الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لماذا بعث النّبيّ صلى الله عليه وسلم في جزيرة العرب
قد اقتضت حكمة الله أن تطلع هذه الشمس التي تبدد الظلام، وتملأ الدّنيا نورا وهداية، من أفق جزيرة العرب الذي كان أشدّ ظلاما، وكان أشدّ حاجة إلى هذا النور الساطع.
وقد اختار الله العرب، ليتلقّوا هذه الدعوة أولا، ثمّ يبلّغوها إلى أبعد أنحاء العالم، لأنّ ألواح قلوبهم كانت صافية، لم تكتب عليها كتابات دقيقة عميقة يصعب محوها وإزالتها، شأن الروم، والفرس، وأهل الهند، الذين كانوا يتيهون ويزهون بعلومهم وآدابهم الراقية، ومدنيّاتهم الزاهية، وبفلسفاتهم الواسعة، فكانت عندهم عقد نفسية وفكرية، لم يكن من السّهل حلّها.
أمّا العرب فلم تكن على ألواح قلوبهم إلا كتابات بسيطة خطّتها يد الجهل والبداوة، ومن السّهل الميسور محوها وغسلها، ورسم نقوش جديدة مكانها، وبالتعبير العلميّ المتأخّر: كانوا أصحاب «الجهل البسيط» «1» الذي تسهل مداواته، بينما كانت الأمم المتمدّنة الراقية في هذا العصر مصابة ب «الجهل المركّب» «2» الذي تصعب مداواته وإزالته.
وكانوا على الفطرة، وأصحاب إرادة قوية، إذا التوى عليهم فهم الحقّ
(1)[الجهل البسيط: هو عدم العلم كما من شأنه أن يكون عالما] .
(2)
[الجهل المركّب: هو عبارة عن اعتقاد جازم غير مطابق للواقع] .
حاربوه، وإذا انكشف الغطاء عن عيونهم، أحبّوه واحتضنوه، واستماتوا في سبيله.
يعبّر عن هذه النفسية العربية خير تعبير، ما قاله سهيل بن عمرو، حين سمع ما جاء في كتاب الصّلح في الحديبيّة «هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله لو كنّا نعلم أنّك رسول الله، ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك» «1» ، وما قاله عكرمة بن أبي جهل حين حمي الوطيس في معركة اليرموك، واشتدّ عليه الضغط:«قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم في كلّ موطن وأفرّ منكم اليوم؟!» ثمّ نادى: من يبايع على الموت، فبايعه من بايعه، ثمّ لم يزل يقاتل حتى أثبت جراحا وقتل شهيدا» «2» .
وكانوا واقعيّين جادّين، أصحاب صراحة وصرامة، لا يخدعون غيرهم ولا أنفسهم، اعتادوا القول السديد، والعزم الأكيد، يدلّ على ذلك دلالة واضحة ما روي عن قصة بيعة العقبة الثانية، التي تلتها الهجرة إلى المدينة، قال ابن إسحاق:
«لمّا اجتمعت الأوس والخزرج في العقبة ليبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال العبّاس بن عبادة الخزرجيّ: «يا معشر الخزرج! هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟
قالوا: نعم.
قال: إنّكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم
(1)[أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية، برقم (4178) و (4179) ، وأبو داود في كتاب الجهاد، باب في صلح العدو برقم (2765) ، والبيهقي في السنن (5/ 215) والدلائل (4/ 99- 100) ] .
(2)
راجع «تاريخ الطبري» ج 4، ص 36.
ترون أنّكم إذا نهكت أموالكم مصيبة، وأشرافكم قتل، أسلمتموه، فمن الآن، فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنّكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة «1» الأموال وقتل الأشراف فخذوه، فهو والله خير الدّنيا والآخرة.
قالوا: فإنّا نأخذه على مصيبة الأموال، وقتل الأشراف، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفّينا؟
قال: الجنّة.
قالوا: ابسط يدك، فبسط يده فبايعوه» «2» .
وقد صدقوا ما عاهدوا الله عليه وبايعوا رسوله، وقد قال سعد بن معاذ «3» على لسانهم يوم بدر:
«فو الّذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد «4» لفعلنا» «5» .
