الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال: «نعم» ! «1» .
عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم:
ولمّا رجع إلى المدينة، جاءه رجل من قريش اسمه أبو بصير عتبة بن أسيد، فأرسلوا في طلبه رجلين، وقالوا: العهد الذي جعلت لنا، فدفعه إلى الرّجلين، فخرجا به، فخرج هاربا منهم، حتّى أتى سيف البحر، وتفلّت منهم أبو جندل بن سهيل، فلحق بأبي بصير، فلا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير، حتّى اجتمعت منهم عصابة، لا يسمعون بعير لقريش خرجت إلى الشّام إلّا اعترضوا لها، فقتلوهم، وأخذوا أموالهم، فأرسلت قريش إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم لما أرسل إليهم، فمن أتاه منهم فهو آمن «2» .
كيف تحوّل الصلح إلى الفتح والنصر
؟
ودلّت الحوادث الأخيرة على أنّ صلح الحديبية الذي تنازل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لقبول كلّ ما ألحّت عليه قريش، ورأوا فيه انتصارا لهم ومكسبا، وتحمّله المسلمون في قوّة إيمانهم، وشدّة طاعتهم للرسول، كان فتح باب جديد لانتصار الإسلام، وانتشاره في جزيرة العرب بسرعة لم تسبق، وكان بابا إلى فتح مكّة، ودعوة ملوك العالم كقيصر وكسرى والمقوقس والنجاشيّ وأمراء العرب، وصدق الله العظيم:
(1) راجع صحيح مسلم، كتاب الجهاد، باب صلح الحديبية، [رقم الحديث (1786) ، والترمذي، أبواب تفسير القرآن، تفسير سورة الفتح، رقم (3263) حديث أنس بن مالك رضي الله عنه] .
(2)
زاد المعاد: ج 1، ص 384.
وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة: 216] .
كان من مكاسب هذا الصّلح اعتراف قريش بمكانة المسلمين، وتسليمهم لهم كفريق قويّ كريم، تبرم معه المعاهدات، ويتّفق معه على مفاوضات، ثمّ كان من أفضل ثمار هذا الصلح الهدنة، التي استراح فيها المسلمون عن الحروب التي لا أوّل لها ولا آخر، والتي شغلتهم واستهلكت قوّتهم، فاستطاعوا في هذه الفترة السلمية، أن يقوموا بدعوة الإسلام، في ظلّ الأمن والسلام، وفي جوّ من الهدوء والسكينة.
وأتاح هذا الصلح الفرصة للمسلمين والمشركين على السواء لأن يختلطوا بعضهم ببعض، فيطلع المشركون على محاسن الإسلام، وما صنع من عجائب ومعجزات في تهذيب الأخلاق، وتزكية النفوس، وتطهير العقول والقلوب، من ألواث الشرك والوثنية، والعداء والخصومة، والضراوة بالدماء، والولوع بالحرب في بني جلدتهم الذين لا يختلفون عنهم في نسب وبيئة ولغة.
ولم يخف عليهم- رغم عنادهم وجحودهم- أن تعاليم الإسلام وحدها وصحبة النّبيّ صلى الله عليه وسلم هي التي ميّزتهم عن أقرانهم وبني أعمامهم، وجعلت منهم أمة غير أمة، ونمطا من أنماط البشرية غير النمط القديم، فكان في ذلك باعث قويّ على تفهّم الإسلام والاعتراف بتأثيره.
فلم يمض على هذا الصّلح عام كامل حتّى دخل في الإسلام من العرب أكثر من الذين دخلوا فيه خلال خمس عشرة سنة- ومكّة لم تفتح بعد-.
يقول الإمام ابن شهاب الزّهريّ (ت 124 هـ) :
«فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه، إنّما كان القتال حيث التقى الناس، فلمّا كانت الهدنة ووضعت الحرب أوزارها، وأمن الناس،
وكلّم الناس بعضهم بعضا، والتقوا فتفاوضوا في الحديث، والمنازعة، فلم يكلّم أحد بالإسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه، ولقد دخل في تينك السنتين مثل من كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر» «1» .
قال ابن هشام: «والدليل على قول الزهريّ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خرج إلى الحديبية في ألف وأربعمئة، في قول جابر بن عبد الله، ثمّ خرج في عام فتح مكّة بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف» «2» .
واستفاد بهذه الهدنة المستضعفون في مكّة، وقد أسلم على يد أبي جندل عدد كبير من أبناء قريش في مكّة، وضاقت قريش ذرعا بهذا الداعي إلى الإسلام، وانتشار الإسلام في مكّة.
ولحقوا بأبي بصير، وصار مركز دعوة وقوة للإسلام، وتكلّمت في شأنهم قريش، وسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلحقهم به في المدينة، ففعل، ونجوا من الضيق الذي كانوا فيه بمكّة، وكان كلّ ذلك من حسنات هذا الصلح وفوائد هذه الهدنة «3» .
وكان من فوائد الموقف المسالم الذي وقفه رسول الله صلى الله عليه وسلم وما بدا منه من زهد في الحرب، ورغبة في الصلح، وحلم وأناة أن تغيّرت نظرة القبائل العربية التي لم تدخل في الإسلام بعد، إلى الدين الجديد، والداعي إليه، ونشأ في نفوسهم إجلال للإسلام وتقدير له لم يكن من قبل، وكانت فائدة دعويّة لا يستهان بقيمتها وإن لم تكن مقصودة، سعى إليها الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون.
(1) سيرة ابن هشام: ج 2، ص 322.
(2)
المصدر السابق: ج 2، ص 322.
(3)
راجع «زاد المعاد» : ج 1، ص 388- 389.