، ويحتكرونها لمصلحتهم ومنفعتهم، فكرههم السواد الأعظم من الناس بسبب أنانيتهم واشتطاطهم في أخذ الرّبا، وحصولهم على غنى وثراء بطرق يأنف العربيّ عن سلوكها والتّعامل بها «4» .
(1) بنو إسرائيل في القرآن والسنة: 79.
(2)
[الوسق: مكيال معلوم، ستّون صاعا، والصّاع: مكيال تكال به الحبوب ونحوها، وهو عند فلّاحي الشام: نصف المدّ الشامي، أي: يعادل (9) لترات] .
(3)
رواه البخاري في كتاب المغازي، باب «قتل كعب بن الأشرف» [برقم (4037) ، ومسلم في كتاب الجهاد، باب قتل كعب بن الأشراف طاغوت اليهود، برقم (1801) ، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه] . وقد سرد القصة ابن هشام باختلاف يسير في «السيرة النبوية» ج 2، ص 51.
(4)
بنو إسرائيل في القرآن والسنة: ص 79.
ولما طبعوا عليه من الجشع، ولسياستهم التوسعيّة، يقول) De -Lacy OLeary (في كتابه «العرب قبل محمد» :
«ساءت العلاقات بين أولئك البدو (المدنيين) «1» واليهود المستعمرين في القرن السابع الميلاديّ، فإنّهم كانوا قد وسّعوا مناطقهم المزروعة إلى مراعي هؤلاء البدو» «2» .
وكانت علاقة اليهود بالأوس والخزرج- سكان المدينة العرب- خاضعة للمنفعة الشخصية والمكاسب الماديّة، فهم يعملون على إثارة الحرب بين الفريقين، متى وجدوا في إثارتها فائدة لهم، كما حصل ذلك في كثير من الحروب التي أنهكت الأوس والخزرج، وكان يهمّهم فقط أن تكون لهم السيطرة المالية على المدينة، وحديثهم عن النبيّ المرتقب شجّع الأوس والخزرج على الدخول في الإسلام «3» .
أمّا لغة اليهود في بلاد العرب، فقد كانت العربية بطبيعة الحال، ولكنّها لم تكن خالصة، بل كانت تشوبها الرّطانة العبريّة، لأنّهم لم يتركوا استعمال اللغة العبرية تركا تاما، بل كانوا يستعملونها في صلواتهم ودراساتهم «4» .
أمّا الجانب الدينيّ والدعويّ فيقول الدكتور إسرائيل ولفنسون:
«لا شكّ أنّه كان في المقدرة اليهوديّة أن تزيد في بسط نفوذها الدينيّ بين
(1) المراد بهم القبائل العربية؛ مثل الأوس والخزرج ومن جاورهم من العرب في ضواحي المدينة.
Arabia Before Mohammad ،London 7291 p. 471. (2)
(3)
مستفاد من كتاب «بنو إسرائيل في القرآن والسنة» للدكتور محمد سيد طنطاوي، ج: 1، ص 73 إلى 101.
(4)
مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول: للأستاذ أحمد إبراهيم الشريف، ص 203.
العرب، حتى تبلغ منزلة أرقى مما كانت عليه لو توافرت عند اليهود النية على نشر الدعوة الدينية بطريقة مباشرة، ولكنّ الذي يعلم تاريخ اليهود يشهد بأنّ الأمة الإسرائيلية لم تمل بوجه عام إلى إرغام الأمم على اعتناق دينها، وأنّ نشر الدعوة الدينيّة من بعض الوجوه محظور على اليهود» «1» .
عجز اليهود كعادتهم أن يكيّفوا أنفسهم ومجتمعهم بالحقائق والواقع والتطوّرات الحديثة، ويفهموا التحدّي الحديث وينتفعوا بالفرصة المتاحة ويدينوا بالإسلام، فيأخذوا مكانهم اللّائق بثقافتهم وعقليتهم وتجاربهم والقوى المودعة فيهم، وذلك مصير كلّ مجتمع يعيش على التاريخ، والإدلال بالنسب والتمنّيات والأحلام المعسولة، ورواسب الماضي والقيادات المفلسة المنهارة.
إنّ اليهود لم يستطيعوا أن يبرزوا وجودهم، ويثبتوا صلاحيتهم وتفوّقهم كأمّة ذات رسالة وكتاب سماويّ، وكورثة الأنبياء السابقين وذرّيتهم، فلم يزعجهم ولم يحرّك ساكنهم ما كان عليه العرب من وثنيّة سخيفة وجاهلية منحطة، ولم يدعوا- على الأقلّ- إلى عقيدة التوحيد التي تميّزوا بها عبر العصور والأجيال، ورغم الانحطاط الخلقيّ ومواضع الضعف فيهم، ولعلّ السبب الرئيسيّ هو عدم ارتياحهم إلى دعوة غير الإسرائيليين إلى دين الأنبياء، بل امتناعهم عن ذلك عبر التاريخ- كما يقول (إسرائيل ولفنسون) وكما قالت السيدة مريم جميلة اليهودية الأمريكية سابقا، والمهتدية إلى الإسلام: ثمّ الإخلاد إلى الراحة والانغماس في الكسب والمعيشة، كما هي طبيعة اليهود.
ولكن ممّا لا شكّ فيه أنّ عددا من العرب المنتمين إلى الأوس والخزرج وغيرهما من القبائل العربية الأصيلة، دانوا باليهودية عن رغبة منهم، أو بتأثير
(1) راجع «اليهود في بلاد العرب» لإسرائيل ولفنسون، ص 72.