وقد تجلّى هذا الصّدق في العزم، والجدّ في العمل، وروح الامتثال للحقّ، في الجملة التي تؤثر عن عقبة بن نافع القائد العربيّ المسلم، فقد خاض البحر الأطلسيّ بجيشه وخيله، ثمّ قال: «يا ربّ لولا هذا البحر
(1) نهكة الأموال: أي نقصها.
(2)
سيرة ابن هشام؛ القسم الأول، ص 446، (طبع مصطفى البابي الحلبي الطبعة الثانية) .
(3)
كذا في الأصل، وفي صحيح مسلم (سعد بن عبادة) .
(4)
[برك الغماد: قال ياقوت: هو أقصى حجر اليمن. والبرك: حجارة مثل حجارة الحرة خشنة، يصعب المسلك عليها] .
(5)
زاد المعاد: ج: 1، ص: 342- 343. سيرة ابن هشام: ج: 1، ص: 615، والقصة في الصحيحين [أخرجه مسلم في كتاب الجهاد، باب غزوة بدر، برقم (1779) ] .
لمضيت في البلاد مجاهدا في سبيلك» «1» .
أمّا اليونان والرّومان، وأهل إيران، فقد اعتادوا مجاراة الأوضاع، ومسايرة الزمان، لا يهيجهم ظلم، ولا يستهويهم حقّ، ولا تملكهم فكرة ودعوة، ولا تستحوذ عليهم استحواذا يتناسون فيه أنفسهم، ويجازفون فيه بحياتهم ولذّاتهم.
وكان العرب بمعزل عن أدواء المدنية والترف، التي يصعب علاجها، والتي تحول دون التحمس للعقيدة والتّفاني في سبيلها.
وكانوا أصحاب صدق وأمانة وشجاعة، ليس النّفاق والمؤامرة من طبيعتهم، وكانوا مغاوير حرب «2» ، وأحلاس خيل «3» ، وأصحاب جلادة وتقشّف في الحياة، وكانت الفروسية هي الخلق البارز الذي لا بدّ أن تتصف به أمة تضطلع بعمل جليل، لأنّ العصر كان عصر الحروب والمغامرات، والفتوّة والبطولة.
وكانت قواهم العملية والفكرية، ومواهبهم الفطرية، مذخورة فيهم، لم تستهلك في فلسفات خيالية، وجدال عقيم «بيزنطيّ» ومذاهب كلامية دقيقة، وحروب إقليمية سياسية، فكانت أمّة بكرا، دافقة بالحياة والنشاط، والعزم والحماس.
وكانوا أمّة نشأت على الهيام بالحريّة والمساواة، وحبّ الطبيعة، والسّذاجة، لم تخضع لحكومة أجنبية، ولم تألف الرقّ والعبودية، واستعباد الإنسان للإنسان، ولم تتمرّس الغطرسة الملوكيّة الإيرانية أو الرّومانية،
(1) الكامل: لابن الأثير، ج 4، ص 46.
(2)
[أي المقاتلون الكثير والغارات على الأعداء] .
(3)
[أحلاس الخيل، أي: ملازمون لظهورها أو رياضتها] .
واحتقارها للإنسان والإنسانية، فكان الملوك في إيران- المملكة المجاورة للجزيرة- فوق مستوى الإنسان والإنسانيّة، فكان الملك إذا احتجم، أو فصد له، أو تناول دواء، كان ينادى في النّاس ألا يمارس إنسان من رجال البلاط، أو سكّان العاصمة عملا، ويكفّوا عن كلّ صناعة أو ممارسة لنشاط «1» ، وإذا عطس فلا يسوغ لأحد من رعاياه أن يدعو له، وإذا دعا أن يؤمن عليه، لأنّه فوق مستوى البشر، وإذا زار أحدا من وزرائه أو أمرائه في بيته كان يوما مشهودا خالدا يؤرّخ به في رسائله ويصبح تقويما جديدا، ويعفى من الضريبة إلى مدة معينة، ويتمتع باستثناءات أو مسامحات وتكريمات، لأنّ الملك شرّفه بالزيارة «2» .
