الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ب «تبوك» بضع عشرة ليلة، ثمّ انصرف قافلا إلى المدينة «1» .
في جنازة مسلم مسكين:
ومات عبد الله ذو البجادين في «تبوك» ، وكان ينازع إلى الإسلام فيمنعه قومه من ذلك، ويضيّقون عليه، حتّى تركوه في بجاد «2» ليس عليه غيره، فهرب منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمّا كان قريبا منه، شقّ بجاده باثنين، فاتّزر بواحد، واشتمل عليه، ثمّ أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له:«ذو البجادين» ، ولمّا مات في تبوك شيّعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر في ظلام الليل، وفي يد بعضهم مشعل، يسيرون في ضوئه، وقد حفروا له، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرته، وأبو بكر وعمر يدلّيانه إليه، وهو يقول:«أدنيا إليّ أخاكما» فدلّياه إليه، فلمّا هيّأه لشقه، قال:«اللهم! إنّي أمسيت راضيا عنه، فارض عنه» ، قال عبد الله بن مسعود: يا ليتني كنت صاحب الحفرة «3» .
ابتلاء كعب بن مالك ونجاحه فيه:
وكان من بين من تخلّف عن هذه الغزوة من غير شكّ ولا ارتياب، كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أميّة، وكانوا من السابقين الأولين، ولهم حسن بلاء في الإسلام، وكان مرارة بن الربيع، وهلال بن أميّة ممن شهد بدرا، ولم يكن التخلف عن الغزوات من خلقهم وعادتهم،
(1) المصدر السابق: ج 2، ص 527.
(2)
[البجاد، وجمعه البجد: هو الكساء الغليظ، ومنه تسمية رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عبد نهم ذا البجادين، لأنّه حين أراد المصير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعت أمّه بجادا لها قطعتين فارتدى بإحداهما وائتزر بالآخرى (النهاية: 1/ 96) ] .
(3)
سيرة ابن هشام: ج 2، ص 527- 528.
ولم يكن ذلك إلّا من حكمة إلهيّة، وتمحيصا لأنفسهم، وتربية للمسلمين، وإنّما هو التسويف، وضعف الإرادة، والاعتماد الزائد على الوسائل الموجودة وعدم الجدّ والإسراع في الأمر، وكم جنى ذلك على أناس لم يكونوا أقلّ من إخوانهم إيمانا وحبا لله ولرسوله، وذلك ما عبّر عنه ثالث ثلاثتهم كعب بن مالك بقوله:
«فطفقت أغدو لكي أتجهّز معهم، فأرجع ولم أقض شيئا.. فأقول في نفسي، أنا قادر عليه، ولم يزل يتمادى بي، حتّى اشتدّ الجدّ، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، ولم أقض من جهازي شيئا، فقلت: أتجهّز بعده بيوم أو يومين، ثمّ ألحقهم، فغدوت- بعد أن فصلوا- لأتجهّز فرجعت ولم أقض شيئا، ثمّ غدوت فرجعت فلم أقض شيئا.
فلم يزل بي حتّى أسرعوا، وتفارط الغزو، وهممت أن أرتحل فأدركهم، وليتني فعلت، فلم يقدّر لي ذلك» «1» .
وقد امتحن الله إيمان هؤلاء الثلاثة، ومدى حبّهم للرسول صلى الله عليه وسلم ووفائهم للإسلام، والبقاء عليه في السرّاء والضرّاء، وإكرام الناس وجفوتهم، وفي حال إقبال رسول الله صلى الله عليه وسلم وإعراضه امتحانا قلّ نظيره في تاريخ المجتمعات
(1) أخرجه البخاري، في كتاب المغازي [باب حديث كعب بن مالك
…
، برقم (4418) ، ومسلم في كتاب التوبة، باب حديث توبة كعب بن مالك، برقم (2769) ، وأبو داود في كتاب الإيمان والنذور، باب فيمن نذر أن يتصدّق بماله، برقم (3321) ، والنّسائي في الطلاق، باب الحقي بأهلك..، برقم (3451) و (3452) ، وعبد الرزاق في المصنّف، برقم (9744) ، وابن أبي شيبة في المصنّف، برقم (18853) ، وابن هشام في السيرة (2/ 531) ، وابن جرير في التفسير (11/ 58) ، وابن كثير في السيرة (4/ 42- 48) ، والبيهقي في دلائل النبوة (5/ 273- 279) وغيرهم من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه] .
