الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في قلبها الضعيف المتواني، وجسدها الهامد البارد روحا جديدة، وحرارة جديدة، وهيّأ لجروحها بلسما، ورفعها من حضيض التراب إلى أوج العزّة والسيادة، والثقة والاعتزاز، والاعتداد بالنفس، والاعتماد على الله.
5- الجمع بين الدين والدنيا، وتوحيد الصفوف المتنافرة، والمعسكرات التجارية:
لقد وزّعت الديانات القديمة- خاصّة المسيحية- الحياة الإنسانية في قسمين: قسم للدين، وقسم للدنيا، ووزّعت هذا الكوكب الأرضيّ في معسكرين: معسكر رجال الدين، ومعسكر رجال الدنيا، وما كان هذان المعسكران منفصلين فحسب، بل حال بينهما خليج كبير، ووقف بينهما حاجز سميك، وظلّا متشاكسين متحاربين.
وكان كلّ واحد يعتقد أنّ هناك خصومة وعداء بين الدين والدنيا، فإذا أراد إنسان أن يتصل بأحدهما، لزم عليه أن يقطع صلته بالآخر، بل أن يعلن الحرب عليه، فلا يمكنه- على حدّ قولهم- أن يركب سفينتين في وقت واحد، وأنّه لا سبيل إلى الكفاح الاقتصاديّ ورخائه من غير غفلة عن الدار الآخرة، وإعراض عن فاطر السموات والأرض، ولا بقاء لحكم أو سلطة من غير إهمال التعاليم الدينيّة والخلقيّة، والتجرّد عن خشية الله، ولا إمكان للتديّن من غير رهبانيّة، وقطع الصلة عن الدنيا وما فيها.
المعلوم المقرّر أنّ الإنسان محبّ لليسر، مجبول عليه، وكلّ فكرة دينيّة لا تسمح بالاستمتاع المباح، والنهضة، والعزّة، والحصول على القوة والحكم، لا تصلح للنوع البشريّ في الغالب، إنّه صراع مع الفطرة
- المتطرّفين أكبر نصيب في ذلك.
السليمة، وكبت للغرائز الطبيعيّة البريئة في الإنسان، وكانت نتيجة هذا الصراع أنّ العدد الأكبر من أصحاب الفطنة والذكاء، والكفاءات العلميّة، آثر الدّنيا على الدين، ورضي بها- كحاجة اجتماعيّة، وواقع حيّ- واطمأنّ إليها، وعكف على تحسين هذه الحياة، والحصول على ملذّاتها، ولم يبق له أمل في الرقيّ الدينيّ، والتقدّم الروحيّ.
وأكثر الذين هجروا الدين بصورة عامّة، هجروه على أساس التناقض الذي حسبوه حقيقة بديهية مسلّمة، وثار البلاط الذي كان يتزعّم الحكم الدنيويّ على الكنيسة التي كانت تمثّل الدين، وتجرّد عن سائر قيوده، فصارت الحكومات- بطبيعة المنطق- كفيل هائج مائج، تخلّص من سلاسله وقيوده، أو كجمل هائم، حبله على غاربه، هذا الانفصال النكد بين الدين والدنيا، وذلك العداء المشؤوم بين «رجال الدين ورجال الدنيا» فتح الباب على مصراعيه للإلحاد واللادينية، وكانت فريسته الغرب أولا، والأمم التي دانت له في الفكر والعلم والثقافة، أو عاشت تحت رايته ثانيا.
وزاد الطّين بلّة دعاة المسيحيّة المتطرّفون والمفرطون، الذين كانوا يعتبرون الفطرة البشريّة أكبر عائق في التزكية الروحية والاتصال بالسماء، والذين لم يدّخروا وسعا في إذلالها وتعذيبها بأنواع من الأحكام القاسية والتعاليم الجائرة «1» وقدّموا صورة وحشيّة كالحة مفزعة للدين، تقشعرّ منها جلود الذين آمنوا، وآل الأمر في نهاية الشوط إلى تقلّص ظلّ الدين، وبلغت عبادة النفس والهوى- في أوسع معناها- إلى ذروتها، وأصبحت الدّنيا تتأرجح بين طرفي نقيض، ثمّ سقطت أخيرا بضعف الوازع الدينيّ، أو فقدان
(1) انظر «تاريخ أخلاق أوربة» ، ج 2، لمؤلّفه ليكي.