هذا فضلا عن الآداب الكثيرة التي يتقيّد بها رجال البلاط، وأركان الدولة، وأفراد الشعب، ويحافظون عليها محافظة دقيقة، من الوقوف بحضرته، والتكفير له «3» ، وقيام كقيام العباد أمام الرّبّ في الصّلوات، وهو تصوير حال كانت عليه إيران السّاسانية في عهد أفضل ملوكها بالإطلاق، وهو كسرى الأول المعروف بأنوشيروان العادل (531- 579 م) فكيف في عهد الملوك الذين اشتهروا في التاريخ بالظلم والعسف والجبروت؟
وقد كانت حرّيّة إبداء الرّأي والملاحظة- فضلا عن النقد- مفقودة تقريبا
(1) إيران في عهد الساسانيين: ص 535- 536.
(2)
المصدر نفسه: ص 543.
(3)
كفر له: خضع بأن يضع يده على صدره ويطأطىء رأسه ويتطامن تعظيما، وكانت عادة متبعة في إيران. ومن هنا شاع هذا التعبير؛ ودخل في لغة العرب؛ جاء في «لسان العرب» والكفر تعظيم الفارسي لملكه والتكفير لأهل الكتاب أن يطأطىء أحدهم رأسه لصاحبه كالتسليم عندنا، وقال في شرح شطر بيت لجرير: فضعوا السلاح وكفروا التكفيرا؛ كما يكفر العلج للدهقان يضع يده على صدره ويتطامن له ( «لسان» ج 7، ص 466 مادة كفر) .
في المملكة الإيرانيّة الواسعة، وقد حكى الطّبريّ حكاية طريفة عن عهد أفضل ملوكها وأعدلهم «كسرى أنوشيروان العادل» تدلّ كلّ الدلالة على مدى ما وصل إليه الحكم الإيرانيّ من الاستبداد والحظر على إبداء الرأي الجريء والتعليق الجريء في البلاط الإيرانيّ، فيقول:
«أمر الملك قبّاذ بن فيروز في آخر ملكه بمسح الأرض سهلها وجبلها، ليضع الخراج عليها، فمسحت، غير أنّ قباذ هلك قبل أن يستحكم له أمر تلك المساحة، حتّى إذا ملك ابنه كسرى أمر باستتمامها وإحصاء النّخل والزيتون والجماجم «1» ، ثمّ أمر كتّابه فاستخرجوا جعل ذلك، وأذن للناس إذنا عاما، وأمر كاتب خراجه أن يقرأ عليه الجمل التي استخرجت من أصناف غلّات الأرض وعدد النّخيل والزيتون والجماجم، فقرأ ذلك عليهم، ثمّ قال لهم كسرى: إنّا قد رأينا أن نضع على ما أحصي من جريان هذه المساحة من النخل والزيتون والجماجم وضائع، ونأمر بإنجامها «2» في السنة في ثلاثة أنجم، ونجمع في بيوت أموالنا من الأموال ما لو أتانا من ثغر من ثغورنا أو طرف من أطرافنا فتق أو شيء نكرهه واحتجنا إلى تداركه أو حسمه، ببذلنا فيه مالا كانت الأموال عندنا معدة موجودة، ولم نرد استئناف اجتبائها على تلك الحال، فما ترون فيما رأينا من ذلك، وأجمعنا عليه؟
فلم يشر عليه أحد منهم فيه بمشورة ولم ينبس بكلمة، فكرّر كسرى هذا القول عليهم ثلاث مرات.
فقام رجل من عرضهم وقال لكسرى: أتضع أيّها الملك- عمّرك الله- الخالد من هذا الخراج على الفاني من كرم يموت، وزرع يهيج، ونهر
(1)[الجماجم، مفردها جمجم: الآبار، أو الفلّاحون] .
(2)
[نجّم عليه دينه: أي؛ قسطه أقساطا] .
يغور، وعين أو قناة ينقطع ماؤها؟
فقال له كسرى: يا ذا الكلفة المشؤوم! من أيّ طبقات النّاس أنت؟
قال: أنا رجل من الكتّاب.
فقال كسرى: اضربوه بالدّويّ «1» حتّى يموت، فضربه بها الكتّاب خاصة تبرّؤا منهم إلى كسرى من رأيه وما جاء منه، حتى قتلوه، وقال الناس: نحن راضون أيها الملك بما أنت ملزمنا من خراج» «2» .
