الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ب- العالم الجديد في حساب البعثة المحمدية ومنحها
الحقيقة التي لا مراء فيها أنّ هذا الدور الذي نعيشه، وما يليه من الأدوار التاريخيّة القادمة، كلّها في حساب البعثة المحمديّة، ودعوته العامّة الخالدة، وجهوده المشكورة المثمرة، لأنّه رفع- أولا- هذا السيف المصلت على رقاب الإنسانيّة الذي كاد يقضي عليها، ثمّ أغناها بمنح غالية ومعطيات خالدة، وهدايا طريفة جديدة، بعث فيها الحيويّة والنشاط، والهمّة والطموح، والعزة والكرامة، والهدف الصحيح، والغاية النبيلة، واستهلّ بفضل هذه المنح والمعطيات- عهد جديد من السموّ الإنسانيّ، والثقافة والمدنيّة، والربانيّة والإخلاص، وإنشاء الإنسان وتكوينه الخلقيّ والاجتماعيّ.
منح البعثة المحمديّة الستة، وأثرها في تاريخ الإنسان:
ونذكر الآن- على سبيل المثال لا الحصر- ستة من معطياته الهامّة، ومنحه الأساسيّة الغالية التي كان لها الدور الأكبر في توجيه النوع البشريّ، وإصلاحه وإرشاده، ونهضته وازدهاره والتي خلقت عالما مشرقا جديدا لا يشبه العالم الشاحب القديم في شيء.
1- عقيدة التوحيد النقية الواضحة:
مأثرته الأولى صلى الله عليه وسلم أنّه منح الإنسانية عقيدة التوحيد الصافية الغالية: فهي عقيدة ثائرة معجزة، متدفّقة بالقوة والحياة، مقلبة للأوضاع، مدمرة للآلهة الباطلة، لم تنل ولن تنال الإنسانيّة مثلها إلى يوم القيامة.
هذا الإنسان الذي يحمل دعاوى فارغة، ومزاعم جوفاء من الشعر والفلسفة والسياسة والاجتماع، والذي استعبد الأمم والبلاد مرارا كثيرة، والذي حوّل الأحجار الصمّاء أزهارا عابقة فيحاء، وفجّر الأنهار من بطون الجبال، والذي ادّعى الرّبوبيّة أحيانا، هذا الإنسان كان يسجد لأشياء تافهة لا تضرّ ولا تنفع، ولا تعطي ولا تمنع: وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [الحج: 73] .
وكان يركع أمام أشياء صنعها بنفسه، ويخافها، ويرجو منها الخير، إنّه لم يخرّ ساجدا للجبال والأنهار، والأشجار والحيوانات، والأرواح والشياطين، وسائر مظاهر الطبيعة فحسب، بل سجد للحشرات والديدان أيضا، وقضى حياته كلّها بين هواجس ووساوس وبين أخيلة وأوهام، وأمان وأحلام، كانت نتيجته الطبيعيّة الجبن والوهن، والفوضى الفكريّة، والقلق النفسيّ وفقدان الثقة، وعدم الاستقرار.
فأغناه صلى الله عليه وسلم بعقيدة صافية نقيّة سهلة سائغة، حافزة للهمم، باعثة للحياة، فتخلّص من كلّ خوف ووجل، وصار لا يخاف أحدا إلا الله، وعلم علم اليقين، أنّه وحده هو الضارّ والنافع، والمعطي والمانع، وأنّه وحده الكفيل لحاجات البشر.
فتغيّر العالم كلّه في نظره بهذه المعرفة الجديدة، والاكتشاف الجديد، وصار مصونا عن كلّ نوع من العبوديّة والرقّ، وعن كلّ رجاء وخوف من المخلوق، وعن كلّ ما يشتّت ويشوّش الأفكار، فقد شعر بوحدة في هذه الكثرة، واعتبر نفسه أشرف خلق الله، وسيد هذه الأرض، وخليفة الله فيها، يطيع ربّه وخالقه، وينفّذ أوامره، ويحقّق بذلك هذا الشرف الإنسانيّ العظيم، والعظمة الإنسانيّة الخالدة التي حرمتها الدّنيا منذ زمن بعيد.