الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إنّ التاريخ يدلّنا على أنّ الفكر الإنسانيّ أصيب في كثير من الأحيان بنوبات عصبيّة دفعته إلى التدمير والإبادة، بدلا من التعمير والبناء، فقد رأينا مستغربين مأخوذين بالحيرة والدهشة، ورأينا بأمّ أعيننا، ونحن لا نكاد نصدّق هذا الواقع لهول المنظر وبشاعة الوضع، أنّ الإنسان قام يهدم أساسه بكلّ قوّة وحماس، ذلك الأساس الذي قام عليه صرحه الحضاريّ والفكريّ العظيم، وظلّ مشتغلا بهذه العمليّة المجنونة بكلّ شوق ورغبة، كأنّها عملية بنّاءة ومأثرة إنسانية رائعة، وخدمة ممتازة، وصار يلحّ على الوقوع في خندق الموت، وقد تملّكته السامة من الحياة، واستبدّ به الشوق إلى الهلاك، كأنّ الحياة عذاب وجحيم، والهلاك جنة ونعيم.
5- تصوير العصر الجاهلي وتهيؤه للانهيار والانتحار:
ذلك هو الوضع الذي ساد على العالم في القرن السادس المسيحيّ، فإننا نجد هناك استعدادات عامة للانتحار الاجتماعيّ العام، لم يكن النوع البشريّ في ذلك الزمان راضيا بالانتحار فحسب، بل كان يتساقط عليه، ويتهالك فيه، كأنّه نذر به وحلف، فيريد أن يفي بنذره ولا يحنث في قسمه، ولقد صوّر القرآن العظيم هذا المنظر وهذا الوضع تصويرا دقيقا، لا يصوّره أيّ رسّام أو أديب، أو روائيّ أو مؤرّخ:
وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها [آل عمران: 103] .
رحم الله المؤرّخين، فإنّهم لم يصوّروا الجاهلية حين سردوا لنا وقائع البعثة المحمديّة تصويرا دقيقا، وهم معذورون ومأجورون، مثابون ومشكورون، فإنّ ذخيرة الأدب واللغة لا تسعفهم كلّ الإسعاف، الحقيقة أنّ هذا الوضع في قمّة من الهيبة والفظاعة، وفي منتهى الدّقة والتعقيد، لا يمكن
وصفه بريشة قلم، والتعبير عنه بأيّ قدرة بيانيّة، وصلاحيّة لغوية.
هل كان العصر الجاهليّ- الذي بعث فيه محمد صلى الله عليه وسلم قضية انحطاط اجتماعيّ أو خلقيّ، هل إنّه كان قضية وثنيّة مجردة، أو قضيّة خمر وقمار، وعبث واستهتار، أو ظلم واستبداد، قضية قوانين اقتصادية جائرة، وتعسف الحكام الغاشمين، هل إنّه كان قضية وأد البنات، كلّا، إنّه كان قضية وأد الإنسانية كلّها.
لقد انتهى هذا الدور، وانقرض هذا الجيل، وغاب هذا التصوير البشع عن أعين الناس، فكيف نعيده ونمثّله، ونجعله حسّيا شاخصا تراه الأبصار، وتلمسه البنان، وجلّ ما نستطيع أن نقول: إنّه عصر جاهليّ لا يفهمه حقّ الفهم إلّا من عاش فيه واكتوى بناره، ولو كان لمصوّر يحاول التصوير يمكن أن يمثّل البشرية في صورة إنسان في غاية الجمال والصّحة، والأناقة وحسن الهندام، الإنسان الذي هو نموذج بديع فريد لصنع الله الذي أتقن كلّ شيء، والذي هو محسود الملائكة، وغاية الخلق، الذي كلّله الله بتاج خلافته، فصار زينة الوجود، ولبّ لباب الحقيقة والعرفان، وبه تحوّلت هذه الأرض الخراب اليباب إلى روضة غنّاء، وحديقة فيحاء، ثمّ يصوّر هذا الإنسان يريد أن يقفز في خندق عظيم هائل ترتفع منه ألسنة اللهب، وقد تحفّز واستجمع قواه، وجمع ثيابه، ورفع رجله في الفضاء فعلا، وكاد يقع فيه، وما هي إلا دقائق وثوان حتّى يغيب في هذا الظلام المهيب، ظلام الموت، فلعلّ هذا التصوير يصوّر بعض الجانب من العصر الجاهليّ عند بعثة النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد أشار القرآن إلى هذه الحقيقة، فقال في إيجاز وفي إعجاز: وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها [آل عمران: 103] ، وذلك ما شرحه لسان النبوّة بمثال رائع بليغ، فقال عليه الصلاة والسلام:
«مثلي كمثل رجل استوقد نارا، فلمّا أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدوابّ التي تقع في النّار يقعن فيها، وجعل يحجزهنّ ويغلبنه، فيقتحمن فيها، فذلك مثلي ومثلكم أنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تقتحمون فيها» ، وقال في آخرها:«فذلك مثلي ومثلكم، أنا آخذ بحجزكم عن النار هلمّ عن النار، هلمّ عن النار، فتغلبوني وتقتحمون فيها» «1» .