ولم يكن الرّومان يختلفون عن الإيرانيّين كثيرا، وإن لم يبلغوا شأوهم في الوقاحة وامتهان الإنسانية وإهدار كرامتها، فقد روى المؤرّخ الأوربيّ) Victor Chopart (في كتابه «العالم الرومانيّ» ما ترجمته:
ولم يكن السّجود للملوك نادرا، فقد حكى أبو سفيان بن حرب في القصّة التي رواها عن هرقل قيصر الرّوم حين بلغه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوه فيه إلى الإسلام، وقد جاء في آخر هذه القصّة:
(1) الدواة، جمعها: دوى ودويّ ودويّ (اللسان: دوا) .
(2)
تاريخ الطبري: ج 2، ص 121- 122، وروى القصة بطولها مؤلّف كتاب «إيران في عهد الساسانيين» نقلا عن الطبري.
The Roman World) London ،8291 (p. 814. (3)
أمّا الهند فقد بلغ فيها إهدار كرامة الإنسان، وازدراء الطبقات التي اعتبرها الشعب الآريّ المحتلّ للبلاد، والقانون المدنيّ الذي وضعه مشرّعوه، مخلوقا خسيسا لا يتميّز عن الحيوان الدّاجن إلا بأنّه يمشي على اثنين، ويحمل صورة الآدميّ، وإنّ كانوا سكّان البلاد الأصليّين، مبلغا يصعب تصوّره، فقد نصّ هذا القانون على أنّه:«إذا مدّ أحد من المنبوذين إلى برهميّ يدا أو عصا، ليبطش به، قطعت يده، وإذا رفسه في غضب فدعت رجله «2» وإذا ادّعى أنّه يعلمه سقي زيتا فائرا «3» ، وكفّارة قتل الكلب، والقطّة، والضّفدع، والوزغ، والغراب، والبومة، ورجل من الطبقة المنبوذة سواء» «4» .
إذا قورن ذلك بما اعتاده العرب من الحريّة، وعزّة النفس، والاقتصاد في التعظيم والأدب قبل ظهور الإسلام، ظهر فرق هائل بين طبيعة الأمّتين، ووضع المجتمعين: العجميّ والعربيّ، فكانوا يخاطبون ملوكهم بقولهم:
(1) [أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب كيف كان بدء الوحي
…
برقم (7) ، ومسلم في كتاب الجهاد والسّير، باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل
…
برقم (1773) ، والترمذي في أبواب الاستئذان، برقم (2717) ، وأبو داود في كتاب الأدب، باب كيف يكتب إلى الذمي، برقم (5136)، وأحمد:(1/ 263)، والبيهقي في السنن:(9/ 177) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما] .
(2)
منو شاستر: الباب العاشر.
(3)
المصدر السابق.
.R.C.Dutt ،Ancient India ،p. 423 -343 (4)
«أبيت اللّعن» و «عم صباحا» وقد بلغت هذه الحريّة والتماسك والاحتفاظ بالكرامة بالعرب إلى حدّ كانوا يمتنعون في بعض الأحيان عن الخضوع لمطالب بعض ملوك العرب وأمرائهم، ومما يستطرف في ذلك أنّ أحد ملوك العرب طلب من رجل من بني تميم في الجاهلية فرسا له، يقال له «سكاب» فمنعه إياها، وقال أبياتا أوّلها:[من الوافر]
أبيت اللّعن إنّ سكاب «1» علق «2»
…
نفيس لا تعار ولا تباع
مفدّاة مكرّمة علينا
…
يجاع لها العيال ولا تجاع
سليلة سابقين تناجلاها
…
إذ نسبا يضمّهما الكراع «3»
فلا تطمع- أبيت اللعن- فيها
…
فمنعكها بشيء يستطاع «4»
وقد سرت هذه الحريّة، والاعتداد بالنفس، والأنفة من التذلّل، إلى جميع طبقات الشعب، وعمّت الذكور والإناث، يدلّ على ذلك ما ذكره المؤرّخون العرب عن سبب قتل عمرو بن كلثوم الفارس المشهور والشاعر الفحل، لعمرو بن هند ملك الحيرة، فقد ذكروا أن عمرو بن هند ملك الحيرة أرسل إلى عمرو بن كلثوم يستزيره ويسأله أن يزير أمّه، فأقبل عمرو من الجزيرة إلى الحيرة في جماعة من بني تغلب، وأقبلت ليلى بنت مهلهل في ظعن من بني تغلب، وأمر عمرو بن هند برواقه فضرب فيما بين الحيرة والفرات، ودخل عليه عمرو بن كلثوم في رواقه، ودخلت ليلى وهند في قبة من جانب الرّواق، وقد كان عمرو بن هند أمر أمّه أن تنحي الخدم إذا دعا
(1)[سكاب: اسم فرس، مأخوذ من سكبت الماء إذا صببته، كأنّها تسكب الجري، فسمّاه من فعلها] .
