الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فلمّا سمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالرحيل، لئلا ينشغل الناس بهذه الفتنة، ويجد الشيطان سبيلا إلى نفوسهم، وذلك في ساعة لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتحل فيها، فارتحل الناس.
ومشى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس يومهم ذلك حتّى أمسى، وليلتهم حتّى أصبح، وصدر يومهم ذلك، حتّى آذتهم الشمس، ثم نزل بالناس فلم يلبثوا أن وجدوا مسّ الأرض، فوقعوا نياما.
وقدم عبد الله بن عبد الله بن أبيّ الناس، حتّى وقف لأبيه على الطريق، فلمّا رآه أناخ به، وقال: لا أفارقك حتّى تزعم أنّك الذليل، ومحمد العزيز، فمرّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«دعه، فلعمري لنحسننّ صحبته ما دام بين أظهرنا» «1» .
قصّة الإفك:
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا، أقرع بين نسائه، فأيّتهن خرج سهمها خرج بها معه، وخرج سهم عائشة بنت أبي بكر زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق، فخرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلمّا فرغ من سفره ذلك توجّه قافلا، حتّى إذا كان قريبا من المدينة نزل منزلا، فبات به بعض الليل، ثمّ أذّن بالرحيل، وخرجت عائشة لبعض حاجتها، وفي عنقها عقد لها، فانسلّ من
(1) طبقات ابن سعد: ج 2، ق 1، ص 46، طبع ليدن. [وقد وردت أخبار محاولة المنافقين في إثارة الفتنة بين المسلمين لما حصل بين الرجل الأنصاري والمهاجرين فيما أخرجه البخاري في كتاب التفسير، باب (يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل) برقم (4907) والترمذي في أبواب تفسير القرآن، تفسير سورة المنافقين، برقم (3315) ، وأحمد في المسند (2/ 392- 393) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما] .
حيث لا تشعر، فلمّا رجعت إلى الرّحل فقدت العقد فذهبت تبحث عنه وقد أخذ الناس في الرحيل، فجاء القوم الذين كانوا يرحّلون لها البعير، فأخذوا الهودج، وهم يظنّون أنّها فيه، وكانت فتاة صغيرة السنّ، خفيفة اللحم، فلم ينتبهوا لخفّتها، ولم يشكّوا أنّها فيه، ورجعت عائشة إلى العسكر وما فيه داع ولا مجيب، وقد انطلق الناس، فتلففت بجلبابها، واضطجعت في مكانها.
وبينما هي كذلك إذ مرّ بها صفوان بن المعطّل السّلمي، وقد كان تخلّف عن العسكر لبعض حاجته، فلمّا رآها استرجع، وقال: ظعينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قرّب البعير واستأخر، فركبت وأخذ برأس البعير، وانطلق سريعا يطلب الناس فأدركهم، وقد نزلوا، ولحقت بالركب، فلم يرع الناس شيء، فكان مما ألفوه في حياة البادية ومسير القوافل، وكان حفظ الذمار والتعفف عن مثل هذه الخسائس، من الأعراف العربية التي كانوا يحافظون عليها في الجاهليّة والإسلام «1» ، فيقول الشاعر الجاهليّ:[من الكامل]
وأغضّ طرفي إن بدت لي جارتي
…
حتى يواري جارتي مأواها «2»
(1) ومن أمثلته ما حكته أم سلمة، وقد حال قومها بينها وبين زوجها أبي سلمة، فلم يدعوها تهاجر معه إلى المدينة، فكانت تخرج كل غداة إلى الأبطح فما تزال تبكي حتى تمسي، سنة أو قريبا منها، حتى رقّوا لها وقالوا: الحقي بزوجك إن شئت، فارتحلت بعيرها وما معها أحد، فلقيها عثمان بن طلحة الداري فرثى لها، فأخذ بخطام البعير، فانطلق معها إلى المدينة، قالت أم سلمة: والله ما صحبت رجلا من العرب قطّ أرى أنه كان أكرم منه، كان إذا بلغ المنزل أناخ بي ثم استأخر عني حتى إذا نزلت استأخر ببعيري فحط عنه، ثم قيده في الشجر.. إلى أن قالت: فلم يزل يصنع ذلك بي حتى أقدمني المدينة. (سيرة ابن كثير، ج 2، ص 215- 217) وهذا قبل أن يسلم عثمان بن طلحة، فكان صفوان بن المعطّل السّلمي أحقّ بهذا الخلق والنزاهة، فقد أسلم قديما وصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(2)
ديوان الحماسة.