لقد كانت القضيّة الكبرى في هذه القصّة كلّها أن تصل سفينة الإنسانيّة بسلامة الله وفي حفظه ورعايته إلى شاطىء النجاة، لأنّه حين يستوي الإنسان ويعتدل طبعه، وتتحلّى الحياة بالاقتصاد والاتزان، تنفعه- إذا- كلّ هذه المشروعات البنائيّة والإنمائيّة، أو الأدبيّة والعلميّة التي أوتي مواهبها كثير من أصدقاء الإنسانية وأنصارها. ومن هنالك، فإنّ الإنسانية كلّها مدينة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام- لأنّهم أنقذوها من تلك الأخطار المحدقة التي سلّطت على رأسها كالسّيف المصلت، ولا يتحرر من منّتهم وفضلهم مشروع علميّ، ولا تخطيط اجتماعيّ، ولا مدرسة فكريّة، أو فلسفيّة.
كما أنّ العالم المعاصر مدين لهم في هذا البقاء والاستمرار، وجدارة الحياة؛ لأنّ الإنسان اعترف- أحيانا كثيرة- بلسان حاله، إن لم يقل بلسان مقاله، أنّه فقد حقّ البقاء في هذه الأرض، وأنّه لا يحمل الآن أيّ رحمة وبركة، وفيض وإفادة، ودعوة رسالة للإنسانية، إنّه رفع الدعوى في المحكمة الإلهيّة ضدّ نفسه، وشهد عليها، لقد كانت ملفّاته مهيأة للحكم
(1) متفق عليه [أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب الانتهاء عن المعاصي، برقم (6483) ، ومسلم في كتاب الفضائل، باب شفقته صلى الله عليه وسلم على أمّته
…
، برقم (2284) ، والترمذي في أبواب الأدب، باب ما جاء في مثل ابن آدم وأجله وماله، برقم (2874) ] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
العادل الأخير، وقد نصّب الإنسان نفسه لأكبر عقوبة تتصوّر، بل لعقوبة الإعدام.
ولا عجب في ذلك، فحينما تتعدّى المدنية حدودها الطبيعية وتخرج من طورها، وتنسى القيم الخلقيّة كليّا، أو تكفر بها صراحة وعلنا، ويتغافل الإنسان عن كلّ غاية نبيلة، ومقصد شريف، وعن كل واقع وحقيقة غير الحقائق الماديّة، وتحقيق ماربه الجسديّة، وإرواء ظمئه الحيوانيّ، وحينما يحلّ محلّ القلب الإنسانيّ قلب الذئب والنمر والفهد، وتتكوّن في جسمه معدة خياليّة أو صناعية، ونفس أمّارة بالسوء، لا يقرّ لها قرار، ولا يضبطها وازع أو رادع، وحينما تصيب الإنسانيّة نوبة شديدة من الجنون، يبعث الله لها جماعة من الجرّاحين، أو عصابة من السفاحين، وتأتي لأورامها المنتفخة سكاكين من ظهر الغيب تقضي عليها، وتقطع دابرها، وتستأصل شأفتها.
إنّ فساد المدنيّة وهوسها وجنونها أشدّ من جنون الملكيّة والحكم الشخصيّ، وأوسع منه شرا لأنّه حين يجنّ جنون شخص ضعيف نحيل واحد يقضّ مضاجع أهل الحارة كلّها، وينغّص عيشهم الهادىء. تصور ماذا يحدث في العالم، إذا جنّ جنون النوع البشريّ أجمع، وتنخّر هيكل المدنية وتعفّن، وفسدت طبيعة الإنسانيّة؟ هل له من رقية أو علاج؟
إلّا أنّه لم تفسد المدنيّة فحسب في العصر الجاهليّ، بل تفسّخت جثتها، وتعفّنت، ونشأت فيها ديدان قذرة، وأصبح الإنسان يقتنص الإنسان ويصطاده، ويتلذذ بسكراته وشدائده عند الموت، ويتمتع بحالة الاحتضار، كما يتمتع أحدنا بمنظر البساتين والأشجار والورود والأزهار، ويطرب ويهتزّ لاضطرابه وتقلّبه على الحجر، ويفرح بأنين المصاب والمريض والمنكوب،
وصراخه وعويله، كما يفرح بالشراب الهنيء والطعام الشهيّ أو بالمنظر السارّ الجميل.
سرّح طرفك في تاريخ رومة التي تغنّت أوربة- وما تزال- بفتوحها وبطولاتها، وأمجادها وتشريعها وحضارتها، تجد نموذجا حيّا للقسوة البشريّة التي بلغت قمّتها في هذا العصر، يقول «ليكي» في كتابه «تاريخ أخلاق أوربة» يصوّر جانبا من همجيّة الإنسان وضراوته، ووحشيّته النادرة، يقول:
لقد كانت قصّة الجاهلية الأولى أنّ حجرها الأساسيّ حاد عن موضعه، بل تحطّم وتهشّم ولم يبق أمل في إصلاحه، ووضعه في محلّه الصحيح، ووقف الإنسان أمام المحكمة الإلهيّة ينتظر الحكم النهائي الأخير في مصيره، هنالك بعث محمد صلى الله عليه وسلم ونادى صوت السماء: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 107] .
(1) راجع «تاريخ أخلاق أوربة» للمؤلف الإنجليزي ليكي، ج 1، ص 230.