(2)
[العلق: هو نفيس المال الذي إذا علقته الكفّ ضنّت به لنفاسته] .
(3)
[الكراع: اسم يجمع الخيل والسلاح] .
(4)
ديوان الحماسة (باب الحماسة) : ص 67- 68.
بالظرف، وتستخدم ليلى، فدعا عمرو بمائدة، ثمّ دعا بالظرف فقالت هند:
«ناوليني يا ليلى ذلك الطبق!» فقالت ليلى: «لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها» فأعادت عليها وألحّت، فصاحت ليلى:«واذلّاه يا لتغلب» فسمعها عمرو بن كلثوم، فثار الدم في وجهه، ووثب إلى سيف لعمرو بن هند معلّق بالرواق، فضرب به رأس عمرو بن هند، وانتهب بنو تغلب ما في الرواق وساروا نحو الجزيرة «1» ، وقال في ذلك عمرو بن كلثوم قصيدته المشهورة التي عدّت من المعلّقات السبع «2» .
ولمّا دخل المغيرة بن شعبة رسول المسلمين على رستم، وهو في أبهته وسلطانه، جلس معه- على عادة العرب- على سريره ووسادته، فوثبوا عليه، وأنزلوه ومغثوه «3» ، فقال: كانت تبلغنا عنكم الأحلام، ولا أرى قوما أسفه منكم، إنّا معشر العرب سواء لا يستعبد بعضنا بعضا، إلا أن يكون محاربا لصاحبه، فظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسى، وكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض، وأنّ هذا الأمر لا يستقيم فيكم فلا نصنعه، ولم آتكم، ولكن دعوتموني» «4» .
وفي جزيرة العرب، وفي مكّة كانت الكعبة، التي بناها إبراهيم وإسماعيل- عليهما السلام ليعبد الله فيها وحده، ولتكون مصدر الدعوة للتوحيد إلى آخر الأبد.
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ «5» [آل عمران: 96]
(1) الجزيرة: تسمى جزيرة آقور، وهي تقع بين دجلة والفرات، وفيها ديار بكر وتغلب.
(2)
مقتبس من كتاب «الشعر والشعراء» لابن قتيبة، ص 36.
(3)
المغث: الضرب الخفيف (القاموس واللسان: مغث) .
(4)
الطبري ج 4، ص 108.
(5)
«بكة» : علم للبلد الحرام، ومكة وبكة لغتان فيه، وكثيرا ما يقع التبادل بين الميم والباء-
وقد بقيت كلمة وادي «بكّة» في التوراة على ما دخل فيها من التحريف والتغيير، إلّا أنّ المترجمين حوّلوها إلى «وادي البكّاء» وجعلوها اسم نكرة بدل علم، وقد جاء في مزامير داود ما نصّه:
«طوبى لأناس عزّهم بك، طرق بيتك في قلوبهم، عابرين في وادي البكاء يصيرونه ينبوعا» (مزامير «1» 84- 5- 6- 7) .
وقد انتبه علماء اليهود بعد قرون إلى أنّ هذه الترجمة كانت خاطئة، فقد جاء في دائرة المعارف اليهوديّة اعتراف بأنّه واد مخصوص لا ماء فيه، وأنّ في ذهن من صدرت عنه هذه العبارات صورة لواد له أوضاع طبيعية عبّر عنها بهذه الكلمة «2» .
وقد كان ناقلو هذه الصّحف إلى الإنجليزيّة أكثر أمانة ودقة في الترجمة من الذين قاموا بالترجمة العربيّة، فقد تركوا كلمة «بكّة» كما كانت في الأصل، وكتبوها بالحرف الاستهلالي، كما تكتب الأعلام، ففي الترجمة الإنجليزيّة كما يلي «3» :
Blessed is the man whose strength is in the Thee; In Whose heart are the ways of them who passing thorough the Valley of) Baca (make it well.) psalms
.) 6 -5 -89 وكانت بعثته صلى الله عليه وسلم استجابة لدعاء إبراهيم وإسماعيل عند رفعهما لقواعد الكعبة، وكان دعاؤهما كما نقله القرآن:
- في اللغة العربية، كلازم ولازب؛ ونميط ونبيط.