وقد كان الصحابة- رضي الله عنهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم كالأبناء للآباء، وأزواجه أمهاتهم، وكان أحبّ إليهم من والدهم وولدهم والناس أجمعين، وقد عرف صفوان بن المعطّل بالدين والصلاح والعفّة والحياء، ذكر أنّه لم يكن له أرب في النساء.
وكانت القضية لا تسترعي انتباها، ولكنّ عبد الله بن أبيّ تبنّى هذه القضية، وتحدّث بها بعد عودته إلى المدينة، وشايعه أصحابه من المنافقين، واهتبلوها لإثارة الفتنة بين المسلمين وإضعاف الصّلة التي تربطهم بمقام صاحب الرسالة العظمى ومن يتصل به من أهل، وإضعاف ثقة المسلمين بعضهم بأمانة بعض، وتورّط في هذه المكيدة بضع من المسلمين الذين أصبحوا فريسة التشهي للحديث والترديد لكلّ ما قيل من غير تمحيص «1» .
فلمّا سمعت بذلك عائشة وفوجئت به في المدينة فزعت له، وحزنت حزنا شديدا، لا يرقأ لها دمع ولا تكتحل بنوم، وكبر على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرف مصدره، فقام من يومه، فاستعذر من عبد الله بن أبيّ، وهو على المنبر، فقال:«يا معشر المسلمين! من يعذرني من رجل قد بلغني عنه أذاه في أهلي، والله ما علمت على أهلي إلّا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت فيه إلا خيرا، وما يدخل على أهلي إلا معي» ، فقام أسيد بن خضير، فقال: أنا أعذرك منه، إن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، وكان عبد الله بن أبيّ من الخزرج، فاحتملت بعضهم الحميّة، وثار الحيّان، وكاد الشيطان أن يلعب بهم لولا حكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحلمه.
(1) وذلك ما أشار الله تعالى إليه بقوله: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النور: 15] .
هذا، والصّدّيقة بنت الصدّيق موقنة ببراءتها، عزيزة النفس، مليئة بالثقة والاعتزاز، شأن الأبرياء الذين لا ترتقي إليهم شبهة، ولا تلتصق بهم لوثة، تعلم أنّ الله سيبرّئها، ويبعد كل ظنّة وتهمة عن ساحة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنّها لم تكن تظنّ أنّ الله منزل في شأنها وحيا يتلى، ويجعله كلمة باقية في أعقاب هذه الأمّة، ولكنّها ما تلبّثت طويلا أن أنزل الله على رسوله في شأنها القرآن، وأنزل براءتها من فوق سبع سموات، فقال إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ
[النور: 11- 12] .
وبذلك انطفأت نار الفتنة، وانحسمت مادة الفساد، وخزي الشيطان، وكأن لم يكن شيء، فتشاغل المسلمون بما أمرهم الله به ورسوله، وبما يعود عليهم وعلى الإنسانيّة بالخير والسعادة «1» .
(1) القصة مقتبسة من سيرة ابن هشام: ج 2، ص 289- 302، وجاءت قصة الإفك من حديث عائشة الذي رواه البخاري [في كتاب المغازي، باب حديث الإفك، برقم (4141) ، ومسلم في كتاب التوبة، باب في حديث الإفك..، برقم (2770) ، والترمذي في أبواب تفسير القرآن، تفسير سورة النور، برقم (3180) وأحمد في المسند (6/ 59) ] .