الحاسّة الدينية في هوّة عميقة من اللادينية، والفوضى الخلقيّة العامة «1» .
وأعظم هديّة للبعثة المحمديّة، ومنّتها العظيمة نداؤها الذي دوّت به الآفاق أنّ أساس الأعمال والأخلاق، هو الهدف الذي ينشده المرء، والذي عبّر عنه الشارع بلفظ مفرد بسيط، ولكنّه واسع عميق «النية» ، فقال:«إنّما الأعمال بالنّيات، وإنّما لكلّ امرىء ما نوى» «2» .
وإنّ كلّ عمل يقوم به الإنسان ابتغاء مرضاة الله، وبدافع الإخلاص، وامتثال أمره وطاعته، هو وسيلة إلى التقرّب إلى الله، والوصول إلى أعلى مراتب اليقين، ودرجات الإيمان، وهو دين خالص لا تشوبه شائبة، ولو كان هذا العمل جهادا وقتالا وحكما وإدارة، وتمتعا بطيّبات الأرض، وتحقيقا لمطالب النفس، وسعيا لطلب الرزق والوظيفة، واستمتاعا بالتسلية البريئة المباحة، والحياة العائلية والزوجية.
وكلّ عبادة وخدمة دينية- بالعكس من ذلك- تعتبر دنيا إذا تجرّدت من طلب رضا الله سبحانه، والخضوع لأوامره ونواهيه، وغشيتها غاشية من الغافلة، ونسيان الآخرة، ولو كانت صلوات مكتوبة، ولو كانت هجرة
(1) اقرأ للتفصيل كتاب «الصراع بين الدين والعلم) Conflict Between Religion) Science ( «لدرابر) Draper (أو «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين» الباب الرابع «العصر الأوربي» .
(2)
الحديث الصحيح الذي بلغ عند بعض المحدثين حد الاستفاضة والشهرة، والذي افتتح به الإمام البخاري كتابه «الجامع الصحيح» ، وتمام الحديث:«إنّما الأعمال بالنيات، وإنّما لكل امرىء ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه» (حديث متفق عليه [أخرجه البخاري في كتاب بدء الوحي، برقم (1) ، وأبو داود في كتاب الطلاق، باب في ما عني به الطلاق، برقم (2201) ، وابن ماجه في أبواب الزهد، باب النية، برقم (4227) وغيرهم من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه] .
وجهادا وذكرا وتسبيحا وقتالا في سبيل الله، ولا يثاب عليه العامل، والعالم، والمجاهد، والداعي، بل قد تعود تلك الأعمال والخدمات عليه وبالا، وتكون بينه وبين الله حجابا «1» .
إنّ المأثرة الخامسة من ماثر سيّدنا محمد صلى الله عليه وسلم أنّه ملأ هذه الفجوة الواسعة بين الدين والدّنيا، وجعل هذين المتنافرين المتباعدين، اللذين عاشا في خصام دائم، وعداء سافر، وحقد مستمرّ، يتعانقان في إلف وودّ، ويتعايشان في سلام ووئام.
إنّه صلى الله عليه وسلم رسول الوحدة، وبشير ونذير في الوقت ذاته، إنّه أخذ النوع البشريّ من المعسكرين المتحاربين إلى جبهة موحّدة من الإيمان والاحتساب، والعطف على البشريّة، وابتغاء رضوان الله، وعلّمنا هذا الدعاء الجامع، المعجز الواسع: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ [البقرة: 201] .
إنّه أعلن بالآية القرآنية: إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الأنعام: 162] أنّ حياة المؤمن ليست مجموع وحدات متفرّقة مضادّة، بل هي وحدة تسيطر عليها روح العبادة والاحتساب، ويقودها الإيمان بالله والإسلام لأوامره، وهي تشمل شعب الحياة كلّها، وميادين الكفاح كلّها، وأصناف العمل كلّها، إذا تحقّق الإخلاص، وصحّت النيّة، وأريد بها وجه الله، وكانت على المنهج الصحيح الذي جاء به الأنبياء.
فدلّ ذلك على أنّه رسول الوحدة والوئام والانسجام بالكمال والتمام، وأنّه البشير والنذير في نفس الوقت، إنّه قضى على نظرية الانفصال بين الدين
(1) كتب الحديث زاخرة بالآثار الدالة على ذلك. انظر أبواب الإخلاص، والنية، والإيمان، والاحتساب.