(1)
الكتاب المقدس في مطبعتها في ساحة استور من مدينة نيويورك؛ لندن 1804 م.
Jewish Encyclopedia ،Y. 11 p. 514. (2)
(3)
مستفاد من «التفسير الماجدي» [بالأردوية] للأستاذ الكبير عبد الماجد الدريابادي، وكتاب «رحمة للعالمين» ج 1، للقاضي سليمان المنصور فوري.
رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة: 129] .
وقد جرت سنّة الله باستجابة أدعية المخلصين المبتهلين- فضلا عن الأنبياء والمرسلين- والصحف السماوية والأخبار الصادقة مشحونة بأمثلتها، وقد جاء في التوراة نصّ يدل على استجابة هذا الدعاء الذي دعا به إبراهيم، فقد جاء في سفر التكوين ما لفظه:
«وعلى إسماعيل استجبت لك هو ذا أباركه وأكبّره وأكثّره جدا، فسيلد اثني عشر رئيسا وأجعله لشعب كبير» .
ولذك صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه كان يقول عن نفسه: «أنا دعوة إبراهيم وبشرى عيسى» «1» .
وفي التوراة- على ما أصابها من التحريف- شواهد على أنّ هذا الدعاء قد استجيب، فقد جاء في كتاب التثنية (18- 15) على لسان نبيّ الله موسى، ما نصه:
«يقيم لك الربّ إلهك نبيا من وسطك من إخوتك مثلي، له تسمعون» .
وقد دلّت كلمة «إخوتك» على أنّ المراد بها هم بنو إسماعيل، الذين هم أبناء عمومة بني إسرائيل، وقد جاء ما يؤيّد هذا بعد آيتين (18- 17) من نفس الصحيفة، وهو كما يلي:
«قال لي الربّ: قد أحسنوا فيما تكلّموا، أقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه، فيكلّمهم بكلّ ما أوصيه به» ، (سفر التثنية 17- 18) .
(1)[أخرجه أحمد (5/ 262) ، والطبراني في الكبير برقم (7729) ، والبيهقي في «الدلائل» (1/ 84) ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 222) : وإسناد أحمد حسن] .
وكلمة «أجعل كلامي في فمه» يعني محمّدا صلى الله عليه وسلم فهو النبيّ الوحيد الذي بكلام الله نصّا وفصّا، وأعلن الله عن ذلك بقوله: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى [النجم: 3- 4]، وبقوله: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت: 42] .
أمّا صحف أنبياء بني إسرائيل، فهي لا تدّعي أنّها من كلام الله لفظا ومعنى، ولا يتحرّج علماء هذه الطوائف من إضافة تأليفها إلى الأنبياء، فقد جاء في دائرة المعارف اليهودية ما يلي:
وأمّا الأناجيل الأربعة التي تسمّى «العهد الجديد» فهي أبعد من أن تكون كلاما إلهيا لفظا ومعنى، يقتنع بذلك كلّ من أجال النظر فيها وتصفّحها، وفي الحقيقة هي بكتب السيرة والأخبار أشبه منها بالكتب المنزّلة من الله، المبنيّة على الوحي والإلهام «2» .
ثمّ إنّ موقع الجزيرة العربيّة الجغرافيّ، يجعلها جديرة بأن تكون مركزا لدعوة تعمّ العالم، وتخاطب الأمم «3» ، فهي مع كونها جزءا من قارّة آسيا تقع
Jewish Encyclopedia Vol. ،9 p. 985. (1)
(2)
راجع للتفصيل كتاب المؤلف «النبوة والأنبياء في ضوء القرآن» فصل «الصحف السماوية السابقة والقرآن في ميزان العلم والتاريخ» ؛ ص 198- 213 الطبعة الرابعة، و «محاضرات إسلامية في الفكر والدعوة» ج: 3، ص:119.
(3)
أعلن الدكتور حسين كمال الدين رئيس قم الهندسة المدنية بكلية الهندسة بجامعة الرياض، -