البشريّة التي تقوم على أساس الإيمان والعقيدة والحبّ والعاطفة.
وقد صدقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كذب الناس، وشهدوا على أنفسهم، حين برّأها المنافقون.
يقول كعب بن مالك في حديثه البليغ الطويل:
«جاءه المخلّفون، فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلا، فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم، وبايعهم واستغفر لهم، ووكّل سرائرهم إلى الله، فجئته وسلّمت عليه، فلمّا سلّمت عليه، تبسّم تبسّم المغضب، ثمّ قال: تعال، فجئت أمشي، حتّى جلست بين يديه فقال لي: ما خلّفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك.
فقلت: بلى والله؟ إنّي والله لو جلست عند غيرك من أهل الدّنيا، لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيت جدلا، ولكنّي والله لقد علمت لئن حدّثتك اليوم حديث كذب ترضى به عنّي، ليوشكنّ الله أن يسخطك عليّ، ولئن حدّثتك حديث صدق تجد عليّ فيه، إنّي لأرجو فيه عفو الله، والله ما كان لي من عذر، لا والله ما كنت أقوى ولا أيسر منّي حين تخلّفت عنك» .
وجاءت الساعة الرهيبة، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامهم، وما كان من المسلمين إلا السّمع والطاعة، فاجتنبهم الناس وتغيّروا لهم، حتّى تنكّرت في نفوسهم الأرض، فما هي التي يعرفونها، ولبثوا على ذلك خمسين ليلة، فأمّا مرارة بن الرّبيع وهلال بن أميّة، فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأمّا كعب بن مالك، فكان أشبّ الثلاثة وأجلدهم، وكان يخرج فيشهد الصلاة مع المسلمين، ويطوف في الأسواق، ولا يكلّمه أحد «1» .
(1) مقتبس من حديث كعب بن مالك نصه وهو يصور الحال ويذكر القصة [قد سبق تخريجه قبل-
وكلّ ذلك لم يؤثّر في رابطة الحبّ والولاء، التي كانت تربطه برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يؤثّر كذلك في عطف رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه ورأفته به، بل لم يزده هذا العتاب إلّا رسوخا في المحبة، ولوعة، وجوى، يقول:
فتنكّرت له الدّنيا وأعرض عنه من كانت له دالّة عليه، يقول:«حتّى إذا طال عليّ ذلك من جفوة النّاس، مشيت حتّى تسوّرت جدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمّي وأحبّ الناس إليّ، فسلّمت عليه، فو الله ما ردّ عليّ السلام، فقلت: يا أبا قتادة! أنشدك بالله هل تعلمني أحبّ الله ورسوله؟ فسكت فعدت له، فنشدته، فسكت، فقال: الله ورسوله أعلم، ففاضت عيناي، وتولّيت حتّى تسوّرت الجدار» «1» .
ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل تعدّى إلى أزواج هؤلاء الثلاثة، فأمروا أن يعتزلوهنّ، ففعلوا.
وجاءت أدقّ مرحلة من مراحل هذا الامتحان للحبّ والوفاء، والثبات والاستقامة، وذلك حين خطب ودّه ملك غسان، الذي كانت منادمته وحضور مجلسه شرفا يتنافس فيه المتنافسون، ويتغنّى به شعراء العرب سنين طوالا «2» ، فجاءه- وهو في ضيق النفس، وجفوة النّاس، وإعراض
- قليل] .
(1)
حديث كعب بن مالك في صحيح البخاري [قد سبق تخريجه قبل قليل في صفحة (492) ] .
(2)
اقرأ قصيدة حسان بن ثابت الأنصاري في مدح آل جفنة، يقول فيها:[من الكامل]
لله درّ عصابة نادمتهم
…
يوما بجلّق في الزمان الأوّل
-